فى الوقت الذى تعلو فيه الضوضاء وتتزاحم التصريحات، تقف مصر ثابتة، ولا تستجيب للضغوط المعلنة أو الخفية، لأنها تعرف موقعها وتدرك مسئولياتها، وتزن الأمور بميزان من الحكمة والخبرة، لا العاطفة والانفعال. منذ السابع من أكتوبر الماضى، حين تفجرت الأوضاع فى قطاع غزة، أعلنت القاهرة موقفها بوضوح لا لبس فيه: لا شرعية للاحتلال، ولا تعامل مع أى وجود عسكرى إسرائيلى على الجانب الفلسطينى من معبر رفح، لم يكن ذلك تعنتاً، بل انحيازاً للمبادئ، واحتراماً للقانون الدولى. الشرعية لا تُمنح بالمخالفة، وأن تتعامل مصر مع قوات احتلال تسيطر على معبر رفح من الجانب الفلسطينى، فهذا يعنى ضمنيًا اعترافًا بشرعية مفقودة، والموقف المصرى ليس مسألة إجرائية، بل نهج أخلاقى وسياسى وقانونى متكامل، يفهمه فقط من يقرأ التاريخ ويفهم الجغرافيا. المساعدات تحت القصف ليست إنسانية، ولا توجد شاحنة واحدة قادرة على الدخول الآمن إلى غزة من معبر رفح بينما تدوى القذائف وتُحلق الطائرات وتُزرع الطرقات بالألغام والموت، والحديث عن المساعدات فى ظل الاحتلال هو أقرب إلى المتاجرة بالشعارات. التهدئة أولًا قبل كل شيء، ليست مصر من تبحث عن مسكنات مرحلية تُبقى الاحتلال، وموقفها واضح: وقف إطلاق نار شامل، تبادل آمن للرهائن والأسرى، ثم الدخول فى مفاوضات الحل النهائى، ولا لتدوير الأزمة خدمة لأجندات عابرة للحدود. وترفض مصر بقاء عسكرى إسرائيلى فى غزة بعد وقف إطلاق النار، وترى أن التعامل مع دولة ترتكب المجازر وتتنكر للتعهدات ليس من السياسة فى شيء، بل من العبث والخذلان، فالدولة التى لا تحترم معاهدة السلام، ولا تلتزم بقواعد القانون الدولى، لا تُمنح الغطاء السياسى عبر البوابات المصرية. الاحتلال هو المسئول، والقانون الدولى يُحمّل قوة الاحتلال المسئولية الكاملة عن حماية المدنيين وتوفير المساعدات، ومحاولاتها إحراج مصر، هو مجرد لعبة مكشوفة الهدف منها التملص من مسئولياتها وجرّ الآخرين إلى مربعها الدموى. لقد أدمنت إسرائيل سياسة التمويه والتضليل تارة بالحديث عن الرصيف البحرى، وأخرى عبر مبادرات منقوصة، وثالثة بالشركات المشبوهة التى فشلت فى توزيع المساعدات، وكل ذلك لم ولن يُثنى المفاوض المصرى عن موقفه. منذ أكثر من سبعة عقود، لم تتغيّر البوصلة المصرية، فلسطين فى القلب، وغزة فى حسابات الأمن القومى، وما يفعله المفاوض المصرى وسط طوفان الابتزاز والتشويه، ليس دفاعاً عن حدود، بل عن كرامة، وهوية وتاريخ ومستقبل. ليست المعركة فى المزايدات الإعلامية، بل فى الغرف المغلقة، وفى جولات التفاوض المرهقة، حيث يعمل المفاوض المصرى بصمت، مدججاً بالخبرة ومحصناً بالحكمة. الضغوط قاسية، والألاعيب متعددة الألوان، والمواقف تتبدل من عاصمة إلى أخرى، لكن مصر لا تنحنى للعواصف، ولا تتخلى عن مبادئها، وهذا هو موقف مصر منذ اليوم الأول، وضوح فى الرؤية، وثبات فى المبادئ، ووفاء لتاريخ يُكتب بالدم والمواقف.