لم يعد النجاح المؤسسي مرهونًا فقط بالمخرجات المادية أو المؤشرات الرقمية، بل بات مرتبطًا بالقيم غير الملموسة التي تُشكل روح المنظمة؛ فعندما يشعر الموظفون بالرضا والانتماء، ينعكس ذلك مباشرة على أدائهم، ويمنح المؤسسة ميزة تنافسية يصعب تقليدها، ومن أهم هذه القيم وأكثرها تأثيرًا، شعور الموظف بمعنى وقيمة ما يقوم به من عمل. هذا التحول في مفهوم النجاح المؤسسي يستند إلى حقيقة عميقة، أن قيمة العمل تتجاوز كونه مجرد وظيفة أو وسيلة للعيش، فبينما ترى النظرة الاقتصادية التقليدية في العمل مجرد تبادل للوقت والجهد مقابل دخل، تشير الدراسات الحديثة إلى أن قيمته تتعدى ذلك بكثير؛ فهو يوفر تحديات تُمكن الأفراد من تطوير مهاراتهم وتحقيق إنجازات ملموسة، ويمنحهم شعورًا بالجدوى والكرامة، بل قد يكون أكثر إشباعًا من وقت الفراغ إذا كان خاليًا من الأنشطة الهادفة. وقد دعمت هذا التوجه دراسة حديثة أجراها معهد مونتيري التكنولوجي بالمكسيك عام 2023، بعنوان "العمل الهادف، والسعادة في العمل، ونية ترك العمل"، حيث بينت أن شعور الموظف بأن عمله يُسهم في تحقيق هدفه الشخصي في الحياة، ويُنظر إليه على أنه ذو قيمة، مدعومًا بتقدير صادق من زملائه، يُعد عاملًا جوهريًا في تعزيز سعادته المهنية وتقليل احتمالية تركه للعمل. ومن زاوية أخرى، نشرت مجلة " Emerald" عام 2024 دراسة بعنوان "ما الذي يجعل يوم العمل ذا معنى؟"، خلصت إلى أن الإحساس بالمعنى يتشكل عبر عنصرين أساسيين: "أهمية المهمة" و"إتقانها"؛ فحين يدرك الموظف أثر جهوده ويتقن ما يقوم به، يتحول العمل من واجب روتيني إلى تجربة إنسانية غنية بالجدوى، وهنا يبرز دور الإدارة في أن تضيء الطريق لموظفيها، موضحة لهم لماذا يقومون بعملهم، وليس فقط ماذا يفعلون. هذا ما يتضح في مواقف بسيطة من الحياة اليومية؛ ففي إحدى الإدارات كان موظف الأرشيف يظن أن عمله ثانوي، حتى أوضح له مديره أن حسن تنظيم المستندات يحفظ حقوق المؤسسة ويسهل اتخاذ القرار. وفي إدارة أخرى، تحولت شكوى لموظفة دعم فني تشعر بالملل إلى مسؤولية حقيقية بعد أن أدركت أن سرعة استجابتها تحافظ على ثقة العملاء؛ هذه الأمثلة تكشف أن أبسط المهام قد تحمل معنى عميقًا إذا وُضعت في سياقها الصحيح؛ فالمسألة لا تتعلق بميزانيات ضخمة، بل بوعي إداري وإنساني يدرك أن الجهد الفردي لابد أن يُحدث فرقًا. ويزداد هذا المعنى وضوحًا حين ندرك أن المعنى لا يرتبط بالمهام البراقة أو المريحة، بل قد يتجسد في أصعب المهن وأكثرها مشقة؛ فالتمريض، والتدريس، وأعمال النظافة على سبيل المثال، رغم ما تحمله من ضغوط جسدية ونفسية، تظل أعمالًا ذات رسالة إنسانية تمنح أصحابها شعورًا متجددًا بالقيمة، خاصة في أوقات الأزمات حين يصبح أثرها مضاعفًا على حياة الآخرين. وقد تجلت هذه الحقيقة بوضوح خلال جائحة (كوفيد-19)، حين توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية، بينما استمرت فقط الأعمال الأساسية مثل جمع النفايات، والخدمات الطبية، وأجهزة الشرطة، ومحلات السوبر ماركت، عندها أدرك العالم أن قيمة العمل لا تُقاس بالبريق أو المكانة الاجتماعية، بل بقدر تأثيره الحقيقي في استمرار الحياة وخدمة الإنسان في أصعب لحظاته. هذه الحقائق تدفعنا إلى النظر للعمل من منظور أشمل؛ فهو ليس مجرد وظيفة تؤدى، بل قيمة إنسانية تُثري حياة الأفراد وتمنحها معنى؛ فالعمل في جوهره فعل إنساني عميق يتجاوز حدود المهام اليومية ليصبح رسالة شخصية واجتماعية، وعندما يدرك الفرد أن جهده يترك أثرًا إيجابيًا على الآخرين أو يُسهم في بناء قيمة أوسع، يتحول الأداء من إنجاز وظيفي روتيني إلى تجربة ذات معنى، هذا التحول يرفع من مستوى الانتماء والالتزام، ويُطلق طاقات الإبداع والعطاء، لأن الموظف يرى نفسه جزءًا من قصة أكبر تتجاوز حدود المكتب والجدران التنظيمية. في بيئة العمل الصحية، لا مكان فيه للتهميش أو الإقصاء، بل يُحتضن الجميع ويُشعرون أن وجودهم قيمة مضافة؛ فحين يجد الإنسان معنى في عمله، يُتقنه بمحبة، ويُقدمه بإبداع، ويصنع منه بصمة تبقى حتى بعد رحيله، هذا الشعور بالجدوى لا يقتصر تأثيره على تحويل المهمة الروتينية إلى تجربة ذات قيمة حقيقية، بل يجعل بيئة العمل أكثر دعمًا وصحة، ويولد ولاءً حقيقيًا للمؤسسة، ويفتح أمامها آفاقًا واسعة للنمو المُستدام. إن خلق هذا المعنى والقيمة للعمل لا يقع على عاتق الإدارة وحدها؛ فللموظف دور محوري في إضفاء القيمة والفائدة على ما يقوم به للآخرين، من خلال سعيه لجعل مهامه اليومية ذات مردود إيجابي، بغض النظر عن طبيعة وظيفته. في الختام، إن العمل الذي يفتقر إلى المعنى هو استنزاف صامت لطاقات المؤسسات، أما عندما يُضفى عليه المعنى والقيمة، فإنه يتحول إلى طاقة مُتجددة تعزز الانتماء، وتطلق القدرة على التكيف والإبداع، لتجعل المؤسسة كيانًا حيًا نابضًا بالحياة. عندها فقط، يصبح العمل مصدرًا للفخر، ومعنًى للكرامة، وقيمة نتمسك بها، لا مجرد مهمة عابرة في يومنا. كاتبة المقال : كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة