لم يهبط سيلُ الاعترافات بالدولة الفلسطينية من فراغ، ولم يكن «انفعالًا أخلاقيًا» بلا بنية سياسية، ما جرى ويجري، هو ثمرة هندسة دبلوماسية عملت عليها القاهرة طويلًا: تثبيت قواعد الوساطة على الأرض، ونسج ائتلافات قانونية وسياسية فى العواصم المؤثرة، وخلقُ «نافذة شرعية» تُتيح للدول أن تُحوِّل تعاطفها إلى قرارات لذلك يصحّ العنوان - من باب التحليل لا المبالغة: لولا مصر، بهذا المزج النادر بين احتراف التمثيل الدبلوماسى وواقعية إدارة الأزمات، لما تسارع مسار الاعتراف إلى الصورة التى نراها اليوم. من أين نبدأ؟ من «البنية العملية الواقعية» التى بنتها القاهرة حول الحرب على غزة: مفاوضات وهدن وتبادل أسرى ومحاولات لوقف النار هنا لم تكن مصر مجرد مضيفٍ محايد؛ كانت «صاحبة العملية» التى تُمسك بخيوط معقّدة بين إسرائيل وحماس والوسطاء ويكفى أن نُذكِّر بأن صيغ وقف النار وتبادل الأسرى وُضعت مسودّاتها النهائية عبر قناة القاهرة«الدوحة»واشنطن، وأن «المركز» الذى أنشأه المفاوضون لمتابعة تطبيق الهدنة اتُّخذ من القاهرة مقرًا، بما يعطى الوساطة جسدًا مؤسسيًا لا مجرد لقاءاتٍ متناثرة هذا «التجسيد» هو ما حوّل الوساطة من خبر عاجل إلى مسار تفاوض له ذاكرة ومصداقية. ثم هناك العقيدة الثابتة: رفضٌ قاطعٌ ودائم لأى مشروع تهجير هذا الثبات- منذ الأسابيع الأولى للحرب- لم يكن شعارًا للاستهلاك الداخلي، بل «خطًا أحمر» حوّل مصرَ فى نظر الأوروبيين إلى شريك عاقل يوازن بين إنقاذ المدنيين وحماية الاستقرار الإقليمي. إنكار القاهرة لأى دور فى سيناريوهات النزوح، ورفضها الرسمى المتكرر لفكرة النقل القسري، أعطى للدبلوماسية المصرية «تفويضًا أخلاقيًا» وهى تخاطب العالم: لسنا طرفًا فى لعبة تغيير الجغرافيا البشرية؛ نحن نصرّ على حلٍّ سياسى يحفظ الدولة الفلسطينية على حدود 1967. على هذا الأساس القيمى - العملى بنت مصرُ «جسر السياسة» إلى أوروبا فحين قررت إسبانيا وأيرلندا والنرويج (مايو/أيار 2024) الاعتراف بالدولة الفلسطينية رسميًا، وحين لحقت سلوفينيا بالمسار (يونيو/حزيران 2024)، لم تكن تلك القرارات معلّقة فى الهواء؛ كانت تتحرك داخل مناخٍ صنعته وساطات القاهرة ومرافعتها السياسية: وقف النار، حماية المدنيين، ومن ثمّ تثبيت المسار السياسى عبر الاعتراف هذه موجة أولى واضحة الملامح، وموثقة بقرارات حكومية وبرلمانية منشورة. لكن قيمة اللحظة ليست فى «من اعترف» فقط، بل فى إطار الحركة الدولية الذى تمدد بعدها فقد رفعت الجمعية العامة للأمم المتحدة من حقوق فلسطين كدولة مراقب (مايو/أيار 2024) ثم عادت، فى سبتمبر/أيلول 2025، فتبنّت بأغلبية كاسحة إعلانًا يؤكد حلّ الدولتين ويمهّد- سياسيًا- لخطوات اعتراف إضافية فى عواصم غربية كانت مترددة تاريخيًا مصر كانت- وتبقى- الفاعل العربى الأكثر قدرة على نقل هذا «التوازن الأخلاقي- القانوني» إلى قاعة الأممالمتحدة باعتبارها ساحة الشرعية الدولية. ولأن الاعتراف ليس قرارًا سياسيًا وحسب، بل بنية قانونية ومعيارية، فقد رأت مدريد- المعنية تاريخيًا ومتصلبة أخلاقيًا فى هذا الملف- أن تُحوِّل موقفها إلى فعل قضائي: أمرٌ من النائب العام الإسبانى بتشكيل فريقٍ للتحقيق فى انتهاكات غزة بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. هذه نقلة من «لغة التضامن» إلى «هندسة الأدلة»، ومن شأنها أن تُراكم كلفةً قانونية على قادة الحرب الإسرائيليين. بتعبير آخر: أوروبا القانونية تلتحق بأوروبا السياسية- وهنا تتبدّى