في لحظة فارقة من التاريخ المعاصر، تتجه أنظار العالم نحو شرم الشيخ، حيث تخوض مصر معركتها الدبلوماسية الجديدة، لا بالسلاح، بل بالكلمة الموزونة والموقف الثابت، لتثبت مجددًا أن قاهرة التاريخ لا تعرف الحياد في قضايا العدل والسلام. في أروقة المفاوضات الممتدة لوقف إطلاق النار في غزة، يقف المفاوض المصري كامتداد لتاريخ طويل من الحنكة السياسية والمواقف الوطنية؛ من اتفاقيات فضّ النزاعات في السبعينيات، مرورًا بمؤتمرات السلام في التسعينيات، وصولاً إلى يومنا هذا الذي يعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط. فكما كانت مصر دائمًا صاحبة أول رصاصة في الحرب وأول كلمة في السلام، فهي اليوم تمسك بخيوط التهدئة، تجمع الأضداد على طاولة واحدة، وتحمي تلك الطاولة من الانهيار وسط عواصف الغضب والدم. في شرم الشيخ، يتجسد الإرث الدبلوماسي المصري بكل أبعاده؛ الدولة التي خبرت تقلبات الإقليم وتفاصيل أزماته، وأتقنت عبر عقود فن التفاوض على حافة الهاوية، عادت لتقود المشهد من موقع الريادة لا الوساطة، ومن منطلق القوة لا المصلحة. فمصر اليوم ليست مجرد «بوابة للسلام»، بل مركز الثقل الذي يحفظ توازن المنطقة بين الانفجار والانفراج. يقول دبلوماسيون غربيون مشاركون في الاجتماعات إن ما يميز القاهرة ليس فقط اتزان خطابها، بل قدرتها على صناعة مساحات مشتركة بين أطراف لا تلتقي حتى في تعريف الهدنة، وتلك هي المدرسة المصرية في التفاوض: الصرامة حين يلزم الحسم، والمرونة حين يتطلب الموقف الحكمة. وبينما تتنقل الوفود من عاصمة إلى أخرى بحثًا عن نقطة توافق، تبقى القاهرة هي الأرض الوحيدة التي تملك شرعية الحديث وشرعية الاستضافة؛ فهي التي تحمي ضيوفها، وتحمي رسالتها، وتحمي المنطقة من خطر الانفلات؛ وفي ذلك يقول أحد الخبراء الدوليين إن «ما تقوم به القاهرة اليوم هو استعادة لدور مصر التاريخي كصوت العقل في زمن الصخب، وكقلب العروبة حين تتنازعها المصالح». لقد أثبتت الأحداث أن المفاوض المصري لا يفاوض من موقع طرف، بل من موقع أمة، وأن دبلوماسية مصر لا تعرف الانفعال، بل تُبنى على تراكم الخبرة واليقين بأن الأمن الإقليمي لا يصنعه السلاح بل صُنّاع القرار الذين يملكون الشجاعة للتهدئة كما امتلكوا الشجاعة للمواجهة. وهكذا، من شرم الشيخ إلى غزة، ومن القاهرة إلى عواصم القرار العالمي، يتردد صدى واحد: أن مصر عادت، وربما لم تغب أصلاً؛ لتكتب بيدها فصول التوازن في الشرق الأوسط، ولتُثبت أن من يعرف طريق الحرب، يعرف أيضاً كيف يصنع السلام.