بعد مرور عامين على اندلاع الحرب فى السابع من أكتوبر 2023، وصلت الأوضاع فى قطاع غزة إلى مأساة غير مسبوقة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا، حصار خانق وقصف متواصل دمرا مقومات الحياة الأساسية، فيما تتعرض المستشفيات والبنى التحتية الأساسية للتدمير المنهجي، تاركين ملايين المدنيين فى مواجهة الجوع والمرض والنزوح والقتل، وتكشف تقارير الأممالمتحدة، ومنظمات الصحة، والصليب الأحمر، وشهادات الميدانيين أن غزة تدخل مرحلة غير مسبوقة من الكارثة الإنسانية عبر أرقام صادمة. اقرأ أيضًا | مواجهة عسكرية غير متكافئة.. وانهيار نظرية الردع الإسرائيلى وبحسب مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية «أوتشا»، بلغ عدد الضحايا حتى الأول من أكتوبر 2025 نحو 66٫148 شهيداً، وأكثر من 168.716 جريحا، وتعكس هذه الأرقام فقط من جرى التحقق من هوياتهم، ما يعنى أن العدد الفعلى أعلى بكثير، خاصة مع وجود آلاف الجثامين تحت الركام أو فى مناطق يصعب الوصول إليها، ومن بين هؤلاء، نسبة كبيرة من النساء والأطفال، وهو ما يؤكده تقرير الأونروا الذى يشير إلى أن الفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع هى التى تدفع الثمن الأكبر. وتتكشف أكبر موجة نزوح داخلى فى تاريخ غزة طبقا لوكالة الأونروا حيث تشير الإحصائيات إلى أن 1.9 مليون فلسطينى نزحوا داخلياً، أى ما يعادل 90% من سكان القطاع، وتكدس السكان فى أماكن مكتظة وملاجئ غير مؤهلة، حيث يعيشون بلا ماء نظيف أو كهرباء، وفى ظروف صحية وصفها مسئولون أمميون بأنها «مهيأة لتفشى الأمراض والأوبئة». وبالنسبة للصحة، فإن النظام الصحى فى غزة على شفا الانهيار الكامل.. ووصفت منظمة الصحة العالمية الوضع الصحى فى غزة بأنه «خرج عن السيطرة»، مع توقف الكثير من المستشفيات عن العمل كليا أو جزئيا. وفى تقرير موسع لوكالة أسوشيتد برس، وثقت الممرضة الأمريكية آندى فوغان تجربتها فى مستشفى القدس بمدينة غزة، حيث عملت متطوعة لثلاثة أشهر، وقالت إن المستشفى الذى كان يستوعب 120 مريضا لم يتبق فيه سوى 20 فقط، بينهم طفلان فى العناية المركزة، فيما لجأ 60 من الكوادر الطبية وعائلات المرضى للاحتماء داخله، وفوغان تحدثت عن «مشاهد انهيار كامل»، قائلة: «النظام الصحى يدفع عمدا نحو الانهيار»، وأكدت أن الغارات الإسرائيلية والقصف المتواصل حوّل المستشفى إلى هدف عسكري، مضيفة أنها شاهدت زجاج النوافذ يتطاير داخل الأروقة الملطخة بالدماء، وأن أطفالا فى الحاضنات كادت قلوبهم تتوقف من شدة الانفجارات. وقال الهلال الأحمر الفلسطينى الذى يدير المستشفى إن القوات الإسرائيلية أحاطت به تماما، ومنعت خروج ودخول الأطباء والمرضى، فيما أطلقت النار على محطة الأوكسجين. وفى 22 أغسطس الماضي، أكدت الأممالمتحدة عبر التصنيف المرحلى المتكامل «IPC» أن المجاعة وقعت بالفعل فى غزة، وأشارت تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد الوفيات المرتبطة بالجوع بلغ 99 حالة على الأقل حتى 29 يوليو فى العام الجاري، مع تسجيل أكثر من 12 ألف حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال دون سن الخامسة فى شهر يوليو وحده. وبالرغم من هذه التحذيرات إلا أن عرقلة المساعدات مستمرة ومعظم المساعدات لا تصل إلى مستحقيها بسبب القيود الإسرائيلية وإغلاق المعابر، وخفض إغلاق ممر زكيم. وبحسب «أوتشا»، لا أحد فى غزة يحصل على صرف صحى مدار بأمان، بعدما كان 85% من السكان يتمتعون بهذه الخدمة قبل الحرب، وتوقف ضخ مياه الشرب ومعالجة الصرف الصحى أدى إلى تلوث البحر والخزانات الجوفية، ما يهدد بتفشى أمراض مثل الكوليرا والتيفود. ورغم عشرات البيانات الصادرة عن الأممالمتحدة ومجلس الأمن ومنظمات حقوقية، فإن التحرك العملى لوقف الكارثة لا يزال محدودا، والمساعدات التى تدخل عبر معبر رفح أو نقاط التفتيش الإسرائيلية لا تغطى سوى جزء يسير من الاحتياجات، بينما تواصل إسرائيل فرض قيود صارمة على الوقود والمستلزمات الطبية، فى ظل صمت دولى يوصف ب»العاجز». ولا يختلف وضع القطاع الصناعى والتجارى فى غزة عن باقى منظومات الحياة حيث انهار تقريبا، فالمصانع مغلقة، والمشاريع متوقفة، وآلاف الأسر بلا مصدر دخل، إلى جانب ذلك، تفتقر العائلات للاتصالات والإنارة والتبريد، ما جعل الحياة اليومية شبه مستحيلة. غزة اليوم ليست مجرد قضية سياسية أو صراع عسكري، بل أكبر مأساة إنسانية فى العصر الحديث، كل ذلك يجرى أمام أنظار العالم، فى وقت تصرخ فيه المنظمات الإنسانية بأن «غزة لم يعد فيها ما يمكن إنقاذه إن استمر الوضع على ما هو عليه». إن رفع الحصار ووقف القصف وتسهيل دخول المساعدات عبر ممرات إنسانية آمنة لم يعد مطلبا إنسانيا فقط، بل ضرورة وجودية لإنقاذ حياة ملايين المدنيين.