عضو "قيم البرلمان": الحوار الوطني فكرة ناجحة .. وتفعيل توصياته انتصار للديمقراطية    رئيس جامعة الأقصر يشارك باجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    متظاهرون إسرائيليون يغلقون شارع «أيالون» ويشعلون النار وسط الطريق    وزير الرياضة يهنئ الخماسي الحديث بالنتائج المتميزة بكأس العالم    اليوم عيد.. وزير الرياضة يشهد قرعة نهائيات دوري توتال انرجيز النسخة العاشرة    ضبط دقيق مهرب وسلع غير صالحة وسجائر مجهولة فى حملة تموينية بالإسكندرية    في ثالث أيام مهرجان الإسكندرية.. تفاعل كبير مع «شدة ممتدة» و «النداء الأخير»    التمساح سابقا.. مدينة الإسماعيلية تحتفل ب162 عاما على وضع حجر أساس إنشائها    لميس الحديدي: رئيسة جامعة كولومبيا المصرية تواجه مصيرا صعبا    قطارات السكة الحديد تغطي سيناء من القنطرة إلى بئر العبد.. خريطة المحطات    شرايين الحياة إلى سيناء    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    تعليق ناري من أحمد موسى على مشاهد اعتقالات الطلاب في أمريكا    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    افتتاح المدينة الطبية بجامعة عين شمس 2025    ما هي مواعيد غلق المحال والكافيهات بعد تطبيق التوقيت الصيفي؟    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    «الحياة اليوم» يرصد حفل «حياة كريمة» لدعم الأسر الأولى بالرعاية في الغربية    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    80 شاحنة من المساعدات الإنسانية تعبر من رفح إلى فلسطين (فيديو)    غدا.. إعادة إجراءات محاكمة متهم في قضية "رشوة آثار إمبابة"    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    طاقة نارية.. خبيرة أبراج تحذر أصحاب برج الأسد من هذا القرار    أنس جابر تواصل تألقها وتتأهل لثمن نهائي بطولة مدريد للتنس    بالصور.. مجموعة لأبرز السيارات النادرة بمئوية نادى السيارات والرحلات المصري    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة| الأنابيب الكيني يفوز على مايو كاني الكاميروني    ليفربول يُعوّض فينورد الهولندي 11 مليون يورو بعد اتفاقه مع المدرب الجديد    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    بلينكن في الصين.. ملفات شائكة تعكر صفو العلاقات بين واشنطن وبكين    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    عمرو صبحي يكتب: نصائح لتفادي خوف المطبات الجوية اثناء السفر    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضجيج الضفادع..رواية..السيد نجم
نشر في الأهالي يوم 08 - 01 - 2022


ضجيج الضفادع
السيد نجم
الجزء الأول
القسم الأول
أصل الحكاية
أرجوك لا تنخدع وأنت تقرأ هذا النص، أنت لا تقرأ رواية.
لم أحاول كتابة تلك الحكايات الكاذبة الجميلة المشوقة.. أعترفُ أنني قَرَأْتُ رواياتِ روسيا القيصرية؛ فجعلتْنِي أبحث عن كُتُبِ الروايات لغير الروس. لشدَّةِ سذاجتي وتعلقي بهذا الحكي، كنت أشتري الكتاب من عنوانه، ولا أُفَرِّق بين الروائي، والصحفي في قسم الحوادث، لكن بمضي الوقت اكتسبتُ خبرة التمييز.
فيما بعد سألْتُ «جميلة»، ويا ليتني ما فعلتُ، سألتُها ذاتَ ليلة عن رأيِها في هذا الموضوع؟ موضوعِ كتبِ الحوادثِ والروايات.. فما كان منها إلا أن غضبَتْ غضبًا شديدًا، قائلةً: «هي العفاريت، أكيد سرّ الأرق وقلة الراحة بالليل، عفاريت المقتولين وحوادث أقسام الشرطة التي تكتب عنها!».
رغم كثرة القراءة، فلا أجيد حنكة صياغتها، وبناء الفقرات، والفصول، والأجزاء، في فن صياغة الرواية.. ولا كيف أبدأ وكيف أنتهي؟.. ولا حتى معنى إبراز دخائل النفس البشرية والانقلاب الدرامي والتشويق.. لا، لا .. لا أعرفُ أسرارَها البتة، وأنصحُكَ بأن تأخُذَ من كلماتي ما يرضيك ولا تعبأ بما يغضبك!
بقيت «جميلة» عند رأيها عن سبب قلة النوم والأرق، الجديد أنها ما عادت تشكو من الأرق، بل تستيقظ كل صباح، وكأنها نامت نومًا عميقا.. يملأ وجهها ضياء لا أستطيع وصفه، بشرتها السمراء الأبنوسية تبدو لامعة ومشدودة، على الرغم من سنوات عمرها المديد، سوف تقدر بنفسك كم تبلغ جميلة من العمر.. بان لي هذا أثناء فترة احتلال بيتي الكبير في المنصورية بأسرتي؛ أبنائي: الجنرال والإعلامي ومعهما الابن الأصغر عصام!
بالمناسبة وحتى لا تتوه الأفكار وأشرد، يجب أن أوضح هنا أنه من المهم جدًّا أن تعرف بعض الشيء عن جميلة.. نوبية الأصول والأجداد، فقدت أبويها أثناء الهجرة الكبرى من بلاد النوبة بسبب بناء السد العالي.. ربما أجد فرصة أخرى أحكي لك حكاية تسلمي لها؛ أنا «عبد الوارث المصري» مهندس الري، فترة عملي بمديرية أسوان. هي إذًا تلك الفتاة الصغيرة النوبية، مجهولة الاسم في مبنى قسم الشرطة!
بينما ظلَّ المأمور يتحدث عنها مُدَللًا وهو يناديها أو يتحدث عنها، وكما مع كل الفتيات الصغيرات يشير إليها ب«الجميلة».. فلما حان وقت تسليمها لي، كتب المأمور في محضر تسليمها اسم «جميلة»، ثم أضاف اسمه ولقبه «جميلة حافظ أبو الحجاج»!
لأنني بلا مستقبل تقريبًا، فقد عبرت السبعين من عمري، أنبهك أن تصدق ما سوف أقوله، ولك أن تعتبره اعترافًا مني أو تحذيرًا لغيري: الأيام تمر والعمر قصير، ولا يبقى إلا الأمل بالدعاء لأحبائنا بالخير في الآخرة، أقول: نأمل للأحباب وندعو لهم.. ولم أقل أن نأمل وندعو لأنفسنا، حتمًا ترجون حُسن الخاتمة مثلي، لكن هل أنتم قلقون مثلي..؟ هل ما فعلت وأنجزت في السبعين سنة، يستحق التكريم في آخرتي؟ يبدو أنني لا أثق بما فعلت، وهو سبب خجلي من الله!
الغريب يوم أن سألت «جميلة» عن مشاعرها عما تتوقعه بعد موتها، بدت بارقة العينين، كأنها لم تطرح الموضوع يومًا ضمن أفكار رأسها، نبهتها على حين غفلة، أراها تخرج من الغرفة، أعدت كوبين من الشاي، وهو ما لم أطلبه، رفعت الكوب الساخن من فوق الصينية، مدت ذراعها اليمنى، مالت بشدة فتعرت الذراع ولم تتململ، على غير عادتها، بقيت ممدودة الذراع، قالت: «أكيد يا سي عبده، إن ربنا سيعوضني عن أمي وأبي والنخلة الطويلة في حوش الدار»
أظن أنني ابتسمت وأنا أعقب قائلا: «بعد كل تلك السنوات تتذكرين النخلَةَ يا جميلة؟!» – «كما أتذكَّرُ اسمي الحقيقي»، فنظرت إليها محدقًا، وحدها تفهم معنى نظرتي تلك.. وكما هي عادتها لم تبح باسمها الذي ترفض أن تبوح به حتى اليوم.
بان لي أن كل ما حدث، وما زال يحدث، في كل مكان.. كل المدن والقرى، القريبة والبعيدة، لم يشغل بال جميلة في شيء، وهو ما آثار دهشتي والسؤال عما يدور في رأسها، كل ما شغلها ويشغلها دائما، هو ما كان مع «هانم» المرحومة زوجتي، ثم أولادي الثلاثة، رامز الجنرال، علام الإعلامي، عصام تلميذ الحقوق!
كلما شغلتني فكرة، وحيرتني مسألة، لم أبرح شاطئ ترعة المنصورية التي يطل البيت الكبير عليها. أظن أنني ما خلقت في هذه الدنيا إلا لأن أكون على مقربة من نهر النيل، هو كل همي أثناء فترة عملي في الري، وأصبح رافعًا همتي كلما شعرت بوحدتي.. تستطيع أن تسأل عما جعلني أتقلب على جمر النار، خلال الشهور القليلة الماضية، وهو ما جعلني أرجو أن أكتب حكايتي مع النيل.. أذكركم، لا تسألوني إن لم تتحول وتتشكل الحكاوي والأحداث إلى رواية.
 *****
أنا من المهندسين المتخصصين الأوائل في الري، بعد عدة أجيال من المهندسين الأقل خبرة مني! بداية من هؤلاء الذين أرسلهم «محمد علي» إلى بلاد الفرنجة لتعلم فنون الري، وحتى من تخرج في مدرسة المهندسخانة التي أنشأها، لن أتابع قبل أن تشاركوني الفكرة التي قفزت من رأسي حالًا.
عندما ورد اسم «محمد علي» لبيان دوره وأهميته، وجدتني توقفت بعد أن كتبت اسمه مجردًا من الألقاب، عدت وسبقت الاسم بالسلطان، لم أقتنع فكتبت الوالي، لم أجدها تلائم مكانة الرجل، فضلت أن أكتب خليفة مصر والسودان وبلاد الشام والعرب.. فما كان مني إلا أن ضحكت، ولا تسألني لماذا؟ لأني ببساطة كتب الاسم بلا ألقاب؛ «محمد علي»، هذا أفضل.
أعود وأخبركم عن خبراتي، بين جميع من مارسوا العمل بطول الوادي وعرضه، مع المجرى الرئيسي والرياحين والترع وحتى مجاري الصرف، ومع الخزان الكبير في أسوان والقناطر المتعددة.. تستطيع أن تقول بأنني شيخ حارة بحر النيل، أغلب المصريين يقولون «بحر النيل»، وأنا مثلهم!
عملت وعشت مع عدد من القناطر، أضعاف ما كانت في عهد محمد علي.. إليكم الحصر العملي والعلمي لها، لعلكم تقدرون كم كانت حياتي العملية ثرية وهامة: بداية يجب أن تعرف أن هناك قناطر شيدت من أجل حجز الماء والتحكم في منسوب مياه نهر النيل، بهدف تلاشي ضرر الفيضان وخطر الجفاف.. ثم للحفاظ على منسوب مناسب للمياه يمكن المراكب من حمل الأوزان والأحمال الثقيلة ونقلها شمالا وجنوبًا، وتوفير المياه الضرورية لري الزراعات، كما قد يتم توليد الكهرباء من بعضها. وأعتقد أنني ما زلت أتذكرها كلها أو بعضها: هاويس الإسماعيلية – سد وهاويس دمياط – هاويس نجع حمادي- قناطر إسنا- قناطر شراباص الجديدة- هاويس الرياح المنوفي- قناطر نجع حمادي الجديدة- هاويس إسنا الإضافي، وغيرها.
صحيح وبحق وحقيق محمد على شيد أهم وأكبر قناطر في زمنه، وهي القناطر الخيرية. كان اسمها القناطر المجيدة، والله هذا الرجل كان ذكيًا فلا يغفل الجانب الدعائي لمنجزاته! الغرض منها رفع مستوى مياه النيل،
في 12 مايو 1843. خلال التنفيذ ظهر خلل في بعض عيون القناطر بسبب ضغط المياه، توفي محمد على باشا، واستكملها عباس حلمي الأول، وفي عهد الخديوي إسماعيل تمت تقوية القناطر الخيرية، وظلت التجديدات تتوالى حتى أصبحت القناطر القديمة معلمًا أثريًّا! يبدو أن رعاية النيل وخدماته هي معيار إخلاص الحاكم لمصر.
أما قناطر أسيوط، فهي تصميم المهندس البريطاني السير ويليام «ويل كوكس»، الذي صمم سد أسوان.. فقدتم تشييدها لتحويل مياه النهر إلى المياه المنخفضة في أكبر قناة للري في مصر: ترعة الإبراهيمية، وقد تحولت آلاف الأفدنة إلى الري الدائم بفضلها، ثم قل بسبب رعايتي لها، فتلك القناطر ليست صخورًا مرصوصة، بل هي كائن حي في حاجة إلى عناية ورعاية!
كما شيدت قناطر ديروط، عام 1871، على يد المهندس «مصطفى بهجت» باشا، وهي عبارة عن عدة قناطر متصلة؛ قنطرة: ترعة الدلجاوي – بحر يوسف – الترعة الديروطية – الترعة الإبراهيمية – ترعة الساحل – قنطرة الصرف التي تصرف المياه إلى النيل، وأعترف أنني أحببت تلك القناطر وأحببتُ أهل ديروط، لأن من شَيَّدَها وشَيَّدَ الحدائق الجميلة حولها مصريّ.
ولا أنسى قناطر نجع حمادي، شيدت في عهد الملك فؤاد الأول عام 1930، لضمان ري مساحة 480 ألف فدان، من نجع حمادي حتى أسيوط.
وعندك قناطر إسنا، انتهوا من البناء عام 1908 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وهي للتحكم في تدفق المياه أثناء فترة الفيضان وتحسين الملاحة في مجرى النهر. وفي عام 1994 تم بناء قناطر إسنا الجديدة. دعوني أعترف لكم الآن، أن فترة إشرافي على تلك القناطر، كانت مملة ودمها ثقيل مثل الزوجة الغبية، ربما بسبب شعوري بالغربة لندرة وسائل الترفيه هناك!
ثم قناطر إدفينا، افتتحها «مصطفى النحاس» باشا رئيس الوزراء عام 1951، على بُعد 20 كم جنوبي مدينة رشيد، وهي تمثل موقعًا ومزارًا سياحيًا وعلى مقربة منها تقع مدينة مطوبس، وقرية أبيانة التي ولد بها الزعيم سعد زغلول. وهى الوحيدة التي تحجز مياه نهر النيل عن مياه البحر الأبيض المتوسط.. وطوال فترة خدمتي هناك كنت أنتهز فرصة المدرسية للأولاد وأصطحبهم، كانت فترة عمل ونزهة في أدفينا.
ولن أنسى قناطر زفتى، التي تم بناؤها في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وأعيد تجديدها عام 1954، تتكون من 50 فتحة، وتعتبر من الآثار المعمارية الفريدة. كثيرًا ما كنت التقط لها الصور الفوتوغرافية، وأنا واقفٌ فوق عيونها أو فتحاتها.
هذه المعلومات لم أتوقف أمامها بالمجان، حتى لا يتعلل بها بعضكم بأن ما أكتبه مملا.. نعم، لي مع كل سد وقنطرة وهاويس وترعة ورياح، حكاية، يدي وعقلي عملا فيها، وهو ما شكل خبرتي النادرة في الري عمومًا، وفي مجرى نهر النيل أو بحر النيل خصوصًا!
أعود وأذكرك أنه بعد كل تلك الخبرة، لم أجد مهلة من الوقت، ولا راحة بال، التي تجعلني أجلس كي أكتب عن تلك الجريمة!.. ترى هل بالغت وأخطأت التعبير؟ هل كان من المفروض أن أتحدث بعقلانية أكثر تتناسب مع سنوات عمري وحنكة الأيام وخبرتي؟
وصول الأمر إلى تلك الحالة التي تجعل الناس غير مبالين وهم إلى جوار مجرى مياه بحر النيل، النهر العتيق، نهر السماء، ويسيئون إليه، تلك جريمة بحق، وهو ما جعلني أمسك بالقلم لأخط كلمات وحروفًا لا أعرف مصيرها، ولا من أين أبدأ ولا كيف أنتهي؟
فمن الناس من يرمي بجسده فيه، على ذمة أن يزهق روحه بين طيات النهر لعله يخفي سرًا من أسراره؟! ومنهم من يجعله مناط نشاطه الأناني، فيقتل كل جميل فوق ضفتيه، ببناء ملاهٍ أو أوكار أو حتى فنادق على مستوى نجوم عديدة يفهمها أرباب السياحة وأباطرة الترفيه! ومنهم من شاء أن يدنس مياهه الطاهرة ببوله ويفرغ فيه دنس محتوى أمعائه، بل ومخلفات أعماله الشيطانية! ومنهم من ضاقت به السبل ولم يجد سوى القارب الضيق الخشبي، رحيما به فوق سطح مياه النهر العكرة!.. ألستُ محقًا الآن، ومن الضروري أن أذهب معكم إلى أول الحكاية.
************
(1) همس ليلة نيلية..
صغيرًا سمعتُ صرخة، صرختين وأكثر عكرت علىّ مُتعة اللعب في الحديقة الخلفية للبيت الكبير المطل على ترعة المنصورية، لعله المبنى الوحيد المشيد بالأحجار، وأجزاء قليلة منه بالطوب الأحمر. بالرغم من صغر سني، لم أتجاوز الحادية عشرة.. تبين من الصرخات ما جعلني أتوجس وشعرت بالرعب! الصرخة لصوت ممزوج بغرغرة مياه، فتأكدت مشاعري، وسمعت مَن أخبر سحابة المغربية في السماء البعيدة هناك أن البنت «حفيظة» ألقَتْ بنفسِها في مياه الترعة!
الصُّرَاخُ مَزَّقَ قلبي، حرمني من استكمال اللعب، اندفعت، كنت أظن أنني قادر على العون والمساعدة لإنقاذ «حفيظة»، كثيرًا ما كانت تَضُمُّني إلى صَدْرِها كلما لمحتني ألهو بعيدًا عن عيون أمي أو أبي أو الخدم. لم أكن أفهم ما بعد العناق وهي تقول إنها تحبني مثل «شحاتة» طريد خفر العمدة وأهل القرية، وهو صائد الضفادع الشهير.. ليست الضفادع وحدها، معها الثعابين وفئران الغيط، وكائنات أخرى يرعاها حتى بداية الدراسة، ويبيعها لطلبة كليات الطب والعلوم بجامعة القاهرة القريبة من المنصورية!
لم أكن أشعر برغبة لردها ودفعها بعيدًا، على العكس دون خبرة سابقة نجحت في أن أجعلها تنظر نحوي دهشة، ثم تقول وتكرر أنها بدأت تحبني أكثر من «شحاتة»، يكفي أن لي رائحة الزبد والعسل، بينما رائحة شحاتة البتاو المصنوع بدقيق الذرة.. مع ذلك لم أفهم لماذا؟ عدت وأخبرت أمي عما تفعله «حفيظة» بجسدي، وأنني أشعر بحنانها بأكثر من أمي!
ثارت أمي، أمرتني ألا أتركها تفعل بي تلك الفعلة، لكنها لم توضح لي ما تقصده بكلمة «الفعلة»، ولم يخطر ببالي أنني أفعل ما يغضب أحد، لأنني أشعر بسعادة لذة غامضة، أتمنى أن تطول! أتلذذ بلدغة العقرب كما تقول أمي، تضمني إلى ليونة صدرها الرجراجة، ودفء أو حتى صهد حضنها، فلا أمل.
لن أخبركم ماذا فعلت «حفيظة» وفعلت معها، كي نتسلل من قبضة مراقبة أمي. أظن أنه غالبًا لولا انفعالي أمي المفرط وانتباهها الزائد، ما كنت حرصت كل الحرص على مغافلتها، وتوفير سبل تسلل حفيظة إلى الحديقة الخلفية للبيت بكل الحيل الجهنمية، والجلوس معها لساعات، وربما لدقائق حسب الأحوال!
بعد أن كنا نسرق اللمسات والمماحكات والقبض والقبص، أصبحنا نفعل الفعلة نفسها، ولكن بهدوء وروية وحنكة لا تتناسب أبدًا مع طفل غر تتمنى الفتاة الجميلة القصيرة اللينة أن ترضيه كي يبقى على كرمه الذي يتجلى في كل تصرفاته معها.. مرة بإعطائها ما يتحصل عليه من قروش يومية، أو بإعطائها الخبز الساخن والزبد يوم الخبيز.. حين يفرط الولد في طلب المزيد من أرغفة الخبز، تفرح الأم ظنًا منها أن خبيزها الشهي وراء شراهة الولد!
كان من السهل الهين أن أعطيها بذر زبدة أسرقه من ماعون الزبد، أو بعدد من كيزان الذرة، أو حتى ببعض الطحين والبيض من عشة الفراخ.. أجدها تتعلق بي أكثر كثيرًا عما قبل. أكثر ما شد انتباهي، أن حفيظة نبهت عندي شيئا ما كنت أعرف تفسيره، لكنه لذيذ وفيه من المشاعر ما يعني أنني أصبحت رجلا، حفيظة نفسها أخبرتني بذلك ذات مرة! لكنها عادت وقالت: «بدأت أخاف منك.. أنا بنت بنوت يا عبده؟!».. فهمت المعنى وما تقصده فيما بعد، وابتسمت فخورًا بذكورتي وفحولتي التي أستشعرها ولا أعرف معناها!
كثيرًا ما بقيت تراودني حفيظة التي ألقت بنفسها في مياه المنصورية، أحيانا أتذكرها وأنا أقرأ حكايات عروس النيل، تلك الفتاة الجميلة البكر التي يلقونها في مياه النيل كي يفيض فلا يطغي، ويعطي فلا تجف الأرض وتموت الزراعات!
********
صدقني الآن لو قلت لك إن علاقتي بعروس النيل بدأت منذ أحداث تلك الليلة السوداء، التي قررت فيها «حفيظة» الانتحار. ما كان يشغلني وأنا بين أهل القرية أحاول دخول الكوخ الخوص الذي تقيم فيه البنت الغلبانة بعد محاولة إنقاذها، كنت أتمني لو أراها تتنفس.. كان علىّ أن أتأكد من موتها بنفسي.. ولمكانة جدي وأبي وعائلتي بين أهل القرية سمحوا لي بأن أدخل. وسط دهشتي قبل الجميع، رأيت وكل من كان داخل الكوخ شاهد.. نعم شاهد الجميع وحفيظة تبتسم لي، بسمة واحدة، لا أدري كيف يصل إحساسي إليك وأنا أقول بسمة واحدة، هل ابتسمت وماتت فورًا؟.. أم ابتسمت ولم تقدر على الابتسام من بعد، أم لا هذا ولا ذاك ولم تبتسم قط بل ظننتها تبتسم؟!
لكنني الآن لا أتذكر متى أعلنت النسوة موت حفيظة بالضبط، هل وهي مبتسمة البسمة الغامضة لي وحدي.. أم بعدها؟ سمعت جيدًا من إحداهن تغمز بطرف عينيها، وهي تقول: «البنت حفيظة طول عمرها فاجرة، حتى وهي بتموت؟!»
طوال تلك السنوات الطويلة راودني السؤال: «لماذا اختارت حفيظة النيل بمياهه الرائقة – كانت رائقة في تلك السنوات البعيدة- كنت أرى البهائم تنزل لتشرب من مياهه، والقوارب الصغيرة والكبيرة ترمي الشباك وتصيد من خيراته، حتى أبي الذي لم أره يضحك، أراه مبتسمًا أحيانا إذا ما تناول وجبة العشاء في الجزء الخلفي من البيت إلى جوار ضفة المنصورية، يحتسي الشاي بعد تناول العشاء.. ثم ينظر نحو أمي مع ابتسامة غامضة، وفيما بعد فهمتها، فتنهض مبتسمة هي الأخرى.. قبل أن تغرب تدور دورة كاملة، تأمرني أن أذهب للنوم حالا، تحذرني بألا أبقى وحدي مع مياه النيل والظلمة، وإلا خرجت النداهة وسحبتني إلى بيتها في قاع الترعة. كنت أعلم أنها تقصد حفيظة تأتيني في الظلمة، وليست النداهة الغامضة!».
بمرور الوقت أصبحت بخبرة أبي في كشف أسرار مياه بحر النيل والبسمة الصامتة بين ذكر وأنثى، إن لم تتسلل حفيظة إلى حيث أنتظرها، أتسلل أنا، المشكلة كمية الأتربة التي تكتشفها أمي بجسدي وشعر رأسي أو بملابسي! ولأنني من الأوفياء، لم أنس حفيظة أبدًا، تعمدت أن أكتب عنها في دفتري الورقي وكنيتها «هاميس» اسم آخر عروس النيل في الأسطورة.
قديما كانوا يحاولون إرضاء الإله حابي، إله بحر النيل، وهو إله الخصب والمتحكم في مزاجه وأحواله. الأسطورة تقول إن المصريين، في كل سنة، كانوا يرمون عروسًا حية في النيل ليرضوه.. أنت عروس النيل يا حفيظة، حتى الآن أتذكرك ولم أنس نعومة جلد بطنك وردفيك، ونعومة الكلمات المنسابة من بين شفتيك، كأنك لست حفيظة التي يلعنها كل سكان القرية، حتى شيخ المسجد والخفراء والعمدة!تعمدت الحصول على أسطورة «هاميس» آخر عرائس النيل، ولا أدري لماذا كلما قرأتها.. كأنني أقرأ عن حفيظة؟!
(عند ليلة ثلاثة عشرة من شهر بؤونة يعمدون إلى فتاة بكر (عذراء)، تؤخذ من أبويها ويحملون عليها من الحلي والثياب ثم يلقون بها في النيل؛ وفي معتقدات المصريين القدماء أنهم إن لم يقوموا برمي هذه الفتاة. التي أطلقوا عليها عروس النيل: فإن النيل لن يجري ولن يأتي الفيضان بالخير…)
(ويحكى أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون النيل (إله – حابي) إله الخير والنماء والخصب.. لأنه شريان الحياة في مصر. وكان النيل يفيض بالخير ويعم الرخاء وتزرع البلاد كل أنواع المحاصيل… لكن في سنة من السنين أبى النيل ألا تفيض مياهه وحل الجدب والقحط على أرض مصر وتعذب المصريون! أشار الكاهن على الملك بأن النيل غضبان لأنه يريد الزواج وتكون له ذرية… فتهافتت الفتيات يردن الزواج من إله الخير. كانت تقام المراسم والاحتفالات ويقوم الكاهن باختيار أجمل فتاة، وبعد الانتهاء من المراسم تقوم العروس، وترمي بنفسها في النيل وهى سعيدة راضية؛ لأنها ستلتقي بحبيبها إله الخير في العالم الآخر..)
ويحكى أنه استمر الاحتفال سنوات وسنوات حتى إنه لم يجد فتيات لهذا الأمر، ولكن الكاهن أصر على الاحتفال؛ فلم يجدوا إلا بنت الملك وكانت جميلة وفاتنة ولها خادمة ذكيه تقوم على رعايتها وتحبها حبًّا لا يوصف .. فحزنت الخادمة وأرادت أن تحتفظ ببنت الملك حتى لو انتهى الأمر بعدم فيضان النيل! فأخذت تفكر وتفكر حتى هداها تفكيرها إلى أن تصنع دمية شبيهة ببنت الملك صورة طبق الأصل، لا يُفرِّقها إلا وجود الروح فيها، ثم قامت بتزيين العروس، وصممت أن تلقيها بيدها هي في النيل لتزفها إلى حبيبها، وتمت المراسم وانتهى الحفل، وأصاب الملك كآبة ويأس وحزن شديد على فراق ابنته الغالية حتى أصبح طريح الفراش.. وهو لا يدري أن الخادمة أخفت البنت في بيتها وبين أولادها، ولما رأت حزن الملك وازدياد مرضه يوما بعد يوم، أشفقت عليه بعد أن كانت ستأخذ البنت لنفسها وتربيها على أنها ابنتها، لأنها في الواقع أصبحت في نظر الجميع عروسة النيل. وفي أحد الأيام وبعد أن أشرقت الشمس وطل الصباح بنوره الوضاء، أخذت الخادمة البنت وقالت للملك: هذه ابنتك سليمة معافاة لم يصبها أذى، ولم تمس بسوء وكانت عندي معززة مكرمة.. فلم يتمالك الملك نفسه وأخذ يحتضن ابنته بطريقة هستيرية وشكر الخادمة، وقربها إليه وأعطاها الكثير من الهدايا مما لا يقدر بثمن؛ وبعد ذلك في كل عام يصنعون دمية جميلة ويقيمون الاحتفالات بجانب النيل ثم يرمون الدمية إلى النهر العظيم..)
..لم تنته أخبار حكاية عروس النيل، تمامًا كما لم تنته حكاية حفيظة معي، فالأولى أستحضرها من داخل الكتب والحكايات، والثانية من داخل ضلوع صدري؛ فلما تفيض مشاعري أنتبه إلى أنني بدأت أكبر، ويجب ألا أن أبدو هكذا خياليًا ممن يشردون، وعندما يسألهم المرافقون عن سبب الشرود، يردون بنفي الشرود عن أنفسهم، فيتشكك الجميع!
.. أصبحت مهندسًا للري يهابني الجميع، وأصبحت زوجًا وأبًا لثلاثة أولاد، ثم أحلت إلى المعاش وعبرت السبعين سنة.. وبعد كل تلك المتغيرات لم تتغير مشاعري مع عروس النيل، أقصد المنتحرة المجنونة ابنة المجانين حفيظة، التي ذهبت ولم تترك لي فرصة لكي أستحضرها في صورة أو رسمة، بينما خيالي الملعون يشكلها بهيئة كل ملكات الجمال في العالم!
لا عليك، دعك مني ودعنا نتحدث حول عروس النيل، قرأت رأيًا رصينًا للدكتورة «نعمات أحمد فؤاد» عاشقة النيل مثلي، في كتابها «القاهرة في حياتي»: «إن حكاية عروس النيل ليس لها أساس تاريخي، ولم ترد غير القصة التي ذكرها (بلوتراك) التي تقول إن (إيجيبتوس) ملك مصر أراد اتقاء كوارث نزلت بالبلاد، فأشار إليه الكهنة بإلقاء ابنته في النيل ففعل! ثم ألمَّ به ندم شديد فألقى بنفسه في النيل، فهلك مثلما هَلَكَتْ»!
*********
(2) المنصورية ليست وطني
«المنصورية» هي القرية التي نزحت إليها مع مهندس الري عبد الوارث المصري، الرجل طيب القلب، وافق أن يتسلمني ويتكفل بالصرف عليَّ ورعايتي. استطيع الآن أن أحدثكم عن المنصورية أكثر كثيرًا جدًّا عن قريتي في النوبة التي نَسِيَتْ الكثير من تفاصيل المكان فيها.. قبل أن أجيء إلى المنصورية، أتذكر جيدًا.. كان النيل هو الشغل الشاغل لأمي وكل من حولنا في النوبة.
وشاء ربنا أن عشت وتربيت وكبرت في بيت رجل ممن يرعون نهر النيل، ومنه تعلمت الكثير. من آراء «سي عبده» عن المسئولين في الوزارة وهم أصحاب القرار الأخير في عمله، فهمت أنهم خلطة ما بين مسئول جاهل، ومسئول غبي، ومسئول منافق، ومسئول فاسد؟! استفسر في دهشة: «لماذا؟!»، دون تردد يتابع:«جميعهم لم يقفوا في مواجهة من جعلوا حياة النيل مهددة بالخراب.. حلت المباني محل الأراضي الزراعية على ضفتي النهر.. والمصيبة ما سمعته في التلفزيون عن أسباب انتشار الأمراض بسبب زبالة المصانع الملقاة في مياهه، يا خسارة لم تعد مياه النيل تصلح لشرب بقرة في يوم حار، ولا تصلح للوضوء!».
ما يهمني في بحر النيل، لا يهمه ولا يحدثني عنه. كما لم أهتم كثيرًا بكبر حجم البيت العتيق، يوم أن دخلته معلقة بكف الست هانم زوجه سي عبده لأول مرة. هكذا كانت حياتهما معًا، التنقل من سكن حكومي إلى آخر، وكلها إلى جوار السدود والقناطر والهواويس ومقياس المياه.. تلك اللوحة الرخامية المقسمة أو المدرجة بحيث تكشف عن ارتفاع المياه هنا أو هناك. لا يغرنك أن الأسرة تقيم في بيت كبير من طابقين مثل الفيلا، هو عندهم مثل فيلات أو قصور الأثرياء في منتجع «المنصورية» القريب..
زاد تعلقه بالبيت الكبير، ولم يبرح مكانه القريب من مياه نهر النيل بعد أن أُحيل إلى المعاش. يتكون البيت من دورين ومخزن أرضي، يكسو واجهته طلاء أخضر كالح مجرب بفعل الأمطار وأشعة الشمس. بينما يراه الرائي ليس أكثر من المبنى القديم المتشققة جدرانه والمطل على النيل، تم تشيده منذ سنوات، قد لا يصدق السامع ما يردده لسان عبد الوارث عن تاريخ دار الأجداد تلك.. يقول:
«تلك الفيلا بلا صكٍّ عند الحكومة، شيدها جدي الأكبر قبل أن يخترعوا الأختام وصكوك الملكية..! جيلا بعد جيل أقام فيها الأبناء، قد تبدو مع أحد الأجيال في أزهى رونقها، حتى تصبح مزارًا لسكان القرى المجاورة، وحتى شكَّلت التجمعات من حولها القرى القريبة جدًّا منها الآن، بعد أن كانت وحدها على الضفة الشرقية»..
لما جاء جيل بعدهم، وحضر دخول الكهرباء لبعض الأماكن في ريف مصر، ثم تمديد مواسير المياه لشركة المياه، نجح الخبيث أبي، ودخلت الكهرباء ومواسير المياه من دون صك يثبت ملكيته للدار، بحيلة تتعلق بمكانته بين الناس، فلم يسأله موظف الشركة عن مستندات الملكية.. ولا أبي نفسه يعلم ماذا قال المسئول في الشركتين بحيث لم تثر مشكلة عدم وجود سند الملكية هذا!
عندما جاء دوري.. لم يشغلني البيت كثيرًا، أراه صامدًا في مواجهة الحرارة والبرودة وقبل توقف فيضان النيل في أغسطس، كانت مياه النيل البنية تكسو عتبات مدخله.. رأيته صامدًا بعد كل تلك السنوات.شغلتني مياه النيل أكثر، هي التي تستحق، يمكنني البقاء داخل جدران البيت التي قد تبدو مشقوقة، ولكنها دارى التي ولدت فيها، وكلما سافرت للعمل بعيدًا، كنت أعود إليها..
كثيرًا ما كان يصمت ثم يعود ويتمتم: بعد كل تلك السنوات يبدو أنني لم أضف جديدًا.. ها هي ذي الجدران مشقوقة وجرباء؟! لم أكن أفهم ما يقصده ويعنيه، فأقترب منه وأقول بجد وباهتمام: «وأنا أرى البيت مثل الوردة، هي الوردة بعد ما تذبل بغيب ريحتها!»، في ليلة من الليالي التي تكلمنا فيها عن البيت والنيل، بان لي «سي عبده» كأنه اكتشف فجأة أنه يجلس فوق الكرسي الخيزران يتابع سريان مياه النيل بلا صوت يسمعه، لا جديد منذ سنوات طويلة يمضي ساعات أيامه بين النوم والبحلقة في مياه النيل؟!
ما قرأه وما عرفه عن نهر النيل كفيل وحده بأن نَصِف سي عبده بخزانة النيل، بعد أن كَلَّتْ عيناه وغلبتها السحابة البيضاء، تلك التي يرفض إجراء العملية الجراحية لإزاحتها.. لكنه في كل الأحوال قادر على استعادة كل ما يعرفه ويحفظه عن ظهر قلب.. ولا يتردد أن يلقنه لي بين الحين والحين، وحفظت عنه أغلب ما يردده، ماذا لو تسمعون بعض ما قاله لي، بدلا من المرة عشرات المرات، حتى لا تتهموني بالجهل بعد معاشرتي له كل تلك السنوات.. قال لي كثيرًا: القدماء لقبوا النيل في أناشيدهم وأغانيهم بأبي الآلهة، وهو لقب مستعار من الإله «نون» رب المياه الأزلية عند المصريين القدماء (الفراعنة)، الذي كان النيل ينبع منه.. غالبية الأنهار تكتسب اسمها من منبعها ليمتد الاسم إلى بقية مجري النهر، إلا أن الأمر معكوس بالنسبة لنهر النيل، فقد أطلق المصريون اسم النيل علي نهرهم المقدس، وهم سكان المصب، لأنهم يملكون حضارة تفوقت على جيرانها.
عرف المصريون أن للنهر منابعه البعيدة في الجنوب، من فرط تقديرهم وتقديسهم له ظلوا ينسبونه إلى الإله «نون»، حتى يتعامل المصريون مع النهر بحرص وتقديس حقيقيين باعتباره شريان حياة سكان الوادي الأخضر، يبعثه الإله للمصريين وليست الأمطار من هناك في البلاد البعيدة والجبال المرتفعة..».
وذات مرة لمحني «سي عبده» وأنا أبحلق فيه تارة وفي مياه النيل تارة أخرى، شاء أن يشاركني حفاوته بالنهر كعادته كلما جلست إليه فقال: «كان المصريون القدماء يطلقون لقب (أترو-عا) ومعناها بالمصرية القديمة (النهر العظيم) على مجرى النهر الرئيسي من أسوان إلى القاهرة، ومنها جاءت الكلمة المستخدمة حاليًا (الترعة).. فهمتِ يا جميلة، من القاهرة إلى أسوان لقب النهر العظيم..».
.. لم يسمع الرجل تعقيبًا مني، فتابع مشاهدة المياه العكرة أمامه: «الظاهر أن الإله (حابي) إله الفيضان قرر أن يجيء ويتحدى أفاعيل السد العالي!»،لم أضحك ولم أبتسم، ربما لم أفهم، فجأة على غير توقع سمعني بثقة أقول: «لم يحن وقت الفيضان يا سي عبده، لم يحن وقت أن تذرف إيزيس دموعها، لم يأت عيد بكاء إزيس على أوزيزريس لأنه في يوليو..».
ثم تابعت أنشد وسط ذهول سي عبده، في خشوع أقول:«المجد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض، ويحمل الخير لمصر،وعندما تفيض يعم الفرح البلاد..أنت تطفح فتسقي الحقول وتنعش القطعان وتمد الناس بالقوةإذا تأخرت بنعمك توقف دولاب الحياةوإذا غضبت حل الذعر في البلاديا سيد الأسماك ومنبت القمح والشعير والذرةأنت الذي يخلق كل الشباب والأولاد فرحون جذلونيحبونك أيها الملك».
أتذكر جيدًا أن انتابت الرجل نوبة هستيرية من الضحك! انتابته الدهشة أن سَمِع منِّي تلك الأبيات الشعرية العجيبة التي حفظتُها من كثرة ما رددها هو نفسه أمامي؟! فلما عَبَّر عن دهشته وسَمِع تعليقي على رأيِهِ، قلتُ: «يا سي عبده ربنا حرمني من الكثير إلا من قوة الذاكرة.. ألا يدهشك أنني ما زلتُ متذكرةً تفاصيلَ بيتي القديم وأبي وأمي والسيدة التي تركَتْنِي أمي بين ركبتيها، بل ومتذكرة المأمور وأنت متردِّد في التوقيع على عقد تسلُّمي؟!».
*******
منذ الخمسين سنة أو أكثر قليلًا، دخل المهندس عبد الوارث قسم شرطة مدينة أسوان، عرفتُ منه فيما بعد أن السبب هو اعتداء أسواني على حرمة النيل، رمى برميلًا ممتلئًا بزيت أسود اللون كريهِ الرائحة.. ما إن انتبه الرجل صاحب ورشة إصلاح السيارات، حتى أخذ يعدو وهو يقول بصوت جهوري: «لن أرمي الزيت في النيل مرة أخرى.. لن أفعل!».
رغم صغر سني، كان من الواضح أمامي وتأكدت منه ووضح لي، أن مهندس الري هذا له شهرة في كل المدينة، شهرة جعلَتْ الناس تعرِف ملامح سحنته، وما إن يروه قادمًا حتى يعدوا على غير هدى، بعيدًا عن موقع مخالفتهم على ضفتَىْ النهر! فما كان من المهندس الوقور إلا أن يشير للعمال من خلفه للقبض على الذي يعدو، وحتمًا وراءه مخالفة سوف تتبين له!
من كثرةِ المحاضر التي يتولى المهندس طلب تحريرها، أعدَّ مأمورُ نقطة الشرطة؛ نسخةً ثابتةً جاهزة إلا من نوعيةِ المخالفةِ وبياناتِ المتَّهَمِ، حَرَّرَها من أجل المهندس عبد الوارث المصري فقط! في تلك المرَّة وبعد أن استمَعَ المأمورُ له، وتابعَ ملامحَ وجهِه الغاضبة المتقلصة والشقوق على شكل الخطوط تكسو جبهته، كلها انفعالات معتادة يراها على وجه المهندس الشاب الذي تزوَّج حديثًا ولم ينجب بعد.. قرر المأمور قرارًا، لعل المهندس هو أنسب من يطلب منه ما قفز في خاطره حالًا.
بدت نظرات المأمور ذلك الرجل الذي أتذكره جيدًا.. بدين يلهث والعرق يتسربل من فوق جبهته فيظن البعض أنه منهك أو على وشك الإغماءة، وكأنه غير المنتبه وغير المستعد للتعاون معه، على غير عادته في أمور العمل المعتادة، كما كان منذ سنة تقريبًا، هي كل الفترة التي عمل فيها عبد الوارث في المدينة. فجأة نهض المأمور غير المبتسم واقفًا متحفزا يعرض طلبه، بدا وكأنه يأمر صديقه ولا يترك له فرصة للاعتراض أو الاعتذار: «سوف أحرر محضر المخالفة التي تحدثني عنها، على شرط واحد وعليك تنفيذه؟!». واضح أن عبد الوارث لم يقبل ولم يعترض أيضا، لكن المأمور لم يترك له فرصة للاختيار.. صاح باسم جندي الخدمة أمام باب الحجرة، أمره بإحضار «البنت التايهة فورًا»!
دخلت شاردة وقد غلبني الصمت، لكنني تأكدت فورا أن المهندس الوقور أكثر دهشة مني.. لم يصمت، بلسانه ونظراته وكفيه سأل المأمور، سأله أسئلة كثيرة وكلها فهمها الشرطي المحنك، فلما نطق لسانه: «من تلك الفتاة الغلبانة؟». قال المأمور: «ترفض النطق والكلام كما ترى، فقدت والديها في حادثة، نريد أن تستلمها رسميًا لتربيتها وتتكفلها.. والأجر والثواب عند الله..»، لما برقت عينا «سي عبده» وشرد، بدا كأنه متعاطفًا، لكنه يريد أن يعرف أكثر عن تلك الصغيرة.. فحدق بعينيه وفرد كفيه ناحية المأمور، فهم الشرطي المحنك، تابع يقول: «البنت ليست أسوانية بل هي من قرى النوبة، لما قرر أبواها البقاء فوق الأرض التي سوف تغرقها مياه السد العالي حتما، رفضا الرحيل، بقيا فوق موقع المقابر في انتظار الهلاك! هذا كل ما أخبرتنا به سيدة تسلَّمت الصغيرة من أمها فوق سطح المركب، قبل أن تتركهما الأم لتعود إلى الأب قبل أن يموت وحده، قرارهما أن يموتا معًا»!
السيدة قَصَّتْ لي كل ما دار فوق المركب الشراعي الذي بدا وكأنه يراقص الركاب فوقه، منهم الطفلة وأمها، حتى سقطت الأم عفوًا فوق كتفي إحداهن موشحة بالسواد مثلها، مالت ناحية أذنها اليمنى، همست بصوتها المسموع الذي لفت انتباه الجميع من حولهما، عرف كل من فوق المركب أن الأم سوف تترك طفلتها أمانة حتى يتم تسليمها لضابط الشرطة.. لأنها وأباها يخشيان على صغيرتهما من الغرق وشر المجهول!
مضت الأيام وعرف الجميع عني الصمت، لم يكن يحرر لساني طوال ساعاتِ اليقظة للأيام المعتادة الرتيبة، إلا حديثي من القلب عن أشواقي لملاقاة أبويَّ أو حتى رؤية قبرهما الغارق تحت مياه السد العالي! كما لم أكفَّ عن رَصْدِ حادثة لم أرها، عن بشاعة صُوَرٍ تخيلتُها لهما أثناء اندفاع تيار جارف من المياه البنية، بكل ما تحمل من بقايا الكائنات الحية والميتة، وكيف انقضت على أبي وأمي وحشرتهما في رمال القاع وصنعت لهما مقبرة؟!
كانت كلماتي كفيلة بأن تثير خيال وأفكار بل وأحزان مهندس الري وزوجته، لكنهما شعرا بالورطة.. ها أنا ذا أبكي أبويَّ، على الرغم من مرور السنوات البعيدة، وها هو ذا السد باقٍ يعمل لنصف قرن ويزيد، حتى لا يمكن تصور أحوال البلاد دونه.. الغريب والعجيب أن تضاربت مشاعر الرجل وزوجه قبل وفاتها، بل وزادت بين أمرين.. بين تعاطفهما مع أحقيتي في الحزن، وفرحتهما مع المصريين بخير السد العالي!
*********
بأي همس كان همس الله لي في أذني، جعلني أقبل كل ما سمعت وما طلب مني من هؤلاء الأغراب (سي عبده) وزوجته (هانم)، هو الهمس الذي جعلني أشقُّ طريقًا عِشْتُه لعشر سنوات أو يزيد، ومع ذلك احتفظت بشيء واحد لم ينجح أحدهم أن يناله مني، جعلته لي وحدي.. هو اسمي الحقيقي الذي رفضتُ البَوْحَ به لمأمور نقطة البوليس، وسي عبده ذات نفسه، اسمي (نوارة) أو (نوارة عبد الرحيم)، وفي الحقيقة لا أعرف اسم جدِّي! ذات مرة سمعت سي عبده يتحدث مع زوجته عنى ويقول: (على الرغم من بساطة سلوكها وملابسها، مع نظراتها البليدة، تبدو جميلة في صمتها، مع ارتعاشة شفتيها إن نطقت، تبدو دومًا وكأنها لا تعرف ما يجب عليها أن تقوله أو تفعله.. لكن عندي شعور أن بطن تلك الجميلة كله كلام!)».
فتعقب الست هانم تقول: «عندما رأيتها أول مرة، حاولت أن أشرح لها كي تقتنع، وتهدأ بأن أبويها تاها، وهما في طريقهما إلى المركب التالية للمركب التي نقلتها وحدها إلى أسوان، لم يذهبا إلى المقابر كما تفهمين»، أقول الحق صدقتها إلى حين، لكن بعد بعض السنوات، قضيتها في الدعاء لهما بسلامة وصول المركب الشراعي الآخر، فلما لم يستجب الله لي بدأت أبكي، ولا يسعني الدعاء أن أطمئن على أنهما ما زالا أحياء. تحيرت هانم وزوجها وهما يتابعاني.. نعم شعرت بهما يتابعان معًا أو فرادى وأنا أدعو لأبويي، ثم وأنا أبكي أثناء صلاة العيد أو صلاة العيدين، وأنا أتحدث إلى ظلي معاتبة أبواي على قرارهما بالبقاء في مقابر الأجداد حتى أغرقتهما مياه السد!
أثناء تلك الأيام البعيدة، ما كنت أقتنع وأكف عن السؤال، وأنا أتحدث إلى السيدة طيبة القلب هانم: «لماذا تركتني أمي وذهبت؟!.. كان من الممكن أن تأتي معي أو أبقى معها ومع أبي؟!.. كيف وجدت القلب الذي وافقها على قرارها الغريب، بالله عليك يا (ست هانم يا أم الجنرال) موافقة إن الغلط راكب أمي من ساسها لرأسها؟» انتفضت هانم إلى درجة أنها نهضت من فوق الكنبة الأسيوطي التي تجلس عليها، بدت كمن فزعته لدغة عقرب!.. كيف تفكرين هكذا؟ تقابلين حب أبويك بكل تلك الكراهية! هنا زاد لهاثي، عاتبت الست هانم طويلًا لأنها فهمت من أسئلتي أنني أكره أبويَّ.. عُدْتُ وقلتُ: «أنا أسأل.. أسأل فقط!».
المدهش أن تفاصيل هذا الحوار عندما تكرر بعد سنوات قليلة بيني وبين هانم، واستمر حتى ماتت هانم، تجدد مع الباشمهندس.. وبمعناه نفسه وإن بدا بكلمات مختلفة، كأن أقول: «الحنان لا يباع ولا يشترى، ما عند أهلي قلب، ماتا عمدا وتركوني وحدي؟!» يعمد مهندس الري المحنك إلى الصمت، لكنه يبرر فعلته أحيانا: «معك حق، السكوت أفضل.. طوال خمسين سنة تعاتبين أمك وأبوك بدلا من الدعاء لهما بالمغفرة!» كثيرًا ما يتعمد افتعال مهمة ما كي يبتعد عن مجلسي، وأنا المستربعة فوق كليم دمنهوري يكسو كل الغرف أو فوق النجيلة الخضراء بالحديقة الخلفية للبيت، حسب فصول السنة.
