في قاعة المحكمة، وقفت وهي تحتضن وليدتها التي لم يمضِ على قدومها سوى أيام. كانت الطفلة تبكي جوعا، وحزنا على قدرها التي ولدت فيه، بينما عينا الأم متعلقتان بالأرض، تتفادى نظرات الحضور التي تنهشها. القاضي يتلو التهمة: قتل زوجها وأطفاله الستة، جميعًا بخبز مسموم. ◄ بيت يسكنه التوجس في قرية دلجا، حيث البيوت المتلاصقة والطرقات الضيقة التي تحمل أصوات الأطفال قبل أن تحمل خطوات الكبار، كانت الحكاية تُكتب بصمت. بيت ناصر، الزوج والأب، كان دائمًا يعج بالحركة: ستة أطفال يملؤون الدنيا ضحكًا وشغبًا، لكن بين جدرانه، كانت نعمة الزوجة الثانية، تزداد عزلة وغليانًا. كل زيارة للزوجة الأولى كانت كجرس إنذار، كل ضحكة من الأطفال كانت كصفعة، لم ترَ فيهم براءة الطفولة، بل خيالًا يهدد مكانها. ◄ السم في الرغيف في صباح بدا عاديًا، نهضت نعمة كغيرها من نساء القرية، عجنت الدقيق بالماء، أشعلت الفرن الطيني، ووضعت الأرغفة لتنتفخ. لكن هذه المرة، دسّت في العجين مبيدًا حشريًا، حول الرغيف من رمز حياة إلى أداة فناء. قدّمت الخبز للأطفال بملامح عادية، ربما بابتسامة زائفة، دقائق قليلة، وارتفعت صرخات الألم، صغار يتلوون، يصرخون، عيونهم تتسع من الرعب، هرول الأب بهم إلى المستشفى، لكن الموت كان أسرع. واحدًا تلو الآخر، سقطوا كالعصافير المذبوحة، حتى خيّم الصمت على البيت، وبعد أيام قليلة، سقط الأب نفسه ضحيةً للرغيف ذاته. ◄ القرية التي لم تنم القرية كلها لم تغمض عينًا. في الشوارع الضيقة، جلس الرجال يهزون رؤوسهم في صمت، والنساء يتبادلن همسات بين الدموع: «إزاي؟! تأكلهم من إيديها وبعدين تقتلهم؟». الأطفال توقفوا عن اللعب أمام بيت الضحايا، وكأن أرواح الصغار التي غابت ما زالت تحوم هناك. كل بيت أغلق أبوابه مبكرًا، وكأن الرعب يمكن أن يتسرب من بيت نعمة إلى بيوتهم. ◄محكمة وأمومة مشوهة اليوم، وفي قاعة المحكمة، اجتمع النقيضان: طفلة رضيعة بحضنها، وأطفال لقوا حتفهم على يدها، الحاضرون يتساءلون: أي قلب هذا الذي يجمع بين الحنان والقتل؟ جلست والدة الضحايا تبكي بحرقة: «خدت مني ستة من روحي.. عاوزة حقي». القاضي يطرق بمطرقته، المحامون يتجادلون، لكن الأنظار كلها معلقة بالمرأة التي جمعت بين لقبين مستحيلين: أمّ وقاتلة. ◄ النهاية التي لا تنتهي ربما ستنطق العدالة بحكمها، لكن القرية ستبقى جرحًا مفتوحًا. في كل رغيف يخرج من فرن طيني، سيتذكر الناس أن الخبز قد يخون. وفي كل ضحكة طفل، ستتردّد الهمسات: «الله يرحمهم». وستظل الصورة حاضرة: امرأة تحمل طفلة بريئة، في حين تقف متهمة بقتل سبعة من أفراد بيتها. اسمها سيبقى محفورًا في ذاكرة القرية ككابوس لا يُمحى.