كل عام تقريبًا، يعيش الأمريكيون على وقع نفس السيناريو المتكرر: «شبح الإغلاق الحكومي يلوح في الأفق، والبيت الأبيض والكونجرس يدخلان سباقًا محمومًا مع الزمن لتفادي الشلل الإداري». ورغم أن هذه الأزمة تبدو في ظاهرها مالية أو إجرائية، فإن جذورها أعمق بكثير،فهي تعكس تحولات حادة في قواعد اللعبة السياسية الأمريكية، وصراعًا طويل المدى حول موازين السلطة داخل الدولة الفيدرالية. أفاد تحليل موسع لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية يرصد كيف تحوّل الإغلاق من استثناء طارئ إلى أداة ضغط حزبية روتينية، وكيف أصبح الديمقراطيون أنفسهم اليوم أكثر استعدادًا لاستخدامه كسلاح سياسي في مواجهة إدارة ترامب، في مشهد يذكّر بأزمات حاسمة هزّت واشنطن منذ تسعينيات القرن الماضي. شرارة الأزمة الجديدة في 11 سبتمبر الماضي، أعلن زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر، وزعيم الديمقراطيين في مجلس النواب حكيم جيفريز، تمسكهما ببنود محددة تتعلق ببرامج الرعاية الصحية، أهمها إلغاء تخفيضات برنامج «ميديكيد» التي أُقرت ضمن حزمة تشريعية سابقة، وضمان عدم قدرة الرئيس الأمريكي على التراجع عنها لاحقًا. جاء ذلك في إطار جهود لتأمين استمرار تمويل الحكومة الأمريكية، لكن بعد محاولتهما لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمناقشة هذه البنود، أعلن الأخير في 23 سبتمبر الجاري إلغاء الاجتماع، ما زاد احتمالات الانسداد السياسي. خلاف استراتيجي داخل الحزب الديمقراطي يدور داخل الحزب الديمقراطي جدل حاد حول جدوى اللجوء إلى إغلاق حكومي لإجبار ترامب على التراجع، وبينما بعض القادة يفضلون استمرار التفاوض، دعا كتاب مؤثرون مثل عزرا كلاين إلى التصعيد لكسر دائرة التفاوض غير المجدية، معتبرين أن الإغلاق قد يكون وسيلة لجذب انتباه الرأي العام في البلاد إلى ما يصفونه ب«تجاوزات الرئيس». ويرى هذا التيار أن الجمهوريين لا يقدمون ضمانات لاحترام نتائج أي اتفاق، خاصة في ظل محاولات ترامب التحايل على القوانين باستخدام صلاحيات تنفيذية استثنائية. الإغلاق الحكومي.. من استثناء إلى أداة ضغط في العقود الماضية، كانت عمليات الإغلاق الحكومي في الولاياتالمتحدة تُعتبر حدثًا نادرًا وأزمة يجب تفاديها، لكن مع تصاعد الاستقطاب الحزبي، تحولت إلى أداة تفاوضية متكررة. والفارق في عام 2025 أن الديمقراطيين باتوا مستعدين لاستخدام نفس التكتيكات التي استخدمها الجمهوريون لعقود، مستغلين كل أوراق الضغط الممكنة لمواجهة ما يصفونه ب«رئيس إمبراطوري» يوسع سلطاته على حساب الكونجرس. الجذور التاريخية.. جينجريتش وكلينتون 1995–1996 تعود نقطة التحول الكبرى إلى منتصف التسعينيات، عندما قاد رئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت جينجريتش مواجهة ميزانية شرسة مع الرئيس الديمقراطي حينها بيل كلينتون. وأدت هذه الأزمة، إلى إغلاقين حكوميين متتاليين في الولاياتالمتحدة، رسّخا سابقة سياسية خطيرة غيرت قواعد الصراع إلى الأبد. جينجريتش صاغ استراتيجية تعتمد على خلق أزمة تدفع الرئيس إلى القبول بشروط الجمهوريين، مثل خفض الضرائب وتقييد الإنفاق، مستندًا إلى صعود حزبه القوي بعد انتخابات أمريكا 1994 التي أنهت عقودًا من الهيمنة الديمقراطية على الكونجرس. إغلاقات متكررة وتداعيات واسعة في نوفمبر 1995، أدى فشل المفاوضات إلى إغلاق الحكومة الأمريكية لأول مرة، حيث أُعيد أكثر من 800 ألف موظف غير أساسي إلى منازلهم، وتوقفت خدمات أساسية كالمتنزهات الوطنية والضمان الاجتماعي والأبحاث الطبية. وفي ديسمبر من العام نفسه، تكررت الأزمة بإغلاق دام 21 يومًا، ما أدى إلى تعطيل واسع للوزارات والخدمات، وتسريح موظفين في قطاعات السياحة والنقل. وتركت هذه الأزمة، أثرًا سياسيًا كبيرًا بعد أن انقلب الرأي العام في الولاياتالمتحدة ضد الجمهوريين، وتراجعت نسب تأييدهم. من الخوف إلى التكرار.. تحولات ما بعد 2010 بعد سنوات من الحذر، أعاد صعود «حزب الشاي» الجمهوري المتشدد عام 2010 استخدام الإغلاق الحكومي كسلاح تفاوضي، خصوصًا ضد سياسات الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما. وفُرض إغلاق عام 2013 لمدة 16 يومًا، وتكررت الإغلاقات الجزئية في 2018–2019، ورغم تمرير تمويلات مؤقتة لتفادي الشلل الكامل، أصبح التهديد بالإغلاق جزءًا من المشهد السياسي الدائم. وبحسب تحليل مجلة «فورين بوليسي»، تُظهر هذه السوابق أن الإغلاق الحكومي لم يعد يُستخدم كوسيلة ضغط استثنائية، لكن صار نتيجة مباشرة لخلل بنيوي في طريقة إدارة الخلافات داخل النظام الأمريكي. ويرى محللون أن الإصلاح يجب أن يهدف إلى تقليل احتمالات الإغلاق، عبر آليات قانونية جديدة تضمن استمرار الخدمات الأساسية بغض النظر عن الصراع السياسي، حفاظًا على استقرار الدولة وثقة المواطنين. تجاوزت أزمة الإغلاق الفيدرالي في الولاياتالمتحدة إطار «الحدث العارض» لتتحول إلى ظاهرة سياسية مقلقة، تعكس عمق الانقسام داخل المشهد الحزبي الأمريكي. ومع اقتراب المواعيد النهائية لإقرار الموازنة العامة، تتجه الأنظار مجددًا إلى واشنطن لرصد ما إذا كان صانعو القرار سيتجاوزون خلافاتهم ويتعلمون من دروس الأزمات السابقة، أم أن البلاد ستشهد تكرارًا لحلقات الصراع التي تهدد استقرار مؤسسات الدولة الفيدرالية.