منذ سنوات بعيدة، بدأت رحلة سي عبده في التهرب من مجلسي، مجلس قراءة فنجان القهوة، تلك هي الميزة التي وهبني الله إياها، ولا أدري كيف عرفتها في نفسي، ولماذا تتحقق كل نبوءاتي؟! لن ينسى الكبير والصغير يوم أن لمَّحْتُ بإصابة هانم بمرض عضال! يوم أن تكاسَلت عن إعداد فنجاني قهوة العصرية، كلما ألحَّا علي طلب القهوة أدعي وكأني لم أسمع، بينما حتى الأمس.. مع الدقة الخامسة أعدو عدوًا كي أعد فنجاني القهوة. فلما انتبهت هانم أنني عامدة متعمدة لا أريد تجهيز القهوة، بينما لا تحلو الجلسة مع زوجها إلا مع القهوة، أقنعت رأسها بمبرر يخصها: ربما أكون مريضة، فهما لا يعرفان عنِّي التمرد. فور أن هَمَّتْ بالوقوف لتجهيز القهوة بنفسها، تمتمت: وهو يعني لازم شرب القهوة وقراءة الفنجان؟.. فسألني «سي عبده» الذي انتبه لي، عما أتمتم به، لم أرد، شوحت بكفي، ابتسم فابتسمت هانم،لعلها كانت البسمة الأخيرة، ففي الجلسة نفسها التي أخبرتها فيها بنبوءة المرض العضال، ونصحتُها بالذهاب إلى الطبيب، بينما لم تكن أم الجنرال تشعر بما يجعلها تفكر في تناول قرص من الأسيرين..!
**********
(3) العدو المتخفي الذي لم يستسلم
مرض السرطان الذي ظننته بادئ الأمر مرضًا مهلكًا، يبدو معه المريض محبطًا وخائر العزيمة قبل أن تنهك الأعصاب وتسقط قوى التحمل. سرعان ما تَبَدَّلَتْ نظرتي إليه، ليس لأنني أيقنت أنه غير ما وَصَفْتُ، لأنني رأيت الست هانم، وهو اللقب الذي فضلت أن أناديها به، وكثيرًا ما عاتبتني وأمَرَتْنِي في غضب أن أناديها ب«ماما».. ما كان مني إلا كلمتان اثنتان: «ماما ماتت.. ماما غرقت، وانت عارفة..»، قلتها وأنا طفلة صغيرة، وقلتها وهي على فراش المرض!
لن أصف لك ما كنت عليه لحظة أن تأكدت من إصابتها به بعد الاطلاع على التحاليل، لكنني أتذكر ما قالته هانم فور أن عبرنا عتبة عيادة الطبيب، وكنتُ بِرُفْقَتِها: «هل لعبتِ لعبة الرهان وأنت صغيرة يا جميلة؟».
لم أنطق، ربما لأنني لا أرغب في الحديث ورأسي ممتلئ بأسئلة أهم.. فتابَعَتْ وحدها: «هي لعبة يلعبها الأولاد في الشارع، كنا مع البنات نلعب (الأولى والحجلة)، فاقترحت عليهنَّ أن نلعب (الرهان). لم تكن فكرة اللعبة التي اقترحتها إلا لعبة الأولاد، لأنهم يراهنون على نتيجة الفوز في لعبة (السبع طوبات) ولعبة (العسكر والحرمية).. فكرتي أن نتراهن عمن لا تستسلم! وضح أنهنَّ لم يفهمْنَ ما كنتُ أقصده، وشرحتُ لهنَّ أن الفوز يكون من نصيب من تقاوم ولا تستسلم، مهما تعرضت من أعمال قاسية!».
فانتبهت لها من شدة دهشتي: «وبدأ من كنت أظنهن ضعاف القوة صاحبات قلوب حنونة.. ينقضضن علىّ انقضاض الوحوش لكي أنطق وأقول (استسلمت)..أصبح الرهان بينهن على من ترغمني على أن أنطق الكلمة..! وكانت أقسى محاولة تعرضت لها، أن قبضت إحداهن على فمي وفتحتي أنفي حتى احتقنت أذناي وأرنبة أنفي، ولم أستطع التنفس.. مع ذلك لم أستسلم!».
فيما بعد فهمت أن ما تردده تلك السيدة ليس إلا تعبيرًا عن رغبتها في المقاومة.
*****
لا أدري لماذا كلما جمعتني جلسة العصرية شتاء وجلسة المغربية صيفًا في الساحة الخلفية للبيت، شرد سي عبده ثم يقول ويكرر بلا ملل ولا كلل: «لولا جميلة الطفلة والشابة.. ثم المرأة كاملة الأنوثة العذراء، لولاك كان شكل الأسرة تغير..»، لما قالها فيما مضى ذات ليلة لزوجته، وهو يتابع قشة صفراء تطفو فوق سطح مياه النيل من أمامه، علقت هانم بشيء من الغضب ووصفت نفسها بأنها كما الكرسي الخيزران الذي تجلس عليه.. فهمها زوجها وضحك طويلًا ولم يعلِّق، ففضلت أن تبرح مكانها وتنام مبكرة!
بقي عبد الوارث على يقين جازم بما في رأسه نحوي، وهو يدعي بأنني لم أكبر مثلهم.. المدهش أنه ينطقها هكذا ولزوجته أيضا: «بقيت جميلة على نعومة بشرتها السمراء المشدودة منذ أول يوم عرفتها فيه، وحتى اليوم!».
لا تنتهي الجلسة في سلام، فما كان من الست هانم إلا أن تسأل مبحلقة في نِنّ عينيه وتسأله كيف عرف نعومة جلدها منذ سنيين طويلة؟! فيضحك الرجل سعيدًا بغيرة زوجته وبنظراتي التي تبدو سعيدة أن يكون شجارهما حول جمال جسدي. تذكرتُ الآن ولن أنسى يوم أن أفرجت ما بين فخذيها، دفعتني وأصبحت قريبة من صدرها، وقالت: «انتبهي لنفسك، جميلة الصغيرة ما عادت طفلة، أصبحت أمًّا صغيرة، أو يمكن أن تصبح أمًا، بعد أن جاءتها البشارة كل شهر لتخبرها بتمام أنوثتها لثلاثة أيام أو أكثر.. وهكذا بدأت تنبهني عما يجب عمله في تعاملي مع أطفال الأسرة الذكور، محذرة أن أقترب من ملمس جلد أي منهم.. أن أعاملهم كما أمهم التي لم تلدهم.. فقط».
مضت الأيام، رويدًا لم يفهم الذكور إلا ذكورتهم التي بَدَتْ بدورها تنهض من خلف جلودهم، فتراود الواحد منهم فكرة الدفء بين أحضاني، واحتواء نعومة أي مكان من جسدي، وليونة لحمي.. والحق يقال لم أكن غبية حتى لا أفهم افتعال الولد الجنرال والولد علام يرتميان في حضني، وفي أي موضع كان، بحجة مطاردة أحدهما للآخر، فأبتسم..! لك أن تضيف ما شئت من مشاعر دفينة نائمة أو قل خامدة توقظها تلك الاحتكاكات المفتعلة، التي لا أنساها مع أقسى الأعمال المنزلية مشقة؛ فلا عليَّ إلا أن أبدأ العمل التقليدي وأشرد عمدًا أو عفوًا، فأبدأ في استحضار الأحاسيس والمشاعر والمشاهد والخيالات، أبدأ في مراجعة التجارب الهينة والخبرات.. أتذكر تعلُّق تلك اليد الصغيرة القوية بثديي اليمنى، فابتسم وأسأل رأسي: «لو كان عفوًا من الولد الجنرال، لماذا كان يُسرِع ويقبض على الثدي اليسرى؟»، العجيب الجميل أن يكرر علام فعلة الأخ الأكبر بالحركات نفسها، وكأنه كان يرصدنا ويتابع ما كان يدور بيننا في ليالي الشتاء الباردة إلا من دفء المطبخ!
********
لم تكن مهمتي محددة بأوامر ونظام فرضه عليَّ مهندس الري ومن قبله زوجته التي ماتت بالخبيث، ولا تُدهَش لو علمت أنني من يضع الخطة وينفذها، على الصغير والكبير فيهم، وإن بدت هيئتي مع الصمت.. الأنثى الغلبانة ضئيلة الحجم، هينة الصوت، عليها توفير لوازم البيت من السوق، مع رعاية الصغار مع سيدة البيت يدًا بيد.. ثم نهضت بكل ما يلزم وحدها. أما وقد أخبرتني الست هانم أنني أصبحتُ الشابَّة التي يتطلع إليها الرجال، وعليها مراعاة سلوكها وطريقة حديثها وحتى طريقة الخطو على الأرض.. منهم من سيقرر الزواج ويتقدم للأستاذ عبد الوارث.. كانت المفاجأة أن رفضت الفكرة، بررت ذلك بشدة تعلقي بها، وهو ما لم يقنع هانم حتى يوم وفاتها!
طوال السنوات التالية، طلبت من «سي عبده» أن يراجع نفسه وينظِّفَ قلبه الأسود! أعلم أنني الوحيدة القادرة على أن أنطق بتلك الألفاظ عيانًا بيانًا أمام عينيه وظله. وكثيرًا ما كنت أسمعه يهمس إلى نفسه: «تظن جميلة أنني أبغض أولادي؟!».. فيلمحني ويكفّ التمتمة،يدير حوارًا معي: «كل الموضوع، لا أجد المبرر لسلوكهم الفظ معي، كلما نالوا من مكانة رفيعة بين الناس!»، بدوري لم أجد مبررًا، لتمتمة عبد الوارث : «كبيرهم (الجنرال) ضمن قيادات الشرطة لقوات الأمن المركزي، والثاني (علام) الإعلامي الشهير في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والجديد على شبكة الإنترنت.. أما ثالثهم (عصام) فلم يتخرج في كلية الحقوق بعد، ومع ذلك فهو مثلهما، عليه لعنة الله وغضبه! ما زال الصراع باقيًا بينهم وبين سي عبده، لا يهابونه ولا يحترمون شيخوخته؟!».
المدهش الذي لا أفهمه من تصرُّفَاتِ الأب، أنه يعتقد أن كل تصرفات الأولاد معه من باب محاولات الهيمنة عليه، وعلى ما يملك.. بداية من لقب الجد الأكبر الذي ينتسب إليه، فيقول: «لولا أنهم من صُلبِي ما ورثوه!» حتى عتبات البيت في المنصورية، البيت الذي كان يومًا بيت الأمة في الناحية بل والمحافظة كلها.. والداعم لبيت الأمة في العاصمة مع سعد باشا زغلول والوفد.
علمتُ أن الجدَّ الأكبر «الشيخ المصري»، لم تشغله السياسة بأكثر من أيام سطوة «سعد»، اندفع الجد حينها بكل العزم ينادي: «يحيا.. يحيا سعد، ويسقط الإنجليز».. وعندما علم بمقولة «سعد» قبل موته إن صدقًا أو كذبًا أنه قال: «مفيش فايدة».. فضل متابعة أجداده من سلالة الشيخ «الفولي»، وتفرغ لحراسة النهر أمام القرية، وبانت له الكرامات، حتى شيد الفلاحون له المسجد، وإن عابوا على عبد الوارث وأولاده تجاهلهم لتجديده.
********.
خلال جلسة بوح قبل المغرب أمام مياه المنصورية، قال سي عبده: «الطريف العجيب، كم من مرة أتابع أولادي عفوًا، أضبطهم وهم يتفاخرون بنسَبِهِمْ إلى جدِّهِمْ الأكبر بإجلال وتكبير، حتى أنهم اعتادوا تسجيل أسمائهم ملتصقة بالجد الأكبر (المصري) دون المرور باسمي، أنا الأب الذي أنجبهم من صلبه.. لكني لم أنتبه هل هم على اتفاق اعتزازًا ب(السياسي المصري) أم (الشيخ المصري)»؟!
هذا ما يقوله هو، أما أنا فأشهد أمام الله أن الأولاد يُسعِدُهم كثيرًا ويتفاخرون على شاشات التليفزيون، وبين رجال الشرطة الكبار، وحتى في حفلات السمر بين طلبة السنة الرابعة من كلية الحقوق.. أن جَدَّهُمْ له كرامة السير فوق المياه ولا يبتَلّ، قدوته في ذلك كل من له قدرة على مجرى مياه نهر النيل، كما لجدهم الأكبر، سيدي الفولي في محافظة المنيا. يقسمون أن جدهم تلقى عنه بالتوريث ما انتقل إليه، ومن الكتب القديمة وتعلم؛ كيف يسيطر ويحاصر التماسيح الآتية من أدغال أفريقيا حتى موضع قبره أو مقامه في مدينة المنيا اليوم، بينما يتفاخرون ولا أدرى من أين أتتهم تلك المعلومة.. أن الجد الأكبر الشيخ المصري نجح بدوره في محاصرة التماسيح مثل الشيخ الفولي، بدايةً من حُدُودِ البلادِ الجنوبية فورَ اجتيازِها خطَّ الحدود السودانية.. ويرددون في فخر واعتزاز: «جدنا الأكبر (الشيخ أو السياسي المصري) تفَوَّقَ على (سيدنا الفولي) إذًا»!
ذات يوم تجرأ الأب «عبد الوارث» وقال لأبنائه منفردين، فهم نادرًا ما يجتمعون معًا في البيت الكبير: «قرأتُ في الكتب القديمة عن العارف بالله (أبو اليزيد البسطامي) مقولته: (لله خلق كثير يمشون على الماء ولا قيمة لهم عند الله، ولو نظرتم إلى من أعطي من الكرامات حتى يطير فلا تغتروا به حتى تروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ الحدود..)».
وهو ما قال به الإمام الشافعي: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسُّنَّة». بعد فترة صمت طالت، تابع سى عبده وقال: «الشيخ صاحب المقامة والإمام قالاها (لا تغتروا..)، فما كان من الأبناء الثلاثة فيما بعد أن قالوا: «ولكنهما لم ينكرا..؟! » أمام إصرار الأولاد الثلاثة، لم يتنازل الأب عبد الوارث عن فكرته ويقينه، لكنه قال في نفسه: «وأنا أيضًا فخور بجدي، كذبوا أم صدقوا.. الشيخ المصري جدي قبلهم..!» ما أدهش الأب، يوم أن حاول تقديم التفسير العلمي لتكذيب أفاعيل الشيخ المصري؟ لم يجد ما يوافق عليه ثلاثتهم، وحده، حاول أن يشرح لأبنائه التركيب الكيميائي أو الذري للماء -وهي تعبيرات حفظتها دون أن أفهم معناها – وأن القوام يعتمد على خصائص هيدرولوكية.. فقاطعوه ولم يتابع الأب المهندس صاحب العقلية العلمية، فشل في مقابل العقلية الأمنية والإعلامية والحقوقية.. عندما انتبه الأب إلى تلك الفكرة وتلك المحاولة، ضحك كما لم يضحك من قبل، وهو يتساءل: كيف يعجز العلم أمام إجراءات الأمن ومقولات الإعلام وبنود القوانين؟!
فيما بعد تابع أحدهم لعله «علام» وقال: «بل هناك من مشي على الماء من الصحابة، يذكر ذلك عن سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية هو ومن معه، وكذلك العلاء بن الحضرمي حين بعث إلى البحرين، قال أبو هريرة: (فمشينا على الماء، فوالله فما ابتلت قدم ولا خف بعير ولا حافر دابة، وكان الجيش أربعة آلاف)». لحق به الجنرال قائلا: «من التابعين أبو مسلم الخولاني غزا أرض الروم فمروا بنهر، وقال لأصحابه: أجيزوا بسم الله ومر بين أيديهم فمروا خلفه على الماء، فلم يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، وكان يدعو ويقول: (اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبادك في سبيلك فأجزنا هذا النهر، ثم قال: اعبروا بسم الله)».
لم أجد ما أعقب به، حتى أن سي عبده تَحَيَّر، وقال: «أحب جدي الشيخ المصرى، وربما بأكثر منهم ولكنني أيضا مهندس الري الذي يعرف أسرار الماء كلها، ولا أرى في أولادي الثلاثة إلا فكرة يبحثون بها على ما يميزهم ويرفع من شأنهم عنوة عن غيرهم دون جهد يُذكر!».
فيما بعد اكتفيتُ بالصمت واعتدت سي عبده في هدوئه وعصبيته، وفي صحوه ومنامه، وتحيرت كثيرا أمام الأبناء، ولكن لا يقل حبهم في قلبي عن حبي لأبيهم.
بمضي الأيام.. أصبحتُ أنا سيدة البيت التي تدير وترعى وتنصح، وربما أسِبُّ أحيانًا، لكن في عِبِّي دون افتعال أقدم نفسي للقادم أو البائع ومع كل غريب.. أنا سيدة البيت، فلا يعترض سي عبده، واعتاد الأبناء الثلاثة هذا السلوك في صمت.. حتى الفلاحون القريبون من البيت، اقتنعوا بأنني الستّ الجديدة، وزاد الغمز واللمز بخبر زواج عبد الوارث سرًّا بي، لم أنكر ولم أوافق، أبتسم في صمت.
أقول كثيرًا ما كنتُ أسعى لأن أقدم نفسي كما الصبية العذراء الخجلة، وفي الحقيقة أسعى لأن ألفت نظر القادم، حتى بعد أن جاوزتُ الخمسين. فهم عني عبد الوارث تلك الصفة أو الحالة أو الرغبة الدفينة داخلي، ولم يعترض بل كلما بانت له.. ابتسم وهو يتمْتِمُ في نفسه: «كذب جميلة جميل.. هذه السيدة لم تكذب في حياتها إلا في بَعْث دلالها بعثًا، ربما لأنها لم تتزوج، ويكفيها نظرات الرضا، ربما الإعجاب من الآخرين تذكِّرها بنفسها وأنها مرغوبة».
رحلت أم العيال «هانم» إذًا، ماتت في منتصف العمر، بعد أن نال منها الورم الخبيث على حين غفلة، بدأ وانتشر وشاع خلال شهور قليلة، بينما بدت الزوجة التي شاركت زوجها حاله وترحاله بطول نهر النيل وحتى في رحلته إلى أوغندا، بدت وكأنها تتحدى أعراض المرض، كما لو كانت قررت ألا تخور قواها، بينما ترفض متابعة الفحوص وبعض العلاجات، حتى إن كان مقدرًا لها الموت، فليكُنْ سريعًا بغير ألم! ظنَّت «أم الجنرال» بتجاهل أعراض العلة سوف يملها المرض ويرحل، بررت فعلتها فيما بعد، أثناء لحظات الاحتضار، بأنها حاولت المقاومة، لعلها تنجح وترى أولادها في منازلهم ووسط أولادهم، تتابع وهى تنظر إلى سقف الغرفة الباهت: «الحقيقة كان نفسي أشوف أحفادي يكبرون أمام عيني»!
أتمنى أن أعيش في لحظات ممزوجة بالفرح واللافرح. أشعر أحيانًا بأنني أحب، أعشق، أتمرد، أفرح لأن الحياة تقف عندي، لحظات أخرى أنسحب، أتكور في داخلي، أنعزل، أرفض من أحب».. تتابع هانم وتقول قبل موتها: «مزيج غامض، مختلط من الانفعالات العشوائية، ربما نابعة من علاج مسموم يدخل خلاياي ليقتلها أو يُبِيدها، وفي حينها أحتاج إلى استعادة طاقتي وشَحْنِها لأقف مبتسمة بل عالية صوت الضحكات.. الأمر ليس مرهونًا بمزاجي وإنما هو لعوامل هرمونية عصبية تقتحمك لتحجم سيطرتك على ذاتك، لتتفاجأ لاحقًا بأنك لم تُحبَّ قطّ كما أحببتهم، وتريدهم حبًا معشوقًا لتصبح أنت سجين مرضك، بل هي علاقة مدمجة بالحب لتشعر بها جازمًا.. العاطفة تخرج من ثنايا أعضائك لتنعش خلاياك المسرطنة، نعم الحب يقتل السرطان بل يقتل الموت. عشتُ الموت مرات عديدة مع السرطان، كانت عيناي وروحي على قيد الحياة، شعرتُ بحالة جنونية من الأمل في كل لحظة كان جسدي يموت بها، أحببت الحياة لدرجة اعتقدت أنني في الحياة الثانية، صارت الطبيعة مطلبًا والهواء روحًا والسماء طموحًا، هي أنا في لحظات السعادة التي غمرتني وأنا أقاتل سرطاني بيدي، حين لمستُ ثديي المصاب وقبلته مجازًا لأقول له: أنت أنوثتي وعنوان حياتي.. لذلك لن أتخلى عنك».
صدقت النبوءة، رحلت هانم أم الجنرال، ليس لعجز الأطباء، بل لأنها فقَدَتْ الرغبة في مقاومة المرض نفسه، لسبب أقنعَتْ رأسها به.. أنها لن تسمح للمرض بأن يُفقِدَها أنوثتها! كما رحل بعدها الجنرال، أو الولد البكري الذي لم يمُتْ، بل رحل إلى القاهرة، إلى حي العباسية حيث التحق بكلية الشرطة. منذ ذلك اليوم ما عاد إلى بيت أبيه إلا نادرًا، في الخميس والجمعة أثناء الدراسة، وليوم أو يومين كل شهر أثناء الخدمة، بعد تخرجه في الكلية، حتى تزوج.. من ثم أقام في حي الزمالك وما عاد يزور أباه، اعترف لزوجته قائلا: «تصدقي أحيانا توحشني جميلة أكثر من عبد الوارث.. كثيرًا ما يعبِّر عنسعادته لأنه يقضي حياته في معسكرات الأمن المركزي، بالمناطق المختلفة في طول البلاد وعرضها. الطريف الغريب أن ينال الولد البكري لقب الجنرال حتى قبل أن يلتحق بكلية الشرطة، و يصبح جنرالًا في الواقع وعلى الحقيقة.. فهو اللقب الذي فرضه على أصدقائه وأخويه، وقبلهم جميعًا عليَّ، وتوليتُ الترويج للقب ومناداة الصغير بالجنرال، حتى نسي الجميع اسم «رامز».
*******
(4) رامز الجنرال!
وحدَه الولد الجِنّ «رامز»، يقدر أن يفعل هذا: أن يمرَّ على دُور القرية القريبة، يسحب الصبية في مثلِ عمره، يشير برأسه فيسيرون خلفه.. يشير بأصابعه فيطيعونه ويجمعون أوراق الشجر الجافة من الطرقات، وما أكثرَها!

فى الساحةِ المتربة، يضعون أحمالهم، يَلتَفُّون مِن حوله على شكل الدائرة، ثم يتربعون بملابسهم على الأرض. وحده الصبي العفيُّ طويل القامة والرقبة والأذنين «رامز»، هو القادر على حشد الجموع، في ظهيرة أيام يوليو وأغسطس الملتهبة، حيث الإجازة الدراسية، وتحت لهيب الشمس في تلك الساعة، يبدأ المشهد العجيب؛ بالعدسة السحرية التي التقطها من صندوق جده خِلْسة، يصوبها ناحية الحشائش وأوراق الشجر الجافة، فتشتعل، ويعلو لسان لهب باهت اللون مع وهج الشمس، ودخان أسود قادر على أن تراه على جفون وبشرة الصبية.
فلما شعر بالملل، قرَّرَ أن يُطَوِّرَ اللعبة أو يعدلها أو حتى يلعب بالعدسة لعبة جديدة، بدا واضحًا صريحًا هذه المرة مع رفقائه وقال:
«لماذا لا نفكر فكرة جديدة.. أن نستبدل بالأوراق والحشائش جلبابَ أحدِكم، هل العدسة السحرية ستفعل فعلتَها مع القماش أيضا؟!».
وإن صمت الجميع لخوفهم، اعترض الولد «عوض» وهو أقرَبُهُمْ طولًا إليه، عَقَّب قائلًا:
«ولماذا لا نُجَرِّبُ في جِلبابِكَ أنت؟».
قامَتْ الدنيا ولم تقعد، انتفض «رامز» مرتعدًا في غضب، بان أنَّ له صوتًا زاعقًا، قادرًا على أن يُرَدِّد العديد من الكلمات في جملة بعد جملة، كلها تحمل المعنى الوحيد.. كيف جَرُؤَ «عوض» على أن يعترض؟ وكأن سَهْمَ الله سقط على الولد «عوض»، كان أوَّل من خلع جلبابه! وهو ما تحَقَّقَ واشتعل الجلباب اشتعالًا لم يعد صالحًا بعده!
لم يشتَعِل الجلباب وحده، اشتعلت أم عوض غضبًا، وانقلبت الطرقات الهادئة إلى ساحة للشجار، ما بين مؤيد ومعارض، ما بين اقتراح بإبعاد الولد عوض عن اللعب مع رامز الجن، وإبعاد الجنِّ نَفْسِه بأي طريقة عن كل الصبية، المشكلة التي ألجَمَتْ الجميع؛ أن أباه في مأمورية خارج البلاد، للعمل على ضمان حِصَّةِ مصر من مياه نهر النيل، في اجتماع مهمٍّ أعلنت عنه الصحف ويتابعه عبد الناصر ذات نفسه.
الأهم من ذلك مَن يقدر من رجالات القرية ويجرؤ على عَرْضِ مثلِ تِلْك الفكرة المجنونة.. مَنْع أحد أفراد أسرة عبد الوارث أو أحد أحفاد الشيخ المصري من اللعب مع أولادهم؟!
طال الحوار بين الصغار والرجال والنسوة، طال بسبب كثرة أفاعيل الولد البكري.. يُصرُّونَ على البحث عن الوسيلة المناسبة لمنع مشاكله وعدوانه على أطفالهم. مع كل الحمية والاندفاع الذي مارسته أم رامز دفاعًا عن ولدها، بان لها أنه غير مرغوب فيه عند الأمهات، بَحَثَتْ النسوة عن أبنائهن لإبعادهم عن الولد المشاغب، ولما عَثرنَ عليهم، كانوا يلعبون معه لعبة «عسكر وحرامية»، ورامز على رأس العسكر!
********
كانَ الطقسُ هذا الصباح باردًا، ككلِّ صباحات شهر «طوبة»، صحا الجنرال مبكرًا، كعادته طوال أيام عمره، بدأت بالتحاقه بكلية الشرطة. لم يكن يظن ولا يشعر بأن «طوبة» شهر شديد البرودة هكذا.. حكَّ كَفَّيْهِ معًا بسرعة الجنرالات وهِمَّتِهم، وابتسم.. كانت بسمة باهتة مترددة، لا يختلف أحد في تفسيرها؛ فليس على الجنرال أن يعبِّر عن شعوره بالبرد، حتى بعد أن كَسَتْ جلده البُثُورُ والنتوءات!
لم تلحق بأنفه رائحة كمكمة الأيام قطّ إلا الآن!
طوال ساعات الأيام الفائتة وثوانيها ما كان يشعُرُ بالوقت ومرور الزمن، انشغل بعمله ومشغوليات الأمن عن النظر إلى عقربَي الساعة، مع ذلك لا تظن أنه تخلَّص من ساعة يده، على العكس تمامًا، بمضي الأيام امتلك أشهر ماركات الساعات العالمية، بل وبلغ الأمر أن اشترى ساعاتٍ للزينة كتحفة واشترى قديمة كأثر، زاد عدد الساعات المرصوصة على جدران شقته، حتى نقل بعضها إلى حوائط مكتبه، واحتفلوا به في أحد البرامج التليفزيونية لندرة الماركات التي يقتنيها وقيمتها التاريخية والمادية!
لا تُدهَش لو علمت أن الجنرال لا يجيد حديثًا في هذه الدنيا، بعد الحديث عن العمليات الأمنية التي ينهض بها، إلا الحديث عن تاريخ الساعات، أنواعها، والماركات النادرة منها.. ثم المهم في الأمر، قدرته على إصلاح الساعات، ولولا يقينه من عيب أن يرددوا عنه أنه يُصلِّح الساعات لأعلنها، وطلب من الجميع إصلاح ساعتهم، دون مقابل، لكنه الجنرال؛ كيف يفعلها؟!
مع ذلك يفعلها مع القِلَّة المقرَّبة منه، هُم من بقي من ضباط الدفعة الذين تخرجوا معه في كلية الشرطة، لن ينسى أحدُهُم الجزاء الذي ناله الطالب المجتهد «رامز عبد الوارث» لأن الضابط النوبتجي ضبطه مستيقظًا يصلح من ساعة يد زميله مستعينًا بكشاف ضوء صغير تحت البطانية الصوفية!
لا تدهش أن تلاحظ تأثير تلك الهواية عليه، في كل خطوات عمله، حتى لاحظ الجميع مقولته وهو يردد قبل كل مأمورية: «عدوي وعدوكم الزمن.. أنجزوا المهمة في أسرع وقت».
الآن تَهَيَّأ كي يصنع لنفسه فنجانًا من القهوة، تلك الرغبة التي واتته في صباح اليوم الأول له، بعد انقضاء فترة تحقيق طويلة معه، بمعرفة طاقم من النيابة، ثم أمضى الزمن الثقيل بالحجز التحفظي، بعد فترة قاربت على السنتين، حكم بعدها بالبراءة.
البراءة من تهمة أدهشت الجميع، يعرفونه ضابطًا ملتزمًا.. الجميع يظنون أنه بريء من تلك الاتهامات الغريبة والعجيبة، براءة الذئب من دم ابن يعقوب. كان عزاؤه أن يُردِّدَ لكل من ينهض لزيارته في محبسه الاحتياطي بعد تلك الاضطرابات التي عمت البلاد، ويقول له: «إنها أعجب تهمة يتم توجيهها إلى ضابط شرطة»!
ولا يعقِّب أو يبرر مقولته، لكن المقربين منه يعرفون تفاصيل ما حدث كله: فقد أحاط بعض المتظاهرين بكل مداخل أقسام الشرطة ومخارجها، وهم يهتفون ضدهم وربما ضده تحديدًا، الجنرال يظن ذلك إن عن حق أو باطل.. ببساطة حاولوا اقتحام المبنى، فأمر الجنرال بالدفاع عن هَيْبَة الشرطة، ولو استدعى الأمر إطلاق النيران!
تدافعت الجموع لاقتحام مديريات وأقسام الشرطة، فجَدَّدَ الأوامرَ بإطلاقِ الذخيرةِ الحَيَّة على المتظاهرين بطول البلاد وعرضها.. وبعد متابعة ميدانية واطلاع على التقارير الأمنية، زاد غضبًا، بينما أحد مساعديه يتمتم: «هل تقرر هذا القرار الخطير يا فندم؟!».
لم يتابع مقولته، وضح للجميع أنه لا يتحدث هامسًا.. ما أثار الجدل وشجع الجميع، ما بين معارض وموافق، ولأنه الجنرال الحاسم في قراراته وعنده دومًا ما يبرر آراءه قال:
«ليس هذا وقت المناقشة والفلسفة.. يجب أن نعالج المشكلة باعتبارها مشكلة أمنية وليست سياسية.. ليس من الأمن أن نترك أيًّا مَن كان يقتحم مديريات الأمن وأقسام الشرطة.. يجب التنفيذ فورًا.. سوف أتابع معكم.. إن كانوا من الشرفاء أو البلطجية.. لا فرق عندي».
يشعر كأنه بات مجموعة من الحواس تشاركت معًا وتلبسته، شكَّلته على هيئة الجنرال طويل القامة، عريض المنكبين، منتفخ الصدر، فوق قدم تعاني من فطريات لا تشفى منذ سنوات، من فرط ارتدائه لحذائه الميري طوال ساعات النهار، وحتى ما بعد منتصف الليل.. وعلى جانبي بطنه حصوات مدببة تنز الدم من كليتيه، بسبب قلة شربه للمياه، وعندما تعاتبه زوجته يبرِّر بقوله: «نسيت..!».
*******
(5) عَلّام الإعلامي
بعد أن تعلَّم الطفل «علام» حروف الأبجدية وحفظها بصعوبة بالغة، كان أول درس للصغير في المدرسة، أن يكتب ثلاث كلمات: ماما، بابا، مصر.. كل كلمة ست مرات في السطر الواحد، وفي كل الصفحة، هكذا للكلمات الثلاث، وهو ما جعل «علام» يكتب السطر الأول فقط ثم يعلن تمرده.. برر فعلته الغريبة بأنه يحبهم كلهم من غير أن يملأ الصفحة بكلماتهم!
فاقترح المدرس أنه سوف يعفيه من العقاب، لو كتب الكلمات الثلاثة غيبًا على السبورة، شعر علام بالورطة، وبعد أن كان يدعي الإصابة الغامضة التي تؤلمه في أصابع كفه اليمنى، وجد أن ما يُصاب به من الخجل أمام تلاميذ الفصل كله، لعنةٌ مُؤلِمَة بأكثر من ألَمِ جهد كتابةِ الكلماتِ الثلاث، رَمَقَه المدرِّسُ في غضب ثم انقض عليه، وأمسك بالطباشيرة المعلَّقة بيد علام الصغيرة، وبقوة حكَّها في السبورة يكتب الكلمات الثلاث.
الطريقة الفَظَّة التي استخدمها المدرس، لم تنفع مع مكر الصغير.. فهو ممن يجدون في الصبر على العنف، تمردًا أقوى من عضلات المدرس وحتى من غضب أمه! وحدها جميلة لا يبيت في نفسه منها شيء من غضب مهما كان، يبرر هذه المشاعر بأنها لا تترك له فرصة للغضب، وعلى أهبة الاستعداد أن تنفذ كل طلباته، تلك التي أصبحت شائنة فيما بعد من نظراته الخبيثة!
منذ ذلك اليوم البعيد، وهو يقول إن المدرس تفوق عليه لأنه أقوى منه، فقط ولأنه أكبر سنًا، وقرر الصغير أن يكون قويًا.. ولا يعلم حينها ما معنى القوة؟ وما نوى عليه ذلك الرأس الصامت غالبًا الملآن بالأفكار الغامضة. ولا يدري ما برأس المدرس وما خطط له؛ مما جعله في الحصة التالية يتوجه إلى علام، يغرس عينيه في رأسه وسقط على الملابس الفخمة المخالفة للزى المدرسة ثم الحذاء الغالي اللامع، بل تَوَقَّفَ عند شعر الولد الناعم الطويل.. فهم أنه من الأثرياء ويريد أن يبدو مختلفًا، وهو ما حَفَّز المدرس ،فاقترب منه.. اقترب بشدة حتى كاد يلامس أذنه، قال: «اسمع يا ولد.. أنت تلهو وتدلع في بيت أمك كما ترغب.. أما هنا في المدرسة، فأنت تفعل كل ما نأمرك به، وتنفذه بالضبط صحيحًا بلا خطأ.. والآن اكتب الثلاث كلمات وبخط جميل..». كان من الواضح أن المدرس يجهل ما كان يفور في رأس الصغير، وكيف أنه يجيد لعبة عدم الاستسلام التي تعلمها من أمه!
كاد يعلو صوت ضحكات تلاميذ الفصل، انتبهوا جميعًا على صوت أول صفعة على وجه علام المحتقن، وفورًا غلب صوت الضحكات المغلولة، فكان الألم من ضحكات تلاميذ الفصل أشد وأقسى من صفعة المدرس الذي همَّ متابعًا: «هه ماذا قلت لك.. نَفِّذ ما آمرك به فورًا». لزم الصغير الصمت، مما أثار غضب المدرس، ووضح لمن يدخل فجأة أن الغاضب المنفعل هو المدرس، بينما الصغير يبدو متماسكًا محتقن الوجه فحسب.. كان من الممكن أن يظل المشهد هكذا حتى نهاية الحصة، نهاية اليوم الدراسي، لولا أن المدرس انتبه لحل يرضيه: «اذهب، واجلس في مقعدك».
الحقيقة لم يذرف علام دمعة واحدة على الرغم من شدة ألم الصفعة التي نالها.. لكنه بكى بحرقة وهو يقص على مسامع جميلة تفاصيل ما حدث، لم تنتظر طويلا، مالت نحو أذنه تسأله:
«لكن ما سبب عنادك يا علام؟ لماذا لا تكتب الكلمات الثلاث كما يطلب المدرس..؟» فلما طال انتظارها، أدارت وجهها وذهبت وهي تقول: «الظاهر أنك تعاند مدرسك يا عفريت يا شقي.. الله يضحكك!».. وضحكت حتى خرجت من الحجرة!
******
علاقة علام بجميلة أخذت منحى آخر، فهي عنده المرفأ الذي يلجأ إليه.. بداية مع السؤال عن وجبةٍ يُحِبُّها، ولا تتحمَّسُ أمه لإعدادها له، وتقول: «لن أجهز طعامًا على مزاج كل واحد يا ولد.. لازم تقبل ما أجهزه لكل أهل البيت».. بينما تقول جميلة: «عيني يا حبيبي!» ثم تنهض، إن كان في منتصف الليل كي تقلي حبة البطاطس، أو تعد عجينة الكيكة.. وغيره.
بمرور الأيام لم يعد علام في حاجة إلى جميلة كي تغسل له وجهه كل صباح، ولا ردفيه بعد أن يتخلص من فضلاته، أصبح له الأصدقاء يلعب معهم، ويسمح لهم بالتسلل إلى الجزء الخلفي من البيت، على غفلة من الجميع إلا من جميلة، التي تعلم وتبتسم، تقول له: «أنا مبسوطة منك لأنك بتلعب مع أولاد الفلاحين أهلك، ولا تتعالى عليهم وتأمرهم مثل أخيك الجنرال!» لم يعد علام يعشق الجلوس إلى جوار جميلة طوال الوقت، وإن تمنى أن يفعل، لولا أن أمه نهرته وكادت تلكمه لكمة حقيقية، رحمته منها جميلة، فعلتها وهي تقول له: «كبرت يا ولد على اللصق في جميلة».
الحقيقة ثورة الأم ما كانت بسبب جلوس الولد إلى جوار جميلة، بسبب جلوس الولد بين فخذي تلك الشابة الناضجة المعبأة بالأنوثة المتفجرة! مع ذلك لك أن تعلم أن سبب الثورة التي ألمَّت بالأم ليس ذلك فقط، بل لأنه لا يريد أن يبرح موقعه، ويبدو شاردًا تائه الرأس زائغ العينين! فلما سأله الجنرال عن سر غضبة أمه عليه، أخبره الخبيث الصغير بأن جميلة تحبه، وحتى لو كف الجلوس بين فخذيها، فهي تلاحقه بنظراتها أينما ذهب، حتى وهي منهمكة في أعمال المنزل!
صحيح لها بسمة مفعمة بالحنان، لكن ماذا تقول عما أخبر به الولد إلى أخيه، أن جميلة لها من الأفعال ما يجعله دائخًا شاردًا مُنتَفِضًا؟ أحيانا تعبث في شعره ثم تذهب، ومرة تغلق عينيه بيدها في صمت، ثم تعدو إلى حيث تغسل أو تطبخ، ومرات تنفخ في أذنه فتتغلغل أنفاسها في جسده.. بعد أن قص واعترف وكشف كل دواخله لأخيه، نظر إليه وأخبره بأنه لم يبح بسره مع جميلة لأي إنسان، وحذره من فضح تلك العلاقة السرية..! في تلك اللحظة فقط انتبه الولد الجنرال إلى حقيقة لم تخطر له على بال.. أن جميلة لم تعد الفتاة الصغيرة بل المرأة الصغيرة! وهو ما أثار الأفكار التي ما كانت ترد على رأسه لولا ما كشف عنه علام. راودته الفكرة: أنا أولى من علام بامتلاك جميلة، والاستفادة بجمالها وخدماتها الظاهرة والخفية؟! لكنه وهو من هو، يجب أن ينال منها أكثر كثيرًا مما تقدمه للصغير علام!
********
أصبح الصغير علام، الإعلامي أو الصحفي الشهير «علام عبد الوارث» بعيدًا عن بيت أبيه، بحجة الانشغال في عمله، فهو الإعلامي المتَحَمِّس صاحب المقولة الشهيرة: «حقيبتي بيتي» يظن يقينًا أن تلك المقولة هي التي لفتت انتباه رؤسائه إليه، وسر نجاحه، دونها ما كان حقق ما حققه.. حيث بَزَّ زملاءه، وأصبح رئيسًا عليهم، ثم أصبح ضمن هيئة إدارة الصحيفة الكبيرة، وليس قسم الحوادث فقط.
فى اليوم الأول له تَسَلَّم العمل، دخل على رئيس قسم الحوادث، قَدَّمَ نفسه وقَصَّ ما تم من إجراءات في إدارة شئون العاملين، فابتسم الرجل البدين القصير وهو في الأربعينيات من العمر، قال: «أعرِفُ.. أعرف كل ما تقولُهُ.. مع ذلك تابع.. تكلم!» كان من الممكن أن علام يشعر بالورطة، أو بالخجل أو حتى بالشعور بعدم جدوى ما ينطق به. ما حدث أن تابع يصف كل صغيرة وكبيرة، وكيف استقبلوه؟ وتحدثوا معه؟ ورأيه فيما دار وما يجب أن يحدث ويتم من إجراءات في حالة تعيين الشباب الجدد؟!
ضحك البدين القصير وأصدر حكمه بسرور: «أيقنتُ الآن أنك مناسب جدًّا للعمل معي في قسم الحوادث!.. مَن يلتقط كل صغيرة وكبيرة، و يقدر على استعادتها، هو صاحب المواصفات المطلوبة للعمل في قسم الحوادث».. قبل أن ينتهي الحديث، بينما علام في فُرجة باب الغرفة الزجاجي، صاح عليه رئيسه، سأله عما يحمله في حقيبته، أكيد لا يحمل أوراق عمل! بثقة أجاب الشاب علام: «هذه الحقيبة بها صابونة وليفة ومنشفة، شبشب زنوبة وغيار داخلي، وطقم من قميص وبنطلون جينز غير الذي أرتديه..». قاطعه الرجل: «ما معنى هذا؟» ابتسم علام قائلا: «لأنني أعرف مهمة صحفي الحوادث، فهو الصحفي الوحيد المطلوب ليل نهار، لذلك قررت المبيت في الصحيفة في انتظار الأوامر بمتابعة أي مأمورية في قسم شرطة».. شرد رئيس القسم للحظة قصيرة ثم تمتم: «هذا الولد نموذج لصحفي الحوادث!» ثم ابتسم.
القسم الثاني
* ماذا يعني الصمت؟
كان لا بد لبصيص من الأمل ينفلت من مظنة احتمال خطأ ما جمع بينهما، ربما كانا يبحثان عن «عبد الوارث المصري» آخر، وليس عن شخصي.. أنا أبوهم وجِدّ أبناءهم وحما زوجاتهم! عند الجهة الخلفية للبيت، أخذت في السير جيئة وذهابًا صامتًا، ذراعاي متهدلان إلى جواري، طلعتي لا تشي بالرغبة في الحركة، بينما الليل بلا مذاق ولا يبدو عليَّ مشاعر الاطمئنان.. ظلمة غلبت وطغت، نجوم شاحبة ولا تتلألأ، وإن بدت هامدة فوق صفحة مياه المنصورية.
شعرت ببرودة الطقس غير المحتملة لمن تجاوز السبعين مثلي، بينما لم تكفَّ الأتربة الهينة من الاندفاع في زخات غبية غير مبررة.. خصوصًا وهي معبأة برائحة الأمونيا التي وخزت خياشيمي، من فرط تراكم البول البشري والحيواني فوق جانبي رافد مهم من روافد النيل. عيناي تريان الأرض من تحت قدمي بالرغم من الظلمة، أسترجع ما حفرته الذاكرة.
أحفظ كل شبر فيها، ولا تعنيني رؤيتها جلية، مع كلالة البصر.. ها هنا حفرة غائرة صغيرة، حولها لعبتُ مع الصِّبيَة من جيراني الفلاحين بِكُرَات زجاجية أو ب«البلي» الملوَّن، واختبروا مهارتهم، مَن ينجح في إسقاط البلية في الحفرة عن بُعد مناسب.. بينما هناك طُلُمبة مياه صدئة، ولأنني ورثتُ عادةَ عدم التخلص من النفايات عن جدي، بَقِيَت مع العديد من الأدوات الزراعية المحطمة غير الصالحة، تمامًا كما تراكمت المقاعد الخشبية والأرائك فوق بعضها على الجانب الآخر. وغيرها كثير، ولا يعنيني ما يتقوَّل به أولادي بعنجهيةٍ وتمرُّد!
**********
* البيت الكبير؟!
لم يشغلني ذو النون ولا نقيق الضفادع، رأسي خزينة بلا أبواب، وبحر متلاطم الأمواج، أعني الأحداث والذكريات.. لا تسألني لماذا تذكرت تلك الأحوال التي تغيرت فجأة، أي الكلمات تناسب التعبير عما كنت فيه، خلال أيام قليلة انقلب السكوت إلى ثرثرة؛ والصمت غير مسموح به؛ قرر الجنرال وعلام إرسال أزواجهما وأولادهما للبقاء في بيتي عنوة! حتى عصام لَحِقَ بالجميع، وإن تردد على استحياء في البداية، كان قراره النهائي أن يبقى إلى أن يشاء الله أمرًا كان مقضيًّا، قالها لي هكذا فور أن دخل مشعثًا مغبرًا.. لم أفهم ما به ولم يَبُحْ بالتفاصيل الحقيقية!
ممكن ومن الجائز والمحتمل والمفروض أن يصبح هذا الغزو البشرى ميمونًا لعجوز مثلي، ولجميلة التي لا تَمَلُّ من شغب الصغار وثِقَل دم الكبار! ما أدهشني أنَّ ما دار في رأسي واعتراضي على اقتحامهم بيتي وانشغالي وقِلَّة حيلتي، لا يشغل جميلة، رأسها لا تشغله الأفكار، هذه المرأة لها ألف قلب وبلا رأس!
وجودُهُمْ على حال الفوضى تلك، يضيف أعباء جديدة على جميلة.. رأيتُ زوجتَيْنِ هما امرأتان ناضجتان ولهما خبرة في بيتيهما، لا يجهزان فنجان الشاي لأنفسهما، كأنهما خُلِقَتا للفراش وحسب! مع ذلك رفضت جميلة اقتراحي لها بأن تهمل كل ما يخصّ الأولاد وأمَّيْهما، وحتى الأبوان حين حضورهما ومعهما الأعزب، على كل من في البيت أن يخدم نفسه، كل مسئولٍ يرعى رعيَّتَه.. عندما نطقتُها كذلك.. أخفت النسوة شفاهَهُن، وضحك الصغار بصوت مسموع!
رفضت جميلة اقتراحي، ونطقت عفوًا بعنوان الفيلم الأجنبي الذي لم تشاهده – لم تذهب للسينما لمرة واحدة في حياتها، لولا التليفزيون ما شاهدت فيلمًا -: «كلهم أولادي»!
فيما قبل، وقتَ أن كنتُ أستطيع القراءة على ضوء شمعة أو ضوء القمر، كنت أحتفظ بعدد من الكتب التي لا استطيع قراءتها خلال الشتاء قارس البرودة والأيام شديدة الحرارة، الآن أفضِّل طقوس البقاء تحت أشعة شمس الصباح وحتى ما قبل الغروب، مع احتساء عددٍ غير قليل من أكواب الشاي والينسون والقرفة الساخنة.. أما الآن؛ حتى البقاء جالسًا في صمت تحت الشجرة، لم أعد قادرًا على تحقيقه! ما كنتُ أتصوَّرُ أن يصلَ الإزعاج إلى هذا الحدِّ الذي مَنَعَنِي من القراءة، ومن شُرْبِ مشروباتي الساخنة!
يقول قائل: عدمُ القراءةِ منطقي ومبرر، ما المانعُ من الشُّرْب؟ ببساطة لأن الهكسوس يلقون بالكرة وبأي أجسام صلبة كانت أو لينة في كل اتجاه، وحتمًا ترتطم بالأكواب، وهو ما كان وحدث بالفعل، فطلبتُ من جميلة أن تكفَّ عن عاداتها وشرحت لها كيف أن الكثير من العادات المستقرة يجب أن تنتهي.. ولا بد من بعض القسوة!
المدهش أن جميلة اعتادت طوال السنوات الماضية، عدم الاقتراب والوقوف أو الجلوس إلى جواري أينما كنتُ، خجلًا أم من باب الاحترام والتقدير؟!
أراها مع مقدَمِ الهكسوس وقد تملَّكَتْها عادة جديدة؛ أن تسعى إلى حيث أجلس وتجلس إلى جواري أو تقف خلفي! عمدتُ إلى تشجيعها على أن تتخلص من عادتها القديمة وقلت لها:«أنت صاحبة بيت يا جميلة، حمايتي واجب عليك، اقتربي مني أكثر!».
لم أر لمحةَ ابتسامٍ أو غضب، لم أرَ قبضةً لعضلة واحدة تقلَّصَت من عضلات وجهها الأسمر اللامع، ولم أشعر إن كنتُ تجرَّأْتُ واقتحمت أسوار حصنها الخاص.