بصمة القاهرة مرة أخرى عبر التزامها الصارم بالمسارات الأممية والقانون الدولى فى خطابها وممارسة وساطتها. ليس مصادفة أن تتزامن هذه الخطوات مع تنامى التحالفات العملية المرتبطة بإنقاذ مؤسسات الحكم الفلسطينية: إعلان النرويج، بوصفها راعى لجنة المانحين (AHLC)، عن ائتلاف طارئ لتمويل السلطة، بمشاركة دول بينها السعودية وإسبانيا وبريطانيا واليابان وفرنسا، التمويل هنا ليس رشّ ماءٍ على نار، بل تثبيتٌ لبنية الدولة الفلسطينية كى لا تنهار بينما تُبنى فوقها قرارات الاعتراف القاهرة، التى تفضّل دائمًا العمل «من داخل المؤسسات» لا من خارجها، تجد فى هذا المسار الأوروبى - الدولى سندًا لنهجها الواقعي. ومن زاوية «العدوى السياسية» توسّعت خريطة الاعتراف بوتيرة ملحوظة فى 2025: خرائط الصحافة المرجعية تُظهر تجاوز عدد الدول المعترِفة 156 - 157 دولة (أكثر من ثلاثة أرباع أعضاء الأممالمتحدة). هذه ليست مجرد أرقام، بل كتلة حرجة تغيّر ميزان الشرعية الدولية وحين تتعاقب خطواتٌ أوروبية- من الاعتراف إلى التضييق القانوني- فإن القاهرة تجد «شركاءَ جادين» يساندون خطابها: لا تهجير، لا حرب بلا أفق، نعم لاعترافٍ يفتح باب السياسة. وإذا كان الاعتراف «لغةً أخلاقية»، فإن القيمة الدبلوماسية المضافة لمصر أنها حولته «لغة مصالح» أيضًا: أوروبا تحتاج وسيطًا قادرًا على تصنيع التهدئة على الأرض؛ ومصر تملك مفاتيح المعابر والإغاثة ومسالك التفاوض أوروبا تحتاج مرجعية عربية لا تُغامر بالاستقرار الإقليمي؛ ومصر خاطبت مبكرًا هواجس التهجير وفوضى ما بعد الحرب أوروبا تبحث عن «عنوان عربي» تبنى معه حزمة اعتراف «مساءلة» تمويل؛ ومصر مهيأة أكثر من سواها لتجسير هذه الحزمة، من قاعة الأممالمتحدة إلى غرفة العمليات فى القاهرة بهذا المعنى، الدبلوماسية المصرية لم تكتفِ ب«تسويق» القضية؛ بل أعادت ترتيب محيطها العملى بحيث يصبح الاعتراف نتيجةً منطقيةً لمسارٍ قابلٍ للتطبيق، لا شعارًا يتيمًا. قد يعترض قائل: «وماذا عن دور دول أخرى؟» بالطبع، الملف الفلسطينى عبر تاريخه الطويل حَمَلَ أختامًا عربية ودولية شتى؛ لكن ميزة القاهرة أنها جمعت «القدرة على الوساطة» و«الوزن الإقليمي» و«الموثوقية المؤسسية»، ثم أضافت إليهم «لغة قانونية» تتسع للأوروبيين لذلك رأينا- على التوازي- نشاطًا سياسيًا مكثفًا من مدريد (حتى على مستوى الملك فى خطابه الأممي) ورسوخًا فى خطوط القاهرة الحُمر، من رفض التهجير إلى الدفاع عن حل الدولتين؛ هذا التوازى صاغ «إيقاعًا» دفع دولًا مترددة إلى مقاعد الاعتراف أو إلى عتبة ما قبله. فى الجوهر، الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس نهاية الطريق- ولا مصر تزعم ذلك- لكن القاهرة جعلته «بداية ممكنة» لمسارٍ واقعي: وقف نارٍ يتنفس، سلطةٌ لا تنهار ماليًا، ممرات إغاثةٍ لا تُقفل، وإطار قانونى دولى يعيد تعريف سلوك الدولة المحتلة حين تتزاحم هذه العناصر، لا تعود كلفة الاعتراف سياسيةً صِرفًا على العواصمالغربية؛ تصبح «كلفة عدم الاعتراف» أعلى: تعميق حرب بلا أفق، وانهيار شركاء محليين، وتعرية النظام الدولى من أدواته هنا تحديدًا تُرى بصمة مصر: تفكيك معادلة الكلفة/ العائد على طاولة الآخرين، حتى يَغلِبَ الاعترافُ على التردد. لا نُغفل أن الطريق مليءٌ بالمطبات - فى مجلس الأمن، فى العواصم الكبرى، فى تعقيدات «اليوم التالي»-لكن ما تغيّر أن الاعتراف لم يعد «حلمًا رومانسيًا» بل أصبح معيارًا سياسيًا تُقاس به جديةُ أى خطة سلام.