البحث في أسرار الشخصية المصرية رحلة ثرية لا تنتهي، فهي نسيج متفرد من الحضارة والتاريخ والجغرافيا، تشكّل عبر آلاف السنين. شخصية راسخة الجذور، تجسدت في شعب متماسك يجمع بين العزة، والكرامة، والكرم، والإرادة، والثقة، والعبقرية، والعراقة، والتحدى، والعلم، وخفة الظل. شخصية شهد لها التاريخ بأنها قادرة على قهر المستحيل، صامدة أمام تقلبات الزمن، قادرة على أن تعيد اكتشاف ذاتها كلما واجهت المحن. من رحم هذه الروح الصلبة والإرادة الحديدية، وُلدت ملحمة انتصار السادس من أكتوبر عام 1973؛ لتكون أعظم برهان على عظمة الشخصية المصرية وصلابتها. شعب عصيّ على الانكسار، نهض بعد نكسة 1967؛ ليستعيد للأمة العربية كرامتها، حين حطمت قواتنا المسلحة برجالها البواسل، الأسطورة الزائفة للجيش الإسرائيلي، الذي لا يُقهر، وحوّلت خط بارليف الحصين إلى ركام. في تلك اللحظات التاريخية الفارقة برزت عبقرية الزعيم الراحل محمد أنور السادات، الذي امتلك شجاعة القرار، قرار عبور كل المستحيلات، قرار الحرب، وقرار السلام. لم تتوقف عبقرية الرئيس السادات عند ساحة الحرب، ونجح بدهائه في خداع العدو على جبهات مختلفة، بل امتدت حين قرأ المشهد الإقليمي والعالمي بعمق وجرأة، فاختار بكل شجاعة النضال من أجل السلام، وتجنيب المنطقة ويلات الحروب دون أن يتنازل عن حق أو كرامة، أو يفرّط في شبر واحد من تراب الوطن. لقد تفجرت خلال ملحمة أكتوبر العظيمة كل سمات الشخصية المصرية الأصيلة، وغيّرت مفاهيم وقواعد الحرب الحديثة. فقال القائد الإسرائيلي المهزوم "إبرهام أدان"، قائد الفرقة المدرعة 162 وقت الحرب: "تعلّمنا في معاهدنا العسكرية أن الدبابة تواجه دبابة، لكن المصريين فاجأونا في حرب أكتوبر، فوجدنا دباباتنا أمام (صائدي الدبابات)، وفشلت محاولاتنا في إيقافهم، وألحقوا بنا خسائر فادحة". ولم يغب كرم المصريين عن المشهد، ولم تسلّم قواتنا أسراها من قيادات وضباط وجنود القوات الإسرائيلية المهزومة، والعفن يفوح من أجسادهم، فقامت بتطهيرهم وألبستهم من أفضل إنتاج مصانعنا "البيجامة الكاستور"، في مشهد لا يزال حديث العالم. أما خفة ظل الشخصية المصرية، فكانت حاضرة وسط النيران، حين أوفى البطل عبدالعاطي صائد الدبابات بوعده لصديقه، الذي كان يحلم بالاحتفال بعيد ميلاده، وأن يشعل 20 شمعة، فحقق عبدالعاطي حلمه، وأشعل له أكثر من 27 دبابة إسرائيلية، وليس شمعة واحدة. بينما أصر العريف المتقاعد مصطفى محمد على أن يحتفظ بسروال أسيره الإسرائيلي كتذكار؛ ليقضي على "الهلاوس"، التي كانت تعيش فيها إسرائيل بأنها "الجيش الذي لا يُقهر"، فإذا به يقف أمام العالم فاقدًا سرواله!. ولم تغب روح السخرية الراقية عن الصحافة المصرية، فكتب الكاتب الكبير الراحل أحمد رجب في عموده الشهير "1⁄2 كلمة" بجريدة "الأخبار" يوم 22 أكتوبر: "رفعت جولدا مائير سماعة التليفون تطلب القاهرة لتتوسل في وقف إطلاق النار قائلة: ألو... ثمانية وأربعون، ستة وخمسون، سبعة وستون؟! فردت القاهرة: غلط... هنا ستة - عشرة - ثلاثة وسبعين". لم يكن انتصار أكتوبر حدثًا عابرًا، بل بطولة غيّرت مجرى التاريخ. وأقرّ الإسرائيليون أنفسهم بعظمة المقاتل المصري، فاعترف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان قائلًا: "لقد خُدعنا وتلقينا ضربة قاسية من جيش يملك عقيدة لا تلين". أما جولدا مائير، فكتبت في مذكراتها: "لم أعرف طعم النوم طوال أيام الحرب، لقد كان المصريون يقاتلون وكأنهم خُلقوا ليوم العبور". وقال هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأشهر: "لقد أثبت المصريون في حرب أكتوبر أنهم لا يُهزمون مرتين". من عبور أكتوبر 1973 وتحقيق النصر إلى يومنا هذا، لم تتوقف بطولات المصريين. فالعقيدة راسخة، والأبطال يواصلون كتابة فصول المجد في الدفاع عن الوطن، ويبقى البطل الشهيد العقيد أحمد المنسي، رمزًا، بعد أن جدد ورفاقه الأبطال عهد أكتوبر وهو يذود بروحه دفاعًا عن تراب سيناء في مواجهة محاولات الإرهاب البائسة، مرددًا عبارته الخالدة: "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم... على العهد يا رجالة، أدفن بأفرولي". من قلب القاهرة يعلو صوت فلسطين، وتواصل مصر بقيادة الرئيس السيسي الحكيمة أداء دورها التاريخي وسط تقدير إقليمي ودولي، متمسكة بموقفها الثابت في الدفاع عن القضية الفلسطينية، رافضة كل محاولات التهجير، أو تصفية القضية الفلسطينية، يقينا بأنه لا سبيل لاستقرار المنطقة إلا من خلال سلام عادل وشامل، يقوم على مرجعيات الشرعية الدولية، ويضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق. وفي ميادين العلم والفكر والثقافة، تبقى الشخصية المصرية منارة عالمية، من العالم الكبير الراحل أحمد زويل، والأديب العالمي نجيب محفوظ، صاحبي جائزة نوبل، إلى ملك القلوب السير مجدي يعقوب، والنجم العالمي محمد صلاح، إلى الدكتور خالد العناني، الذي حقق إنجازًا تاريخيًا جديدًا لمصر بفوزه برئاسة منظمة اليونسكو، تأكيدًا على ثقة وتقدير العالم لمكانة مصر ودورها الحضاري. إن عبقرية الشعب المصري وقدرته على عبور المستحيلات ليست نتاج صدفة، بل خلاصة تاريخ طويل من النضال والانتصارات، والإيمان، والتشبث بالأرض، والإرادة والعلم والعمل. تحيةً لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدّلوا تبديلاً.. تحيةً لرجال ضحوا بأرواحهم فداءً لهذا الوطن.. وتحيةً لرجالٍ دائمًا على العهد يواصلون البناء، ويحافظون على أمن مصر واستقرارها.