منذ متى أتحدث عن جميلة بصفة أنثوية؟ طوال الخمسين سنة لم أشعر أو أتحدث أو حتى أفكر بأنها أنثى.. لماذا لم أنتبه إليها من قبل؟ أليست جسدًا مبروم الردفين يتحرك بحكمة ووقار، فلا تغالي رِدْفَة في انفلاتها، ولا تفرِّط في انحناءات لينة متماسكة.. أليست صاحبة الثديين النافرين، لم تعبث الأيام بسطوتهما.. أليست عيناها سوداوين من غير كحل ولا تحتفظ بالمرمدية العاج.. بل هي المرأة التي رسمها محمود سعيد في لوحته، بينما يظن أنه لم يخلق مثلها في البلاد، يخيب ظن الفنان العتيق أكيد لو كان في موقعي الآن.
لما ارتطمت الكرة برأسي فجأة، أعترف أنى انتبهت من شرودي، نظرت نحو جميلة التي عاتبتني على أني أصِفُ الشياطين الصغار دائما بالهكسوس، فشلْتُ في إقناعها وكففت عن المحاولة، حتى تأكَدَتْ بنفسها أن سلوك الشياطين وجنونهم دفعها إلى حيث تقي نفسها من بطشهم. سبعة أطفال تشكلت بهم العصابة، يُمارِسُون شطحاتهم علىّ وعلى المسكينة جميلة، وكل فرد منهم عصابة وحده، فلا أراهم مجتمعين مبتسمين إلا وهم متلاصقو الرؤوس يدبرون مؤامرة ما.
سمعتُ ذاتَ ظهيرةٍ وَقْعَ خُطواتٍ شديدةٍ على الأرضِ، تأتي من الداخل، من غرفة نومي، وقد أصبحَتْ غرفة الجنرال وزوجته.. ولكنها جاءت غير منسقة كمشية الضباط، وهو ما أقلقني إن كانَتْ لابني الجنرال، فلما فتح الباب ورأيتُه، نعم كان هو الجنرال ولكن بملابسه المدنية، وقد نسيتُ شَكْلَه وهيئتَهُ وهو داخل البنطال والقميص الصوفي والبلوفر الأسود المغزول بخيوط من الصوف، ما كنتُ أراه إلا بملابسه الميري؛ سواء في لقاءاته النادرة أو على صفحات الجرائد.
سألتُه عن سِرِّ ما أرى، وعن سبب وجوده ها هنا بينما البلد مقلوب حالُه؟ وعن سرِّ هذه الملابس الملكية التي يرتديها.. ماذا حَدَثَ، أين إذًا الزِّيُّ العسكري المهيب؟ قبض الجنرال على إحدى رُكبتَيْهِ ثم قال: «البيت بارد جدًا.. ما كنت أظنُ أنه أصبحَ باردًا هكذا!»، لما عُدْتُ وسألته عن آخر مرة دخل فيها الدار لم يُجِب! لعله نطق وقال ما قاله، فقد جاء صوته مكتومًا للغاية، وخاليًا من نبرته المعروفة عنه عندي على الأقل.
حالا قررت جميلة أن تجهز الإفطار، وبعد خُطوَتَيْنِ إلى الأمام، عادت لتسأل الجنرال عما يُحِبُّ أن يأكله في صباح يومه الأول في البيت، فنظر إليها وابتسم بسمة باهتة للمرة الأولى وقال: «لا أدري إن كانت ميزة أم عيبًا أن نظل طول العمر دون أن نتغَيَّر.. سواء إلى الأفضل أو حتى الأسوأ، لم يتغير فيك شيء يا جميلة، حتى من يراك لا يُعطِيك سنَّك الحقيقية.. معقول؟!»
لم تُعَلِّق جميلة، لم تنطق ولم تبتسم ولم تكشر، ولم يبِنْ عليها أنها سمعت ما نطق به الجنرال منذ قليل.. بقيَتْ على سحنتها المحايدة التي يصعب أن تعاديها أو تعاتبها على شيء.. فتابع الجنرال: «ممكن آكل من عمايل يدك أي أكلة».
لم تتحرك جميلة ولا يبدو عليها أنها غضبت أو فرحت، تدخل الأب وطلب منه أن يحدد ما يُرِيد تمامًا ويصفه، حتى لا يضع جميلة في مشكلة الاختيار بين أمرين؛ فهي لا تبدو مرتبكة وحائرة في أمر ما، قدر حيرتها في الفصل أو الاختيار بين نقيضين، ولو حتى بين أكلتين.
تلك هي الحالة التي عليها جميلة منذ أن سنوات، زادَتْ العِلَّة وتألمت منها بعد أحداث ميدان التحرير، ولا يعنيها منها إلا أن أولاد عبد الوارث اختلفوا، كل منهم يحارب من أجل احتلال الجزء الأكبر، أو الأهم في تقديره من البيت القديم الكبير..أكثر ما يُحَيِّرُها في الموضوع أنها غاضبة من سُلُوكِهِمْ الغشيم، لكنها هي التي رَبَّتْهم وأدخلَتْهم الحمَّامَ صغارًا، وأطعمَتْهُم وعلَّمَتْهم كيف يرتدون أحذيتهم؟ وكيف يتناولون الطعام باليد اليمنى.
ما سألوا على أبيهم لسنين، عندما ضاقت بهم الدنيا على سِعَتِها، عادوا إلى الدار وليس إلى أبيهم! بل وكل أسرار مراهقتهم معها، وبعد زواج مَن تزوج منهم، كثيرًا ما كان ينحني على أذنها للبوح بما لا يمكن أن يبوح به لأعز عزيز، ولا لأبيه على الرغم من كونه أصبح رجلًا!
وقَعَتْ جميلة في الحيرة لأول مرة في حياتها بين حبِّها لكل الأولاد والأحفاد، وتقديرها لمكانة عبد الوارث المصري التي كادت تتلاشى.. زاد الجميع من إهماله للرجل!
***********
(1) اسمعي يا «جميلة»
بعد أن فَرَغَ البيت من الجميع، لم يبقَ غيرُك معي يا جميلة، أظن أنه من الطبيعي أن تكوني لي وأكون لك، أكثر مما نحنُ عليه الآن، تسألينني كيف.. لا أدري؟! انقضَتْ الأيام والشهور والسنين ونحن على هذه الحالة، مع الصمت الذي يكسو الجدران والأسقف وأغطية سريري والمرقد البارد شتاء، والحار المؤرق بالصيف. الأشياء من حولنا في منزلنا القديم هذا تبدو دومًا بلا ظِلٍّ يؤكِّدُ وجودَها إن ليلًا أو بالنهار. بدَتْ لي في هذا الشتاء الجديد أكثر برودة من كل السنوات الفائتة.. ربما لأنه جاء على حينِ غفلةٍ، وما كانَ كذلكَ، يبدو أن ربَّنا سَحَب البركة من حولنا حتى مع إحساسنا بالزمن وبالطقس!
كنت أشعر بحرارة الصيف وأنتظر ارتفاع الرطوبة وانخفاض درجة الحرارة في الشتاء، وعلى مهل تأتي ليالي الشتاء الباردة.. ولا تفسير عندي للهجمة الشرسة التي تأتي بزمهرير الشتاء هكذا إلا لأن الدنيا انقلب حالها.. يقولها عبد الوارث مع كل جلسة مع جميلة! لم تعتَدْ جميلة أن تُعَقِّب أو تتحاور، ليس خوفًا أو كرهًا أو حتى زهقًا وضيقَ صدرٍ، من سُلُوكِ أفراد الأسرة معها.. بل شاءت «جميلة» أو حتى لم تَشَأْ، أن تكون على حالة الصمت تلك، تظُنُّ أنها في وجود عبد الوارث، لا يعوزها شيء.. وإن خلصت إلى حكمة تعلَّمَتْها من الأيام؛ أن الثرثرة تُفقِدُها الكبير قبل الصغير.
لم تنشغل جميلة، إلا بمسئولية البيت الكبير.. تُقابِلُ الباعة عند باب البيت، أو في السوق أو لشراء دواء ما من صيدلية القرية. جيران القرية لا يرون سكان البيت شبيهَ بيت الأشباح هذا، ولا حتى يرون أحدهم يزورُ جدَّهُمْ في مقامه بالمسجد المسمى باسمه «ضريح الشيخ المصري».
يُعَدُّ ضريح الشيخ مولانا «المصري» مزارًا طاهرًا.. كلُّ سُكَّانِ القريةِ يُقَدِّرُون فَضْلَه عليهم، لأنه من تلاميذِ الشيخِ «الفولي» في المنيا.. وكما كان مولانا «الفولي» يحمي مدينة المنيا، وما بعدها على مجرى النيل حتى البحر المالح، فَعَلَها مولانا «المصري» يحمي الدور والقرية كلها من غَدْرِ فيضان مياهه، ومن الحيوانات المفترسة والغامضة التي قد كانَتْ تقذِفُها مياه النيل!
*********
ما يُزعِجُ سكان القرية أن مهندس الري وأولاده، لا يذهبونَ للصلاة في رحاب مسجد الجدِّ، لا يشترون كِسوَةً خضراء من القطيفة لمقامه، ولا حتى الحصير لصلاة الغلابة، لا يشاركون في الاحتفال بمولده، ولا حتى بذبيحة ضأن عجفاء. منذ الشهور الطويلة الماضية، الولد المتمرد الغاضب «عصام».. ما عاد متعلقًا بالمبيت في حجرته، بسبب البقاء في القاهرة مع أصدقاء السوء.. أو هكذا يُرَدِّدُ الأب، أن سبب غياب طالب الحقوق الشاب العفيِّ صاحب بطولات الجامعية في الملاكمة. فلما عجز عن إقناعه وفاض به الكيل، قالها وأعلنها جلية بعد أن كانت مخاوف وظنونًا في الصدر فقط: «يجب عليك أن تُعلِنَ عن إخلاصك لي وإثبات تعلُّقِكَ بي وبالبيت الذي ضَمَّكَ، وإلا اعتبرتُكَ مثلَ المتمرِّدين الخَوَنة رامز وعلام!».
لا يعبأ عصام بشيء، يفضل الصمت، ليتركه يُثَرْثِر إلى دواخله وحده، وربما وهو إلى جوار جميلة، أمام المياه الجارية، سواء وهو فوق الحشائش مع مقعده الخيزران في الأجواء الدافئة، أو في الصيف ليلًا.. يتابع المياه تجري، أو من خلف الحواجز الزجاجية، وهو فوق المقعد الوثير، الفوتيه المكسو بالأقمشة – التي كانت ثمينة زاهية الألوان – في أيام البرد والقشعريرة.
قاطعته جميلة وطلبت منه ألا يصف أولاده بالمتمردين الخونة، بالخصوص «عصام» ولده المتفوق في كلية الحقوق، وهو أمل باقٍ لها وله. ببساطة وهدوء كعادتها تابعت تُذَكِّرُه بعجزه وكِبَرِ سِنِّه.. لم تَعُد صحته تتحمل المناهدة: «خاف على نفسك.. الولد سند لنا».
بدت جميلة قادرة على إنجاز مهام المعيشة الضرورية داخل البيت.. من تنظيف وإعداد الطعام وغسل الملابس وكل متطلباته، كثيرًا ما تشعر بالقلق والاضطراب حين تخال أنها عجزت، بعد أن نال منها العرج الهيِّن، كأن الأيام عمدًا نبهت ساقها اليمنى ما كانت تشكو من كسر قديم ولم تشف تمامًا، الآن يعاودها الإحساس بالألم غير المبرر!
انتفض الرجل ونفرت منه ما يشبه الكحة عن غير عمد، تلك الحالة العصبية، تنتابه وهو يتحدث أحيانًا، كأنه بها يعطى لرأسه مهلة للتفكير.. ولأن جميلة تعرف عنه تلك الفزعة غير المقصودة، لا تقلق ولا تتململ من فوق مقعدها المجاور لمقعده.. فضلت أن تجلس على المقعد الخيزران الخاص بهانم، وبمرور الوقت التصقت حواف المقعدين، ومالت برأسها حتى تسمع «سي عبده» وهو ينطق همسًا!
مع ذلك لم تُقَصِّر في تقديم الخدمات المناسبة لزوجتَيْ الولدين الكبيرين وأطفالهما، وقد أقاموا جميعًا بالبيت الكبير.. وحيث انشغال الجنرال والإعلامي في أمور لا تعنيها ملأت الدنيا ضجيجًا لم تفهم معناه ولا أسبابه. وإن لفت انتباهها أن سي عبده انشغل بما يدور فوق الطرقات على شاشة التليفزيون أكثر مما قبل.
*******
فلما عاودا الجلوس معًا وحدَهما ثانية، جميلة وسي عبده، في الجزء الخلفي من البيت الكبير المطلِّ على الترعة، بعد مضي حوالي الثلاثين شهرًا، وقد حُرِما منها طوال فترة احتلال الهكسوس للبيت، سألها: ماذا تقولين في الولد الجنرال، وعلام المذيع أو الصحفي المشهور؟ هل تعرفين ماذا حدث لهما بعد أن انتهى احتلالهما للبيت، حتى سريري ما كان لي أثناء وجودهما الغبي.. ومع ذلك لم يتصل بي أحدهما بعد أن تركا البيت وعادت إليهما سطوتهما القديمة؟!
طغى صمت جميلة.. لدقائق طالَتْ لم تُعَلِّق، فلا تُعَقِّب ولا تتساءَل ولا تُجِيب ولا يبدو عليها مشاعر القبول أو الرفض. نعم.. عادت جميلة سيرتها الأولى، حتى سألها: «أنتِ يا مَنْ تجلسينَ إلى جواري، ما عادَ الصمتُ يُجدي.. أخبريني إن كنتِ ما زلت على قيد الحياة، أم انتقلت إلى هناك مع «أم الجنرال».. الله يرحمها؟!»، ثم تابع وحده: «كيف لا يسرِقُ انتباهَك مشهدُ الغروب، والشفق الأحمر، بينما قرص الشمس يغرق خلف يابسة هناك؟ انظري باهتمام وانتبهي.. هل ترين ما أرى؟ الخيال الطويل الأسود يتحرك بسرعة بين أشجار النخيل على الضفة الأخرى.. الخيال يقترب، ربما يدبر مؤامرة لقتلي وقتلك..». قبل أن يتابع مبتسمًا، بدت جميلة منتبهة بحقٍّ وهي تشدُّ من عزمها، تقف من جلستها وتقترب من عبد الوارث.. تهم وتقترب أكثر كثيرًا عما قبل، لم تنتبه، بل لعلها منتبهة تمامًا، أن كُرَتَيْ الثديين احتويتا رأس الرجل وأنَّ أنفاسه الساخنة تدغدغ رقبتها من بعد، وبالرغم من الطرحة السوداء فوق رأسها، لم تصمد طويلا وانزاحت حتى كان شعرها المبروم حول رقبة عبد الوارث.. لم يتململ الرجل، ولم يحاول أن يَنْهَرَها وهي تسعى مُخلصة لأن ترفعه من تحت إبطيه في صمت.. مع دلائل الدهشة ابتسم وقال لها: «ماذا تفعلين يا عجوز، أنا أثقل من وزنك؟! أيام شبابك لم تلتصقي بجسدي؟!».
بسرعة أجابت على غير المعتاد: «سوف أحملك حتى سريرك.. أراك تُخَرِّفُ أسمع منك كلمة من الشرق وكلمة من الغرب.. لم أفهم ماذا تريد، جائز أنك في حاجة لأن تنام، النوم نعمة ربنا ما يحرمك منها يا سي عبده»، فتابع الرجل: «إذن اقتربي أكثر!»، لم تجد العجوز من الجرأة ما يجعلها تنطق بالكلمات التي واتتها، ولا بالأفكار التي ملأت رأسها حيرة.. طوال سنوات وهج الشباب والصحة ما حاول عبد الوارث أن يفعل معها تلك الفعلة، ولم ينطق بكلمة واحدة تعني أنه يرغبها ويراودها.. «يا حوستي»، نطقتها بصوت مسموع، ثمأسرعت تعدو وحدها إلى داخل البيت، وفي ركن قصي منه ارتمت إلى الأرض وجلست القرفصاء.
********
تستطيع أن تقولها باطمئنان.. بعد أن بقيت جميلة إلى جوار عبد الوارث، لم تَتْرُكْه، لم تُهمِل طلباتِهِ وترعاه بعد أن تخلى عنه الجميع.. الزوجة بالموت، وبعدها الأولاد بسبب خدمة الوطن كما ينطقها ابنه البكري والثاني من بعده؟! الجنرال لا يملِك وقتًا لرؤية الرجل مرة كل أسبوع.. كل شهر.. يعقب رامز على عتاب الأب قائلا: «بالضبط هي فترة الإجازات أصعب أيام العمل عندنا.. الناس تنام وترتاح، ورجالي ينهضون في صمت بمهماتهم التي قد يجهلها الجميع..». فلما عاتب الأب ابنه الإعلامي ضحك الخبيث قائلًا: «أنت تراني يوميًا على شاشة التلفزيون!».
بينما لم يتمكن الأب من معاتبة الصغير عصام وقد أطلق عليه لقب «فرقع لوز» أو القراقوز. أما جميلة، البقية الباقية من زمن الرغد والترف؛ أحيانًا يداعبها مبتسمًا: «أخطأنا أن أطلقنا عليك اسم جميلة..» فتهتز رقبة العجوز في صمت، لا يتركها سي عبده طويلًا، عاد وقرر قرارًا، أن يقولها: «يا أيتها الأميرة الأفريقية»، مرة في الصباح ومرة في المساء.. لم ينطق العجوز «عبد الوارث» بمثل تلك الأوصاف الجميلة، التي جعلت الدوار والدوخة يملآن تجويف جمجمتها الصغيرة، ويجعلانها تنتفض بما لا يراه أحد، لأن قلبها الصغير العجوز هو ما انتفض.
انتهت جميلة إلى نتيجة مُقنِعة، تُرَدِّدها بعد صلاة كل فجر جديد: «سي عبده يا روح قلبي زعلان من ولاده، وصعبان عليه نفسه، فين ح يودِّي الحنية اللي في قلبه دي كلها..؟!». بمضي الدقائق والساعات والسنين، يتأكد لجميلة أنَّ اللهَ وحدَهُ هو مَن وَضَعَ ذلك الرجل في طريقها.
*********
(2) * ماذا يعني الصمت عند عبد الوارث؟

يعني الصبر.. ربما، يعني السكوت عن الثرثرة وحسب.. جائز، يعني انتظار ما لا بد منه بدٌّ.. أشكُّ، أصبحَ الصمت هو الأغنية الحزينة الخفية تحت جلده الأسمر، أغنية لم تُطلِقْها كل أفاعيل الزمن، بطول سنوات عمره..وعمدًا لم يشأ أن يجترَّها، كأنه بصمته عن ذِكْرِها يُخفِيها عفوًا وعلى غَيْرِ رغبةٍ منه،أثناء جِلْسَتِهِ في المغربية، وهو على مرمى خطوات من مجرى المنصورية، تذكر سنوات عمره التي طالت، يشعر بها كما الركام فوق كتفيه، بسرِّ أفاعيل أولاده التي عجز عن تفسيرها، لم يعجز وحده، شاركَتْه جميلة قلة الحيلة في صمت.
ربما لو كان تكلم وتحدث إليهم، ثم سَبَّهُمْ وسبَّ جِدَّ أجدادِهِمْ، ربما كانوا انتبهوا إليه واستمع منهم، وفضفَضَ كلٌّ مِنْهُم إلى الآخر، وما انشغلوا أكثر بتشييد جدار الصمت عاليًا هكذا. لم يغفُ ليلةَ الأمس، بقيَ يقرأُ أغلبَ ساعاتِ الليل، وبإمعان تابع عددًا غير قليل من صحف النهار الفائت، ما زال يُفَضِّل قراءة الصحف أحيانًا على الرغم من تعب العينين، وحتى بعد شيوع الكمبيوتر والشبكة العنكبوتية، ومن قَبلهما التليفزيون صاحب الألفِ محطة أو قناة للمشاهدة!
هي الصحف بأخبارها التي تبدو دومًا قديمة مستهلكة، الصحفيون المحنكون، جعلوها مثيرة لافتة كذبًا، فقط من أجل المزيد من المبيع، وإلا أغلقت الدار الصحفية وتشرد الجميع. عندما بلغ تلك اللحظة التي نبَّهَتْه دون أن يدري.. ابتسم، تمتم: «قريبًا سوف يجيء الولد «علام» الصحفي الكبير ويُقِيم معي! لكن الملعون لن يفعل، نجح في احتلال ساعة يوميًّا على شاشة قناة تليفزيونية شهيرة، لم يعد في حاجة إليَّ.. إلى أبيه!».
الصحف عنده أرحم من صراخ المعروض على شاشة التليفزيون، خصوصًا «علام المصري»، أكثر ما يدهشه نجاح ابنه منقطع النظير! كان يراه تلميذًا غبيًا، ويراه كبيرًا رجلًا بليد المشاعر والأحاسيس.. يراه كما الخرتيت في معاركه، ينفعل لمرة واحده ثم ينسى عدوه أو موضوع فكرته، ليس من باب تجاوز العداوة أو المشكلة، هو الغباء، على حد تعبير عبد الوارث!
آخر ما آثاره وشد انتباهه، ما أدهشه ليلة أمس، فور قراءة جملة أسئلة حول أسماك السلمون، في ركن من الصحيفة مخصص للأطفال، فشغلته الأسئلة، شغلته اللعبة؟! لماذا هجرة أسماك السلمون؟ مَنْ يُرشِدُها إلى منابع أنهار المياه العذبة؟ من يَقْتُلُها هناك؟ والمتبقي منها يعود أدراجه إلى المياه المالحة الباردة، ومع ذلك تعاود الرحلة في السنوات التالية؟!
شرد مع الأسئلة التي حملته ورفعته ثم طارت به، ثم حطَّتْ هناك بعيدًا عند منابع نهر النيل التي زارها وعمل فيها فترة من الزمن، لشهور شاهد فيها أسماك السلمون الأحمر تتقافز فوق كل العوائق قادمة من الشمال البارد نحو الجنوب الدافئ لكل البحيرات التي يعرفها بعد الحدود المصرية.. لم تدم طويلًا معَه، فقد تم تشييد السد العالي، وفقد السلمون وجبته الشهية في المنابع بعد الصيام الذي يطول لشهور.. انتبه عبد الوارث، ولم يشغل رأسه بالإجابة عن الأسئلة.. ألقى بالجريدة بطول ذراعه إلى الأرض، تذكر أولاده الثلاثة، يأتيه شبحهم على حين غفلة، كما أشباح الحكايات القديمة، أو حتى أشباح مسرحيات شكسبير وروايات هاري بوتر! يتساءل: «هل تجاوزت حدودي مع أولادي، لم أحسن الظن بهم؟!».
*********
«عبد الوارث المصري»، احترف الحديث عن القرى والمدن المُطِلَّة على النهر، وبتحدٍّ يسرد حكايات لا يعلم أحدهم عنها شيئًا، كل من يجلس إليه، رغبوا في ذلك أم نفروا، لا يهم، ولا يدرى أحدهم إن كان صادقًا أم كذبًا.لا يتردد في وسم من يجهل أسئلته عن أسماء السدود والقناطر بل تلك الهواويس على بحر النيل – لاحظ أنه ينطقها هكذا كما العامة من المصريين، ولا يقول نهر النيل، يظن عبد الوارث أن أولاده انشغلوا بأنفسهم وأحوالهم، ولم ينتبهوا لنهر النيل، وبسبب تلك الخصلة جُبِلوا على التمرُّد وقلة الأصل وأهملوا أبوهم نفسه!
أصابته علة «غواية النيل» وأمعن حتى جعل علة وجوده ومعيار علاقاته مع الناس حتى مع أبنائه هي درجة معرفتهم وحبهم لأسرار نهر النيل. يعيش أيام وسنوات حياته الأخيرة وحيدًا، إلا من تلك العجوز «جميلة»: «أنت بخير يا جميلة؟!»،ما كان يجعله يشعر بالورطة.. بعد كل تلك السنوات، أن يسمعها تبكي أبويها.. وها هو السد باقٍ يعطي لنصف قرن ويزيد، حتى لا يمكن تصور أحوال البلاد دونه.. تضاربت المشاعر عنده واحتدمت بين أحقية مشاعر جميلة النبيلة، والواجب بضرورة سد رمق الملايين وملء بطونهم بثمار الفاكهة والخبز.
*******
زادت حالة الصمت عند عبد الوارث، و أكثر مع بداية الضجيج الذي عم البلاد، من شمالها حتى جنوبها ومرورًا ب«المنصورية»، فشعر الرجل وكأن البلاد امرأة حبلى في لحظة مخاض، في انتظار الميلاد الجديد الذي يترقبه الجميع ويخشاه أيضًا.
اعتاد عبد الوارث خِلْوَته، لا تقتحمها سوى الشمطاء التي خبرت أعراض الشيخوخة ووجع الركبتين وقهر الدوخة أو الدوار المفاجئ، مع ذلك لم تتنازل عن مهامها المنزلية.. تُعِد وجبة الغداء المسلوق مع الكرفس والبصل المشوي يوميًا، طوال السنوات الطويلة مع أم العيال، لم تتعلم منها وجبات الطبيخ المسبك ولا طواجن البامية بلية الخروف، ولا الطرب المحشو باللحم المفروم، ولا المحاشي بأنواعها والمشويات بصنوفها.. حتى باتت مسار السخرية من الجميع أثناء وجودهم في الشهور السابقة، ولم يبق سوى الرجل الذي لا يعترض البتة، وعصام الذي غالبًا ما يتناول طعامه في كافتيريا الجامعة والمطاعم الشعبية في حي الحسين أو باب الشعرية وبولاق أبو العلا مع زملائه.
اعتادت جميلة أن تتابع معه ما تنقله شاشة التليفزيون، وبإلحاح تُكَرِّر أن يجيب عن أسئلتها الدهشة وهما يشاهدان قناة «ناشيونال جيوجرافيك» وبرامج عالم الحيوان في القنوات المختلفة.. كل ما تحرص جميلة على مشاهدته من برامج، تلك التي تتناول حياة الحيوانات والطيور وكائنات البحار.. ولا تصبر على فيلم تتابع مشاهدته باهتمام إلا فيلم «شريهان» الطوق والأسورة، أو أغنية «زينة» في أحد أفلام فريد الأطرش.. ليس لسبب إلا لكونهما ينقلانها إلى زمن غائم وغامض لأرض النوبة وأهلها قبل أن تغرق ويغرق بيتها والنخلة الباسقة أمامه.. وإن راودها خاطر خبيث لم تبُح به لأحد حتى لا يسخروا من أفكارها، يقين خفي في صدر جميلة بأنها من المحتمل جدًّا أن تقابل والديها قبل الغرق، لعلهما كانا ضمن مشاهد الفيلمين!
هكذا تبدو على يقين وهي تقترب بشدة نحو شاشة التليفزيون، وما عاد عبد الوارث يسألها ويستفسر عن سبب تحديقها هكذا بشدة في شاشة التليفزيون، مع العادة الجديدة التي تلبست عبد الوارث منذ سنوات قليلة، اعتاد أن يحتسي كوب الينسون باللبن صباحًا ومساءً.
لم يقنعها الأرق الذي بدأ ينتابه ليلًا ونهارًا، حتى جعل النوم هدفًا يبحث عنه بين طيات الكتب وفي البرامج الطبية في الإذاعة والتليفزيون.. وهو ما جعل الأب يلجأ إلى غرور أبنائه وادعائهم العلم بكل شيء.. يسألهم عن سر الأرق الذي انتابه. عرف من أحدهم أن للنوم أربع مراحل، فقد الأب نصفها الأخير لأنه عجوز وشارف على السبعين من عمره، هكذا نطق علام وهو يشعل السيجار الذي يبعث برائحة غامضة، لا هي عَطِرة ولا مثل دخان السجائر، فلما عطس العجوز واحتقن وجهه، لم يعقب واكتفى بأن أزاح بكفه كومة الدخان من أمام وجهه!
أما الجنرال الذي تصادف وجوده، لم يفكر طويلًا، هرش خده بحركة معروفة عنه، لا إرادية، واثقًا قال: «فما أطال النومُ عمرًا.. ولا قصّر في الأعمار طول السهر»، ثم ضحك وصمت وحده.
بينما تأكد لعصام مظاهر علة قلة النوم عند أبيه، وكثيرًا ما يجده في الجهة الخلفية للبيت يجلس وحده على ضفة النهر، إن ليلًا أو نهارًا، وإن شتاءً أو صيفًا.. يرمي نظرة ساخرة، ويُطنِب معاتبًا أباه الذي خلت حياته من هموم الناس، لم يعد يفكر إلا في نفسه، ولم يعد يشغله شيء في الكون، إلا النوم حتى أصبح النوم مشكلته!
خلص عبد الوارث إلى نتيجةٍ واحدةٍ، لن يسألَ أولادَه في شيء، رَجَّح رأي جميلة التي تابعت الحوارات في هدوء، وقدمت اقتراحها.. لا أكثر من احتساء كوب من الينسون بالحليب، وإن اعترض الرجل، خصوصًا لأنه بالحليب، إلا أنه بعد أول كوب أدمن تناوله.. لم يذق طعم النوم، لكنه تذوق المشروب الجديد، أضاف عِلَّة الأرق إلى العلل الغامضة التي تنتابه أحيانًا مثل الشعور بصعوبة التنفُّس أو الشعور بآلام غامضة في كل مفاصل جسده، وَجَدَ مؤخرًا كثرة الاستيقاظ ليلًا للتبول بكميات هينة بسبب تضخُّم البروستاتا، نعم برَّرَها الأطباء بالشيخوخة، ومع ذلك لازَمَتْه آلامُ المَعِدَة بسبب كثرة ما يتناوله من أقراص أدوية لم تُشفِه، ويخشى أن يكفَّ عن تناولها!
********
على قِلَّة ما تثيره جميلة من أسئلة، سألته: «لماذا تُصر على أن تصف المخالف لتعليماتك مع بحر النيل، بالظالم؟».
لم يدعها تتابع، بدأ بسرد حكاية عجيبة لم تسمعها من قبل، قادمة من أغوار الزمان.. قال: «خرج فرعون مصر من قصره ذات يوم، كان في ملابسِ المتنكِّرِ ودونَ حَرَسِهِ الأقوياء، تقابَلَ مع الكاتبِ حاملِ القَلَمِ الجالسِ عند مدخل سوق المدينة، ما إن لَمَحَه الشاب الذكي، حتى هبَّ واقفًا، ولا يدرى ماذا يقول وماذا يفعل..؟ قال في نفسه: «إن لم يكن هذا القادم هو الفرعون حقًّا، فهو من أعالي القوم ويملك سطوة إبلاغ الفرعون عما يراه ويسمعه مني»! فهم الفرعون ما دار برأس الكاتب حامل القلم، أشار له أن يتابع ما كان يقوله للناس: «انظر.. إن النيران التي كثرت في الوادي وفي الدور الطينية، لا تنطفئ بكل مياه النهر! انظر، لقد حدثت أمور لم تحدث من قبل، إذ اختطفت المزارع المياه، نرويها فلا تشبع! انظر، لقد تجاسر بعض الخوارج والأعداء، يروون الأرض بأكثر مما تحتاج إليه، ويشربون بأكثر من حجم بطونهم، ويزحفون ليلًا ويمهدون لسرقة مجرى النهر! هل كل هذا لا يكفي لمعاقبة المجرمين الظلمة الذين يظلموننا؟!» وحتى يزيد من محاولة إقناع الفرعون بقدر أهمية النيل عند الشعب، تابع فقال: «الحمد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض، والذي يأتي ليطعم البلاد، صاحب الطبيعة الخفية، الذي يروي المراعي، والذي خلقه «رع» ليغذى كل الماشية».
انتبه الفرعون لما يردده الشاب، ولم يشأ أن يُقاطِعَه، وسمعه يتابع: «هو النيل الذي يعطي الشراب للأماكن المقفرة النائية عن الماء، ونداه هو الذي ينزل من السماء.. النيل هو ربُّ السمك، الذي يجعل طيورَ الماءِ تذهب إلى أعالي النهر، دون أن يسقط الطائرُ.. هو الذي يُوَفِّرُ الشعيرَ والقمحَ حتى يجعلَ المعابدَ تُقِيمُ الأعياد.. وإذا أصبح شحيحًا ذعرت البلاد كلها، الصغار والكبار أصبحوا صفر اليدين، والناس تتغير حينما يهجم مياهه..». أسرع الفرعون وسأله: «أراك بليغ الكلمة حكيمًا.. وماذا حينما يرتفع النهر؟».
ابتسم الشاب وهو يقول: «حينما ترتفع مياه النيل تبتهج البلاد، وكل فرد في حبور، وكل الفكوك تأخذ في الضحك»، يبدو وكأن الطريق إلى القصر كان هينًا، وبدا قصيرًا، ما أدهش الشاب، وما أدهشه أكثر تلك الحفاوة التي قوبل بها بعد أن أخبره الفرعون بأنه أفضل مَن يكون وزيرًا له لرعاية النيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.