تمخضت أفكار التحليل النفسى عن منهج لعلاج الاضطرابات العقلية، أصبح هو التقليد السائد فى مُعظم البلدان. أهدانى د. خالد أبو الليل رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب فى آخر مرة زرته فيها العدد الجديد من مجلة علم النفس، وهى مجلة تصدُر عن الهيئة. والعدد الذى أهداه لى يرأس مجلس إدارته رئيس الهيئة السابق الأستاذ د. أحمد بهى الدين، وتتولى رئاسة تحرير المجلة الدكتورة آمال كمال، ويدير تحريرها جودة رفاعى، وسكرتيرا التحرير وردة عبد الحليم، وميرفت شعبان. وهناك هيئة استشارية من علماء النفس يصل عددهم إلى حوالى 20 عالمًا، وأغلبهم من مصر ومعهم علماء عرب وعلماء من العالم. الدراسة التى توقفت أمامها عنوانها: فرويد: قراءة عصرية، وصاحب المقال د. خالد محمد عبد الغنى. والمقال مهم وربما كان من الصعب تلخيصه، ولكنى أحاول أن أُشرِك القارئ معى فى قراءته. يبدأ هكذا: - إن تاريخًا يمتد لمائة عام كان من شأنه أن يُحَوِّل التحليل النفسى لتقليد فكرى مستقل وجاد وناضج. لا يخفى على أحد نجاحه فى الاحتفاظ بقدرته على تحدى الحقائق الراسخة فى معظم مجالات ثقافتنا. واليوم يتعرض الطبيب النفسى للنقد والمساءلة من قِبَل المشتغلين فى مجال التحليل النفسى. مثلما حدث مع اختصاصى الأمراض العصبية فى عصر فرويد، فى مطلع القرن العشرين بفيينا. وفى عصرنا الحالى لا يسع نُقَّاد الثقافة سواء كانوا معارضين لأفكار التحليل النفسى، أو متفقين معها إغفال اعتبارات الداخل اللاواعى والآليات الدفاعية وتجارب الطفولة المُبكِّرة وغيرها من اكتشافاتٍ لا تُحصى قدمها التحليل النفسى لثقافة القرن العشرين. وفوق ذلك تمخضت أفكار التحليل النفسى عن منهج لعلاج الاضطرابات العقلية، أصبح هو التقليد السائد فى مُعظم البلدان على الأقل فى العالم الغربى. لا عجب أن فكر التحليل النفسى لا تتم مواجهته ممن ينتقصون من قدره وهم أفراد يتشككون فى أساسه المعرفى ومزاعمه المفاهيمية. والمجلة التى نعرض لها طال انتظارها. فهى تشرح أفكار فرويد وما قدمه من إسهام ثورى، ويجمع بين التحقيق العميق لأعماله الأصلية، وبعض من التفسيرات الأحدث لها، ويضم مجموعة من الأوراق البحثية كتبها أشهر المحللين النفسيين ممن قدموا إسهامات مبتكرة لمجال التحليل النفسى. ويستعرض كل فصل من فصول المجلة أحد النصوص الأساسية التى كتبها فرويد، ويربطه بالفكر المعاصر فى مجال التحليل النفسى. كما يضم بعضًا من أشهر الحالات النفسية التى تولَّى فرويد علاجها، والتى استقى منها أغلب مفاهيم التحليل النفسى الذى يعتمد عليها الطب النفسى المعاصر، إلى جانب مناقشات مستفيضة عن هذه الحالات وأثرها فى تطور المنهج الفرويدى. والمجلة التى بين أيدينا تقع فى 296 صفحة وتضم ستة أبواب، يقدم كل باب عدة فصول، وجميع المساهمين فى هذه المجلة أطباء ومعلمين وكُتَّاب. ومن ثم سوف يقدمون منظورًا متعدد الأوجه كما فعل فرويد نفسه. إنهم يلخصون الأفكار أو الموضوعات الرئيسية للبحث فى علم النفس. ويتبعون ذلك بمناقشة حول جذور الأفكار التى يتناولها البحث والتطور الذى طرأ عليها فى فكر فرويد. ويختتم كل فصل بتقييم من الكاتب، وعلى الرغم من أن معظم الفصول قد اتبعت هذا النسق، فإن بعضها قد اتخذ نسقًا خاصًا به. وحيث يصبح البحث الأصلى لفرويد مصدر إلهام يستمد منه الكاتب الأفكار الخاصة به. إن ما يخرج به الإنسان من قراءة البحث المهم أن تدوين تاريخ أى نظرية هو تدوين لتاريخ الترددات التى يقع فيها العالم، ويشير الباحثون إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ الأفكار لأى مفهوم ينبغى النظر إلى السياق الذى يوجد فيه. ورغم أن فرويد استعان بالميادين المتعددة للمعرفة فى زمنه، فإن التحليل النفسى مرتبط جوهريًا برؤيته للطبيعة البشرية، مما يؤسس لانفصال حقيقى عن المعرفة السابقة. فاللاوعى مجهول بالأساس ويتم الوصول إليه من خلال عملية بناء. وفرويد أيضًا دائمًا ما يُراجع أفكاره، مُحدِثًا انفصالات معرفية داخل مجموعة نظرياته. ومن المؤكد أن عزل أى جانب من تفكيره يعنى تجاهل هذه العملية المستمرة من التطوير والتغيير. إن كل المساهمين فى هذا الكتاب المهم يواصلون إحياء هذا التقليد الفرويدى الجوهرى من خلال فهمهم العميق للأفكار والمفاهيم الفرويدية وتعميقهم لمعناها، وتعزيز عملية التفكير من خلال إبداعهم الخاص. إنها مجلة مهمة فى ميدانٍ صعب القضايا على القارئ حتى المتخصص.