هناك لحظات لا تصنعها السياسة، ولا يروج لها الإعلام، بل تولد من رحم الأحداث المتشابكة، لتكشف عن جوهر الدول لا عن سطحية مواقفها.. وفى الأيام الماضية كانت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى بإحضار الطفلين الفلسطينيين. الطفل الذى يهرب من القصف الأسرائيلى حاملاً شقيقه الأصغر على كتفيه، وأسرتهما، بمثابة لحظة فارقة، وفعل رمزى فى وجه عالم يئن تحت صمت قاتل، الأطفال فى غزة لا يقتلون فقط بالقنابل، بل بالجوع والحصار والخذلان. هذا التوجيه لم يكن مجرد تحرك إنسانى فقط، بل استدعاء لدور، وإعلان لرسالة، وتحرك على رقعة شطرنج إقليمية مربكة. الطفلان لم يكونا فقط ضحيتين للعدوان الإسرائيلى، بل رمز لعجز النظام الدولى عن حماية البراءة.. وفى ظل هذا العجز جاء الفعل المصرى مفاجئًا لا من حيث الشكل، بل من حيث التوقيت والدلالة.. هنا لم تكن القاهرة تسعى لصورة، بل تعلن موقفًا، لن نقف مكتوفى الأيدى.. فالتوجيه يفتح ثغرة فى جدار الحصار المضروب على غزة، ليس بالمساعدات ولكن بالكرامة.. كما أنه يعيد إلى الفلسطينيين شعورًا بأن هناك من يشعر بآلامهم، ويشاركهم ثقل المأساة. إنها لحظة نادرة تتقاطع فيها الإنسانية مع السياسة، ويعلو فيها صوت الأخلاق فوق ضجيج المصالح.. فعل بسيط لكنه فى سياق اللحظة، صار موقفًا تاريخيًا. ليس صدفة أن يتزامن هذا التوجيه الإنسانى مع قرار الرئيس بإعادة مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب لمراجعته فى ضوء الملاحظات التى أبداها الرئيس.. والتى يعلن فيها أن العدالة ليست سيفًا فقط، بل ميزان يراجع نفسه، وأن قوة الدولة ليست فى تغولها، بل فى قدرتها على تصويب نفسها، فالقانون ليس نصًا جامدًا بل مرآة للعدالة، فحين تراجع الدولة تشريعاتها، فإنها تقترب أكثر من مشروعها الحضارى.. إنها لحظة تعيد فيها الدولة اكتشاف نفسها. عموماً الرسالة هنا ليست موجهة للضمير العربى فقط، بل تفتح المجال أمام مراجعة شاملة للسياسات، مراجعة تبدأ من الداخل تستشعر فيها الدولة نبض الشارع، وتعيد التفكير فى أدوات العدالة، كى تكون متوازنة ومتطورة. وتضع معيارًا أخلاقيًا جديدًا لما يجب أن تكون عليه الدولة.. لا ينتهى عند حدود غزة، حيث ينبغى أن يكون للعرب والعالم كلمة فاصلة لا تقبل التأجيل.