كل واحد منا مر بلحظات صعبة في حياته، سواء كان حزنًا عميقًا، أو فقدان شخص عزيز، أو حتى مجرد شعور بالملل والفراغ، في هذه الأوقات، نبحث عن طريقة لنتجاوز ما نشعر به. أحيانًا، نجد راحتنا في التحدث مع الأصدقاء أو الأقارب؛ حتى لو لم يكن المُستمع هو الأنسب أو الأقدر على الحل، فإن مجرد الكلام يخفف من ثقل الألم، وفي أحيان أخرى، نفضل الابتعاد عن الناس والبقاء وحدنا، وكأننا نأخذ قسطًا من الراحة النفسية لنتقوى ونتجاوز هذه المرحلة. لكن ما بين الكلام غير المفيد والعزلة الثقيلة، يظل الإنسان في حاجة إلى متنفس أعمق يربطه بالحياة ويُعيد إليه توازنه. هنا يظهر دور العمل كخيار مختلف وأكثر أمانًا؛ فهو لا يكتفي بإشغال الوقت، بل يمنح معنى للحياة، ويعيد وصل الإنسان بالعالم من حوله، ويفتح أمامه مساحة للتفاعل الإيجابي؛ ولهذا نجد أن كثيرًا من كبار السن أو المتقاعدين يلجأون إلى أعمال بسيطة أو أنشطة تطوعية، لا بدافع الحاجة المادية، بل بحثًا عن دور يضيء حياتهم من جديد. وعندما نفهم هذه الحقيقة، نُدرك أن الفراغ في جوهره عدو صامت، والتفكير غير الموجه يتحول إلى عبء، أما حين نوجه طاقتنا لما نُتقنه أو نحاول أن نتعلمه، فإننا نُشفى ببطء ونقوى من غير أن نشعر؛ فالانشغال ليس بالضرورة هروبًا، بل قد يكون شكلًا من أشكال المقاومة؛ لأنه ببساطة، حين ينشغل الإنسان بالعمل، لا يمنح عقله فرصة للغرق في الأحزان، بينما الفراغ يُضخم الألم ويحول الهموم إلى عبء يومي دائم. وإذا كان البعض قد يظن أن العمل مجرد وسيلة لكسب الرزق، فإن الواقع يُظهر أثره الأعمق على حياتنا النفسية والاجتماعية؛ فبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية (WHO) الصادر عام 2022، يتسبب الاكتئاب والقلق في هدر نحو 12 مليار يوم عمل سنويًا، بما يعادل خسائر تتجاوز تريليون دولار أمريكي من الإنتاجية على مستوى العالم، هذه الأرقام تكشف أن العمل ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل عامل حاسم في الصحة النفسية. ولعل خير دليل على أثر العمل هو ما نراه في حياتنا؛ فكم من شخص مر بأزمة نفسية أو ضغوط قاسية، ووجد في العودة إلى العمل والانشغال بمهمة محببة علاجًا يُعيد له التوازن ويمنحه الأمل لمواصلة الحياة؛ فالانخراط في عمل نحبه ونؤمن به لا يجعل من ساعات الجهد مجرد أداء وظيفي، بل يحولها إلى لحظات من الشفاء، يتبدد فيها القلق ويزول التوتر، ويُولد شعور عميق بالجدوى والانتماء، هكذا يتجاوز العمل وظيفته المعتادة؛ ليصبح ممارسة علاجية تعيد بناء الإنسان من الداخل، وتساعده على التعبير عن ذاته والتصالح مع العالم. وقد تجسد ذلك بوضوح في تجربة الكاتبة الأيرلندية ماريان كيز، التي عانت لسنوات من الاكتئاب والإدمان، لكنها وجدت في الكتابة متنفسًا ووسيلة علاجية، ما بدأ كقصص قصيرة كتبتها في فترة صعبة، تحول إلى روايات عالمية أعادت إليها التوازن، ومنحتها حياة جديدة، وألهمت ملايين القراء حول العالم. وإذا كانت ماريان كيز قد جسدت بشكل شخصي كيف يمكن للعمل أن يعيد تشكيل معنى الحياة بعد أزمة عميقة، فإن العلوم الحديثة بدورها ترجمت هذه الحقيقة إلى ممارسات علاجية أكثر منهجية. وتأكيدًا لهذا، تشير دراسات علم النفس الإيجابي إلى أن الانخراط في أنشطة منتظمة وذات معنى يحفز إفراز هرمونات السعادة، مثل الدوبامين والسيروتونين، مما يُساهم في تخفيف أعراض الاكتئاب وتقليل حدة الضغط النفسي، ومن هنا ليس غريبًا أن يوصي الأطباء النفسيون مرضاهم بالعودة إلى العمل أو ممارسة هواية مستمرة، باعتبارها جزءًا من خُطة علاجية متكاملة. ولعل أفضل ما يُجسد هذه الفكرة هو ما يُعرف بالعلاج المهني (Occupational Therapy)، الذي يتجاوز النظرة التقليدية للعمل باعتباره مجرد وظيفة؛ ليتعامل معه كوسيلة لإعادة بناء الصحة النفسية، وتعزيز الاندماج الاجتماعي؛ فالعلاج المهني يستند إلى قناعة علمية تشير إلى أن المشاركة في أنشطة يومية هادفة، سواء كانت مرتبطة بالعمل أو الرعاية الذاتية أو حتى الترفيه، يمكن أن تُحدث تحولًا مباشرًا في الصحة النفسية والجسدية على حد سواء. وقد دعمت هذا التوجه دراسة حديثة نُشرت عام 2024 في مجلة "Occupational Therapy in Mental Health"، حيث أكدت أن العمل الآمن والمُرضي لا يقتصر دوره على الجانب الوظيفي فحسب، بل يمثل عاملًا وقائيًا وعلاجيًا في آن واحد؛ إذ يمنح الأفراد شعورًا بالهوية، ويُعزز استقلالهم المادي، ويوفر شبكة من الروابط الاجتماعية التي تخفف من وطأة العزلة، والضغط النفسي. وهكذا، يمكننا أن نفهم كيف يصبح العمل أحيانًا متنفسًا يخفف ثقل الانكسار، ومصدرًا يبعث الأمل في مواجهة ضغوط الحياة، فقد يكون المكتب، أو حرفة يدوية بسيطة، أو نشاط تطوعي، أو حتى مهمة روتينية، بمثابة "غرفة علاج" غير مُعلنة، يجد فيها صاحبها طاقة مُتجددة ورغبة في الاستمرار. فالمهم هنا ليس نوع العمل، بل النية التي تُمارسه بها والشعور بالإنجاز الذي يلي كل جهد، فحين يتحول عملك إلى نشاط تعطيه قلبك وتجد فيه معنى، تتحول ساعات الجهد من مجرد أداء وظيفي إلى رحلة شفاء يومية. ومن هنا، يمكن القول بحق: "الانشغال بالعمل علاج نفسي، لا مجرد وسيلة للعيش". إننا لا نعمل فقط لنعيش، بل أحيانًا نعيش بفضل العمل؛ لأنه يصبح العلاج الذي يرمم الجروح، ويحول لحظات الانكسار إلى طاقة بناء وإبداع، وهنا يكمن السر أن نعيد النظر إلى أعمالنا لا بوصفها عبئًا، بل باعتبارها فرصة للشفاء، ومساحة لإعادة اكتشاف أنفسنا كل يوم، لا مجرد مصدر دخل أو واجب يومي. وما يعيشه الفرد من أثر للعمل على نفسيته وعلاقاته ينعكس بدوره على بيئات العمل والمجتمع الأوسع، فيجعلها أكثر إنسانية وقدرة على الاحتواء، إذ يصبح العمل ليس مجرد وسيلة لإعمار الأرض، بل طريقًا لإعمار النفس أولًا. كاتبة المقال . كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة