الشرقية - إسلام عبدالخالق »ذئب بشري».. وصف بالغ القسوة لكنه أقل ما يستحق أن يوصف به من سولت له نفسه إزهاق حياة صديقه الصدوق وأن يظهر بعدها كحمل وديع وهو يمشي في جنازته ويزعم تأثره بغيابه ويبحث عنه مع أهليته وكأنه لا يعرف أين يرقد جثمانه؛ هكذا استعان ممثل النيابة العامة بكلماتٍ بالغة القيمة والأهمية أثناء مرافعته أمام هيئة محكمة جنايات الزقازيق في محافظة الشرقية، ساردًا وواصفًا بشاعة الجُرم الذي أقدم عليه شاب بالكاد أتم ربيعه السابع بعد العشرين، بعدما رضخ المتهم لشيطان نفسه ليفسح المجال لتنفيذ جريمة بكل ما يحمله وصف الخسة والنذالة من معنى، فهو الذي أخلى بيته من زوجته، قبل أن يستدرج ضحيته ويقتله بدماءٍ باردة داخل غرفة النوم، وأتبع ذلك بأن وضع الجثة داخل ثلاثة أجولة وبطانية وألقى به في مصرف مياه وعاد ليمسح آثار الدماء ويكتب عبارات كأنما هو الإنسان الذي يتأثر بغياب صديقه، وكأن ذكاءه قد انطلى على الجميع ولن يعرف أحد أنه القاتل سافك الدماء. شرد خيال المتهم «محمود» الشهير ب «ميلانو» بعيدًا عن مرافعة النيابة العامة، وعاد بخياله إلى بضعة أعوامٍ مضت حين نشأت صداقة غير متكافئة بين اثنين ربما يتشابهان في كونهما شابين في مقتبل العمر والطموح، لكن بداخل كلٍ منهما كان الاختلاف باديًا وكأنهما الشيء ونقيضه، إلا أن النقيض لكل خير وفعلٍ طيب كان هو، الشاب الذي يعرفه عوام الناس بأنه أهوج لا يُرى الخير من بين صفاته رغم ما يلتبسه من وجه الطيبة وكأنه من أهلها، حتى تعمقت صداقته مع «عبدالله» ذاك الشاب الذي يصغره بنحو ست سنوات، وزادت وتيرة القرب بينهما إلى الحد الذي جعل أهل الأخير يصفون صديق ابنهم ب «صاحب عمره». في الوقت الذي كان «عبدالله» يتفوق في دراسته داخل كلية الحقوق جامعة الزقازيق، كان «ميلانو» قد عرف طريق السوق السوداء لتجارة العملة الأجنبية، برع الأول حتى انتقل إلى صفوف الفرقة الثانية، فيما تمكن حب المال والثراء السريع من الثاني إلى الحد الذي جعله يستميل صديقه لأجل زيادة رأس مال التجارة، متخذًا من تجارة الأحذية ستارًا يخفي تلك التجارة غير المشروعة. بينما كانت الشراكة في تجارة العملات الأجنبية تتوطد بين الاثنين، كان «عبدالله» بالكاد قد انتهى من تجهيز أثاث مسكن الزوجية، وراح يصحب صديقه إليه لأجل أن يشاركه الفرحة، كما لو كانت فرحته من فرحة «ميلانو»، لكن الأخير، ورغم ابتسامته البادية، تبدل أسلوبه وهو يسأله عن الأموال التي يجب سدادها لأجل تجارتهما، ليعتذر طالب الحقوق ويطلب مهلة بسيطة حتى يجهز المبلغ الذي يساوي بضعة آلافٍ من الجنيهات. هز تاجر الأحذية رأسه كأنما يتصنع الود، لكن داخل عقله كانت وسوسة الشيطان قد بلغت ذروتها لتبدأ فكرة الخلاص تختمر وتترتب في خطة محكمة؛ إذ طال شرود «حودة» ليومين متواصلين كان حاله قاصرًا على الجلوس وحده في أحد أركان الحانوت الذي يتخذه مسرحًا لتجارته، قبل أن يتحرك إلى خارج المحل وهو يرفع هاتفه المحمول إلى أذنه محادثًا زوجته في مكالمة هاتفية مطولة أقنعها خلالها بالذهاب إلى أهلها والمبيت هناك، على أن تعود في اليوم التالي. تنفيذ الجريمة سارت أحداث السبت الأخير من شهر أغسطس من العام الماضي، والذي خطط له «ميلانو»، كما توقع؛ فالبيت أصبح خاليًا من زوجته، لم يبق إلا أن يهاتف صديقه يطلب منه الحضور إلى مسكنه لأجل تصفية خلاف الأموال بينهما، وانطلت الخدعة على الأخير ليلبي طلب صديقه، فيما جهز صاحب المسكن أدوات الخلاص التي قررها سلفًا، وللغرابة أن تلك الأدوات كانت عبارة عن ملعقة شاي ليس إلا. دلف «عبدالله» إلى مسكن صديقه «ميلانو»، واستقبله الأخير بترحابٍ مقتضب كما هي عادته خلال الفترة الأخيرة، قبل أن يطلب منه الحضور إلى غرفة النوم التي كان جالسًا فيها آنذاك، وحين توسد الصديق سرير الغرفة وتواصل الحديث فيما بينه وصديقه عن المال كان الرد صادمًا ومفاجئًا من الآخر؛ إذ علت يده فجأة وإبهامه يقبض على السطح المقعر لملعقة شاي أحضرها سابقًا من مطبخ مسكنه، وخلال لحظاتٍ أو أقل هوى بملعقته طعنًا في رقبة صديقه، ووالى طعناته مرارًا وتكرارًا حتى غادرت الدماء عنق صاحبها لتتناثر بأنحاء الغرفة، وخلال بضع دقائق خفتت حركة الصديق إلى الأبد لينتقل إلى عِداد الأموات قتيلًا على يد صديقه الذي وثق فيه وسلك مسلك شراكة تجارة النقد الأجنبي غير المشروعة لأجله. لم يُبد «ميلانو» أية مظاهر للندم وهو يرى عيني جثة صديقه شاخصةً وكأنه يؤكد غرابة ما حدث له وسفك دمائه، وببرودٍ يُحسد عليه راح صاحب البيت يبحث بين «الكراكيب» عن بعض الأجولة التي كان يبتاع فيها بضاعته من أحذية، وأخرج ثلاثة أجولة وتركها جانبًا، قبل أن يفتح أحدها ويضع فيه جثمان صديقه، وكرر ما فعله لتصبح الأجولة الثلاثة بمثابة الغلاف لجثة الصديق، لكن آثار الدماء كانت آخذةً في الزيادة، فما كان من القاتل إلا أن بحث بين دولاب الغرفة عن بطانية حمراء اللون ولف بها الأجولة والجثمان، وفي جنح الليل أحضر دراجته الآلية ووضع الجثمان ملفوفًا داخل ما أعده لإخفاء معالم جريمته على مؤخرة الدراجة وربطها بإحكام، قبل أن يقودها بعيدًا عن المكان، ليتخلص من الجثمان ومحتويات جريمته بإلقائه في مصرف مياه على بُعد بضعة كيلومترات من القرية. عاد القاتل إلى بيته من جديد وأعاد هندمة أثاث غرفة النوم ومسح بعض آثار الدماء من أرجاء الغرفة، قبل أن يغط في نومٍ عميق، وصبيحة اليوم التالي حضرت زوجته إلى بيتها، واستقبلها بفتورٍ شارد جعل الشك يتسرب إلى عقلها، خاصةً وأنه قد غادر البيت فور حضورها، فما كان منها إلا أن أشاحت بوجهها بعيدًا كأنما تبحث عن سبب لتغييره المفاجئ، لكنها عادت وهدأت لتشيح بتلك الشكوك بعيدًا وهي تترجل إلى غرفة نومها وتغير ملابسها قبل الذهاب إلى المطبخ لغسل بعض الأطباق التي اعتاد زوجها ترك بقايا طعامه فيه عقب تناول وجباته وهي بعيدةً عن المنزل. بدأ الرعب يصل قلوب أهل «عبدالله» وهم يبحثون عن نجلهم الذي مر يوم على غيابه عن البيت دون أن يتحدث إليهم، خاصةً وأن هاتفه المحمول أغلق منذ مغادرته المنزل، فيما أخذ «ميلانو» يهاتف الأسرة ويُبدي قلقه المصطنع لغياب صديقه، قبل أن يعود إلى حانوت بيع الأحذية خاصته، وبعد شرودٍ لدقائق أمسك بهاتف المحمول وفتح تطبيق التواصل الاجتماعي «فيس بوك» لينشر صورة لضحيته الذي أنهى حياته قبل ساعات، وعنون الصورة بعبارة: «ربنا يرجعك لأهلك ولينا بالسلامة يارب يا صاحبي» كما لو كان متأثرًا بغياب صديقه بحق. مرت الأيام ببطء على الجميع؛ أهل الضحية يبحثون عن نجلهم دون خيوط تقود إليه، والقاتل ينعم في خياله بأنه قد قتل وسفك الدماء دون حسابٍ أو عقاب، لكن دماء الضحية أبت ألا يتم اكتشافها؛ إذ فوجئت زوجة القاتل، وأثناء عادتها الأسبوعية في تنظيف البيت وترتيب أثاثه، بوجود آثار دماءٍ في غرفة النوم، لتربط بين ذلك وغياب صديق زوجها وتغير معاملة الزوج منذ طلبه غيابها عن المنزل، وبين هذا وذاك ظلت في وجوم وشرود لا تعرف إلى أين يقودها الشك؟، لكنها قررت أن تفصح عن مكنون صدرها لرجال الشرطة عسى أن يقود ذلك لكشف حقيقة ما حدث، خاصةً وأن شريكها في الحياة لم يعد كما كانت بداية حياتهما الزوجية. العقاب التقطت الشرطة أطراف شك الزوجة، والتي تطابقت مع ما سبقها من تحريات المباحث الجنائية، ليلقى القبض على الزوج المشتبه فيه، وبمواجهته أقر بجريمته على الفور، قبل أن يُفصح عن سبب القتل ومكان الجثمان وأدوات سفك دماء المجني عليه وإخفاء جثته. عاد ذهن المتهم «محمود ح ال ح» وشهرته «ميلانو» 26 عامًا، مالك حانوت لبيع الأحذية ومقيم في كفر أبو قورة بناحية جزيرة الشيخ في نطاق مركز شرطة أبو كبير، إلى قاعة المحاكمة داخل محكمة جنايات الزقازيق وهو يستمع إلى مرافعة النيابة العامة في القضية المتهم فيها بقتل صديقه المجني عليه «عبدالله محمد عبدالمنعم» صاحب الواحد وعشرون ربيعًا، الطالب في الفرقة الثانية في كلية الحقوق جامعة الزقازيق، قبل أن تصدر هيئة المحكمة برئاسة المستشار محمد سراج الدين، رئيس المحكمة، وعضوية المستشارين أمير زكي، وحسين عدلي، وسكرتارية وائل عبدالمنعم، قرارها في القضية رقم 19734 جنايات مركز شرطة أبو كبير لسنة 2024، المقيدة برقم 3728 كلي شمال الزقازيق للعام المنصرم، بإحالة أوراق المتهم إلى مفتي الجمهورية لأخذ الرأي الشرعي في معاقبته بالإعدام شنقًا، وتحديد جلسة السبت قبل الأخير من شهر نوفمبر القادم للنطق بالحكم. اقرأ أيضا: رصاصة كشفت المستور.. تفاصيل مقتل شاب وإنهاء صداقة بالدم في شبرا الخيمة