في بيئات العمل، لا يكون التحدي الأكبر في المهام الصعبة أو ضغط الوقت، بل في اللحظات التي يشعر فيها الموظف بأن صوته لا يُسمع، ومشاعره لا تُقدر، وقد يصبح تنفيذ التعليمات أمرًا نافذًا لا يقبل النقاش، لا بالشراكة ولا بالحوار، بل يُفرض بالقوة أو التهديد. في المؤسسات، تُمنح الصلاحيات الإدارية للقيادات من أجل ضبط الأداء وتحقيق الكفاءة، ومن بين هذه الصلاحيات حق نقل الموظف من قسم إلى آخر. لكن هل تبقى هذه الصلاحية مطلقة مهما كانت الظروف؟ ومتى يتحول القرار الإداري من أداة تنظيمية إلى سلاح ضغط نفسي أو وسيلة لإسكات الأصوات التي تُبدي رأيًا أو تتحفظ على ظروف معينة؟ إحدى الموظفات تواصلت معي وهي في حالة من الضيق النفسي العميق بعد أن صدر قرار بنقلها إلى قسم آخر دون رغبتها، وعندما حاولت الاعتراض بشكل مهني وهادئ موضحة أسبابها، قوبلت برد قاطع من مديرها: "من يحدد مصلحة العمل هو المدير، وأي اعتراض منك سيؤدي لتحويلك إلى الشؤون القانونية!" في هذا الموقف، لم تكن الأزمة في القرار ذاته، بل في الطريقة التي فرض بها، وفي تجريم الاعتراض المهني، والتلويح بالعقوبة كمجرد رد فعل على اعتراض مشروع، عبرت فيه الموظفة عن أسباب مهنية وشخصية تمنعها من أداء العمل بكفاءة في القسم، وكأن التعبير عن الرأي خرق للنظام. إن القرار الإداري، حتى وإن كان قانونيًا من حيث الشكل، قد يفقد مشروعيته الأخلاقية إذا نُفذ بأسلوب تعسفي يفتقر إلى الحوار والاحترام؛ فحين يُنقل الموظف من موقعه دون تمهيد أو تفسير واضح، وبطريقة تنطوي على تهديد أو تجريم للاعتراض، لا يُحدث ذلك خللاً نفسيًا لديه فحسب، بل يضرب أسس الثقة والانتماء داخل المؤسسة، الموظف ليس آلة تُدار بالأوامر، بل إنسان له ظروف وميول وكفاءة لا يمكن تجاهلها، والأسلوب الذي يُدار به القرار لا يقل أهمية عن القرار ذاته. تُبنى الشرعية الأخلاقية للقرار الإداري على عدة أسس، أهمها، مراعاة الظروف النفسية والمهنية للموظف، إشراك الموظف في القرار حين يمس جوانب جوهرية من عمله، ضمان حق الاعتراض دون أن يُفسر كمخالفة أو تمرد؛ إن غياب هذه المبادئ يجعل المؤسسة تنتقل من "قيادة" إلى "سلطة"، ومن إدارة الموارد إلى إدارة الأوامر، كما إنهم يرسخان ثقافة الخوف بدلًا من ثقافة الانتماء. في مثل هذه الحالات، لا تكون المعضلة في القرار فحسب، بل فيما يفرضه من معادلة إنسانية قاسية: هل تنصاع الموظفة حفاظًا على الأمان الوظيفي، أم تتمسك بحقها في الاعتراض وتجازف بمصيرها المهني؟ وهل يُطلب من الموظف أن يُطيع دون أن يفهم، وأن يُنفذ دون أن يشعر؟ إن بيئة العمل التي تُرغم على الصمت تُفقِد الموظف انتماءه، وتُحول الأداء إلى التزام شكلي لا روح فيه. على المديرين أن يتذكروا أن الإدارة ليست مجرد أوامر، بل تفاعل إنساني، والقيادة لا تُقاس بعدد الأوامر التي يتم أصدرها، بل بعدد الأشخاص الذين يشعرون بالأمان وهم يعملون تحت مظلة هذه القيادة، المؤسسات القوية تُبنى على أساس من الثقة والحوار والاحترام المتبادل، عندما يلجأ القائد إلى الصوت العالي أو التهديد بالشؤون القانونية لمجرد أن موظفًا طلب التوضيح، فهذا يعني أن هناك خللاً في أدوات القيادة. القائد الحقيقي لا يخشى النقاش، ولا يرى في الاعتراض تمردًا، بل يراه مؤشرًا على الوعي والاهتمام، أما الموظف المتزن، فلا يعارض لمجرد الاعتراض، بل يشارك بمبرراته ويسعى لأن يكون جزءًا من الحل، لا من المشكلة. كل قرار يُتخذ دون مشاركة، وكل تهديد يُطلق بدلاً من حوار، ليس مجرد خلل في الممارسة الإدارية، بل خطوة في اتجاه خلق بيئة عمل هشّة، مهما بدت المؤشرات والأرقام مشرقة؛ فنجاح المؤسسات لا يُبنى على الصمت والانصياع، بل على التوازن الحقيقي في الأدوار، والاعتراف المشترك بالمسؤولية؛ حيث يستمع القائد ويُعبر الموظف، وتظل الأخلاق المهنية، والضمير الحي، والقدرة على الحوار، هي المخرج الوحيد من معادلة "نفذ ثم اعترض". من هنا، يصبح من الضروري إعادة النظر في بعض الممارسات الإدارية المُتكررة، وعلى رأسها مبدأ 'نفذ ثم اعترض"، لا ينبغي أن يُستخدم كقاعدة عامة، بل كاستثناء يُلجأ إليه فقط في الحالات الطارئة أو الحساسة، كالأزمات الأمنية أو الكوارث، حيث تكون الاستجابة السريعة أمرًا حاسمًا. أما في الظروف العادية، فإن اعتماد هذا الأسلوب يُضعف روح الفريق ويهمش الحوار، ويؤدي إلى بيئة عمل قائمة على الخوف لا الثقة. فالمؤسسات الناجحة لا تنمو على أوامر فوقية، بل تزدهر بالحوار، والقرارات العادلة، والاحترام المتبادل. إن تجاهل صوت الموظف لا يُضعف فقط ولاءه، بل ينعكس سلبًا على جودة العمل وروح الفريق. فهل نريد بيئة تُسكت فيها الاعتراضات، أم تُبنى فيها الثقة؟ تخيّل لو انتقلنا من ثقافة "نفذ ثم اعترض" إلى نهج "شارك ثم قرر"، كيف ستبدو بيئة العمل حينها؟ كيف سيختلف الأداء والانتماء؟ إن إدخال ما يُعرف ب "التحقّق الإداري المُسبق" (Administrative Pre-Engagement) ، وهو نهج إداري يقوم على إشراك الموظف في مراحل ما قبل اتخاذ القرار، من خلال آليات تشاركية بسيطة، مثل جلسة حوار فردية قبل اتخاذ القرار، أو استبيان داخلي يُراعي التوازن بين متطلبات العمل وميول الموظفين، لا يُضعف سلطة المدير، بل يُعززها. فهو يمنح القرار الإداري شرعية مزدوجة: شرعية قانونية مستندة إلى الهيكل التنظيمي، وشرعية إنسانية نابعة من احترام الفرد واحتياجاته. إن نهج "شارك ثم قرر" ليس مجرد شعار جذاب، بل هو تحول منهجي وثقافي جوهري في فلسفة الإدارة المعاصرة، يعكس احترامًا حقيقيًا لعقل الموظف ومكانته. هذا النهج لا يُعزز فقط من ولاء العاملين وشعورهم بالانتماء، بل يفتح المجال أمام إنتاجية أعلى، وابتكار مستدام، وتحسينات ملموسة في الصحة النفسية داخل بيئة العمل؛ فحين يشعر الموظف أنه مسموع ومُشارك في صياغة القرار، لا يتحول فقط إلى منفذ، بل إلى شريك حقيقي في النجاح، وهذا ما تصبو إليه المؤسسات الرشيدة التي تبني قوتها من الداخل. وتشير الدراسات الحديثة في مجلات مثل Journal of Applied Psychology وAcademy of Management Journal إلى أن بيئات العمل التي لا تتيح للموظفين التعبير عن آرائهم بحرية وتفرض عليهم طاعة بدون نقاش، تؤدي إلى انخفاض الالتزام الوظيفي وزيادة الإحباط، كما توضح الأبحاث في مجال الإدارة والسلوك التنظيمي أن مشاركة الموظف في صنع القرار تزيد من شعوره بالانتماء وتحسن الأداء الفردي والجماعي ، وفي حالة غياب الحوار والاحترام المتبادل، تنخفض مستويات الثقة بين الموظفين والإدارة، مما يضر بالإنتاجية ويحد من الابتكار . لذلك، فإن خلق ثقافة تشاركية توازن بين سلطة المدير وحقوق الموظف في التعبير هي مفتاح النجاح المؤسسي. كما أنه ليس المطلوب ثورة في المفاهيم الإدارية، بل إرادة حقيقية للاستماع، وقناعة راسخة بأن الموظف ليس مجرد منفذ، بل شريك في النجاح. وعلى كل من يتولى مسؤولية أن يدرك: القوة لا تكمن في فرض القرار، بل في كسب القلوب، وبناء الولاء، وصناعة بيئة يشعر فيها الجميع أنهم جزء من القرار، لا ضحاياه . كاتبة المقال : كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة