فى لحظة بدا فيها صوت الحق خافتًا تحت ركام العدوان، تقدمت مصر، لا كطرفٍ فى نزاعٍ سياسىٍّ، بل كحاملة لمشعل القانون الدولى؛ لتخاطب أعلى سلطة قضائية في العالم: محكمة العدل الدولية. فى 28 أبريل 2025، وقفت الدولة المصرية، عبر ممثليها فى لاهاى، لتترافع لا فقط عن الشعب الفلسطيني، بل عن مبادئ إنسانية تتعرَّض للتشويه على مرأى ومسمع من العالم، ولتُعيد الاعتبار للحق فى زمن اختلط فيه القتل بالدفاع، والحصار بالحُجج القانونية، والمذابح بالمصطلحات الباردة. هذا ليس موقفًا دبلوماسيًا تقليديًا، بل إعلان أخلاقى وقانونى بأن مصر، حين تدعم فلسطين، لا تُمارس سياسة خارجية، بل تُؤكِّد موقعها الأخلاقى والقيادى فى الإقليم والعالم، لم تكتفِ مصر بإدانة السلوك الإسرائيلى فى غزة من منظورٍ أخلاقىٍّ أو سياسىٍّ، بل قدَّمت إطارًا قانونيًا متكاملًا يُؤكِّد أن إسرائيل تُمارس سياسات مُمنهجة تهدف إلى: ● الضم الفعلى للأراضى الفلسطينية تحت غطاء قانونى زائف. ● تقويض وكالة الأونروا كذراعٍ أممية لحماية اللاجئين، عبر حملات تجفيف مالى وتشريعى. ● استخدام الحصار والتجويع كسلاحٍ حربى مُمنهج ضد المدنيين. ● استهداف المدنيين والبنية التحتية الإنسانية، بما فى ذلك العاملون فى القطاع الطبى والإغاثى. تدمير معبر رفح وقصف مدينة كانت بمثابة «مستشفى ميداني مفتوح» لمليون فلسطيني مُشرَّد. ما قدَّمته مصر فى هذه المرافعة لم يكن استعراضًا قانونيًا، بل وثيقة اتهامٍ شاملة ضد منظومة الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها كيانًا يخرق - دون توقفٍ - القانون الدولى الإنسانى وقرارات الأممالمتحدة. لماذا هذا الموقف المصري الآن؟ التحوُّل النوعى فى اللهجة المصرية لا ينفصل عن تطور فلسفة السياسة الخارجية للقاهرة منذ سنواتٍ، فمصر التى كانت لعقودٍ جزءًا من مساحات التهدئة والوساطة، باتت الآن تُدرك أن الوسيط المحايد يفقد شرعيته إن سكت طويلًا عن الجريمة. منذ بدء العدوان على غزة فى أكتوبر 2023، ومصر تُواجه معضلة وجودية: كيف تحمى حدودها، وتُحافظ على مكانتها الإقليمية، وتُواجه آلة الإبادة المنظمة على بعد كيلومترات من أراضيها؟ الرد المصرى جاء من بوابة القانون: الذهاب إلى لاهاى ليس تصعيدًا، بل توثيقٌ للعجز العالمى، وتسجيلٌ للتاريخ أن هناك من لم يصمت. حين تُطالب برفعٍ فورىٍّ وغير مشروط للحصار على غزة، فهى تربط القانون بالواقع، وتفضح النفاق العالمى الذى يُناقش «الهدن الإنسانية»، بينما يغض الطرف عن تجويع مليونَى إنسان. حين تصر على حماية الأونروا وموظفيها، فهى تُدافع عن أدوات الأممالمتحدة ذاتها، فى وقتٍ يتواطأ فيه المجتمع الدولى عبر الصمت وغض الطرف. صحيح أن هناك دولًا قدَّمت مرافعاتها كذلك، لكن مصر بما لها من ثقلٍ إقليمىٍّ وتاريخٍ سياسىٍّ فى الملف الفلسطينى، تُمثِّل حجر الزاوية فى هذه المعركة، مصر تعرف أن الكلمة فى لاهاى، إن قِيلت بجرأةٍ وبلغة القانون، قد لا تُوقف القصف، لكنها تفضح الجريمة، وتُدخلها فى سجلٍ لا يُمحى. ما فعلته مصر بالأمس هو تسجيل موقف، لكن ليس مجرد موقف عابر، إنه ترسيخٌ لنهج جديد فى دبلوماسية الصراع: حين تفشل المعاهدات، نلجأ إلى القانون، وحين يخون العالم ضميره، نُقيم له مرآة أمام قضاة التاريخ. في الختام: مصر تترافع أمام المحكمة... لكنها فى الحقيقة تترافع أمام الضمير العالمى. حين وقف السفير حاتم عبد القادر والدكتورة ياسمين موسى أمام محكمة العدل الدولية، لم يكونا فقط يُمثِّلان الدولة المصرية، بل كانا يُقدِّمان مرافعة الضمير العربى، كانا يقولان ما عجزت عنه أنظمة، وخافت منه حكومات، وتحاشته منابر إعلامية، كانا يصوغان المرافعة باسم كل أم ثكلى فى غزة، وكل طبيبٍ قضى وهو يُعالج جريحًا، وكل طفلٍ لم يجد ما يأكله، بينما الطائرات فوقه ترسم النهاية. مصر، بهذه الخطوة، لم تتحدَّث باسم الفلسطينيين فقط، بل باسم العدالة ذاتها.