فى رواية «مساكن الأمريكان» تروى الكاتبة هبة خميس، قصة حية عن مدينة الإسكندرية التى لا تظهر فى الأفلام والأغانى، بل الإسكندرية الواقعية التي تعيش على الهامش وتتغير ملامحها بسرعة، وتتخذ من منطقة "مساكن الأمريكان" العشوائية فى الإسكندرية بطلًا رئيسيًا، وتوثّق الحياة اليومية لسكانها قبل أن تُزال مساكنهم، هى شهادة على عالم موازٍ لا يشبه الصورة النمطية للمدينة، عالمٌ يصارع الفقر والعنف والأحلام المكسورة، وتسلط الرواية الضوء على الفجوة الكبيرة بين الإسكندرية القديمة بأصالتها وذكرياتها، والإسكندرية الجديدة التي تتغير معالمها بفعل التطوير العمرانى السريع، لا يوجد في الرواية أبطال خارقون، بل شخصيات عادية من الواقع، كل منها يحمل قصته الخاصة، وتمثل أصواتًا خافتة يحاول المجتمع إخفاءها، "مساكن الأمريكان" هى رواية عن "أصوات" لا تُسمع، ومناطق لا تُرى، وذكريات تمحوها الحداثة، هى محاولة لتوثيق فترة زمنية مهمة من تاريخ الإسكندرية، وتقديم صورة صادقة عن الحياة على الهامش. أما فى رواية «هواء مالح»، تقدم هبة خميس قصة إنسانية عميقة تدور أحداثها فى مدينة الإسكندرية أيضاً، وتُعد المدينة جزءًا لا يتجزأ من القصة، فبحرها وهواؤها المالح يُشكلان خلفية رمزية لمشاعر الحزن، والشجن، والأمل التى تعيشها الشخصيات، وتُلقى الرواية الضوء على عدة قضايا اجتماعية ونفسية من خلال شخصياتها الرئيسية؛ لا تركز على قصة حب بالمعنى التقليدى، بل هى رحلة داخلية لاستكشاف دوافع الشخصيات وصراعاتها، تُظهر كيف أن الوحدة ليست مجرد غياب الأشخاص، بل هي شعور داخلى قد يعيشه الإنسان حتى وهو محاط بالآخرين، وتستعرض الرواية الصراعات الداخلية التي تعيشها شخصياتها، مثل صراع الحب، والفقدان، والألم، والرغبة فى التحرر، هذه الصراعات ليست مجرد أحداث عابرة، بل هى دوافع أساسية تحرك السرد وتدفع الشخصيات إلى اتخاذ قرارات مصيرية فى رحلتها نحو استعادة الذات أو إيجاد معنى لحياتها، وتُبين الرواية مدى هشاشة العلاقات بين البشر، وكيف أن الظروف الاجتماعية والنفسية قد تؤثر على مسارها بشكل كبير، وكيف أن كل منهم يحاول إيجاد معنى لحياته خارج إطار العلاقات التقليدية، ويمكننا تحديد عدة محاور رئيسية تتداخل لتشكل نسيجاً سردياً عميقاً، أبرزها: البحث عن الذات وتأثير الذاكرة؛ فالرواية تستكشف العلاقة المعقدة بين الذاكرة والوجود، وكيف أن فقدان الذكريات يعنى فقدان جزء من الذات، هذا المحور يطرح تساؤلات حول ماهية الحقيقة والوهم، كما تبرز الرواية العلاقة بين الإنسان والمكان، من خلال مدينة مرسى مطروح وواحة سيوة كأبطال حقيقيين فى القصة، وبهما تعيش الشخصيات فى بيئة بدوية مختلفة عن حياة المدينة، مما يلقى الضوء على طبيعة الحياة البدوية وعلاقة أهلها بالأرض، وهنا ترصد الكاتبة تفاصيل هذه الحياة وعاداتها وتقاليدها، وتوضح كيف يؤثر المكان بسماته الجغرافية والثقافية على شخصيات الرواية وتشكيل مصائرها. هبة خميس؛ كاتبة مصرية من مواليد الإسكندرية عام 1987، صدرت لها مجموعتان قصصيتان؛ «نافذة تطل على ميدان» عام 2011، وحصلت على المركز الأول فى مسابقة الهيئة العامة لقصور الثقافة دورة نجيب محفوظ، و«زار» عام2017، وحصلت على جائزة ساويرس الثقافية عام 2019، و «مساكن الامريكان»، و «هواء مالح»، الصادرتان عن دار الشروق . «هواء مالح» رحلة نفسية شديدة العمق، وتحمل العديد من الدلالات الرمزية، كيف تكونت لديك الخبرة المطلوبة بعلم النفس لهذه الرواية؟ المسألة ليست متعلقة بالخبرة قدر تعلقها بالإنسان نفسه، طوال حياتى عشت أتأمل البشر والأماكن وكل شىء من حولى، كل ذلك أخزنه ليخرج منى وقت الكتابة وأيضاً بالإضافة لاهتمامى بالقراءة فى مجال علم النفس أحببت تحليل الشخصيات ومحاولة توقع تصرفاتهم كأنك تقرأ الإنسان جيداً بتلك الخبرة البسيطة، أظن تلك الخبرة مشتقة من قراءاتى نفسها وتأملاتى طوال الوقت فى البشر، كما أنني أعود دائماً لسؤال المختصين عن شخصياتى، فى العمل السابق لى استشرت طبيباً نفسياً صديق فى الرواية، وفى تلك الرواية أيضاً لأننى وددت فهم أشياء أكثر عن الدافع والنسيان والذاكرة من وجهة نظر متخصصة أكثر. التخلى عن الذاكرة فى الرواية يبدو وكأنه الفعل الصحيح للاستمرار فى الحياة، هل التخلى هنا فعل يأس، وهل التخلى عن ذواتنا هو المطلوب لنستمر فى الحياة؟ لا أعلم حقاً الإجابة على ذلك السؤال، كتبت رواية كاملة لأجيب عن تلك الأسئلة المتعلقة بالذاكرة وحينما انتهيت أدركت أنه لا إجابة لدى أيضاً، ذاكرتنا جزء منا وحينما نتخلى عنها نفقد كل الأشياء التي أوصلتنا لما نحن عليه، فى كل مرحلة من حياتي كنت أشعر كأننى أودع نسخة قديمة مني لأبدأ عيش النسخة الجديدة، إذا لم تعد لدي ذاكرة سأفقد كل تلك النسخة القديمة مني والتي ساهمت فى تطوير نسختي الجديدة الآن، لكن تلك الذاكرة ثقيلة جداً أحياناً، تعوق حركتنا فى الحياة وتعيدنا أحياناً لأوقات وأماكن لا نرغب فى العودة إليها حقاً، بطلة الرواية كانت مهمومة بتلك الإشكالية واختارت العيش بلا تلك الذاكرة التي تثقلها لكنها هي أيضاً لم تستطع إيجاد الإجابة على أسئلتها. «جمعة» بطل «هلاوس صفاء»، والهارب من ذاكرته عمداً ليصنع ذاكرة بديلة، فى مدينة تتغير بتحول فصولها باستمرار، لكنه كعادته مثلما يأتى، يرحل دون أثر، هل هروب «جمعة» هو الوجه المكمل لحالة التخلى؟ جمعة فى الرواية هو شخصان وليس شخصاً واحداً، الأول وهو الموجود بشكل فعلي والذي كان واضحاً منذ البداية فى تخليه عن الأشياء، كان صريحاً تجاه تلك الأشياء وهي حياته وأسرته الكبيرة وحركته من الإسكندرية تجاه مطروح، وكيف أشعره ذلك التخلي بالعيش فى سلام وهدوء، جمعة الآخر فى الرواية هو وليد هلاوس صفاء وكان وجوده ضرورياً بالنسبة لها ومجيئه ورحيله كان مرهوناً بمزاجها الشخصي. باعتبارك من محافظة ساحلية، كيف ترين تأثير المكان على الكاتب؛ وعلى شخصياته؟ تأثير ضخم بالطبع، أتذكر أنني منذ طفولتي اعتقدت أن العالم ساحل كبير، فلا أتخيل حياة بعيدة عن الساحل، المكان هو محرك أساسي لكتابتي وله تأثير كبير على الكتابة بالنسبة لي، وبالنسبة لشخصياته أتخيل العمل متكاملاً تماماً حينما أشرع فى الكتابة فالمكان والزمان مؤثران بشكل كبير على الشخصيات، وأحياناً أتخيل المكان كشخصية أخرى فى العمل، وذلك كان واضحاً بشدة فى روايتي السابقة «مساكن الأمريكان» وفى «هواء مالح» أيضاً حيث المكان والبيئة التي تحرك الشخصيات دائماً. إذا كانت هبة خميس تعيش فى القاهرة، هل كان ذلك ليؤثر على شخصيات العمل؟ لن يغير فقط المكان الشخصيات، سيتغير العمل تماماً، أظن أنني سأكتب بشكل مغاير تماماً لما أنا عليه الآن، تغيير المكان بالنسبة لي هو تغيير شامل حتى وإن كان فى نفس البلد، فلا أتخيل مثلاً شخصية مثل صفاء الرئيسية فى الرواية تعيش فى القاهرة أو شخصية جمعة المنعزلة فى الصحراء تعيش فى حي مزدحم بالقاهرة. لماذا سيطر الموت ورائحة الدم على جزء كبير من الأحداث؟ الفكرة نفسها كانت مشتقة من حادث سيطر عليه رائحة الموت نفسها، تلك الحادثة للقطار مازلت أتذكرها حيث مررت عليها فى طريق عودتي من مطروح بعدها بيومين، شهدت صوت سارية الإسعاف يعوي فى المدينة الهادئة، كما رأيت الأشلاء المتبقية بين الهياكل المعدنية المحترقة، لذا بالطبع سيطر الموت عليها وكان محركاً لأحداث الرواية طوال الوقت. رغم كثافة عالم الرواية، إلا ان اللغة اتسمت بالسلاسة والوضوح، هل كان ذلك متعمدا لصنع التوازن، وكيف تفكرين فى اللغة بشكل عام؟ اللغة هي ابنة النص بشكل عام، فهي مرتبطة بروحه وشخصياته وحتى مكان النص نفسه، فلا أفكر فى اللغة بشكل كبير، فقط أدعها تتحرك مع النص نفسه لخلق ذلك التوازن والسلاسة، ولغتى فى كل عمل مختلفة عن العمل الآخر، فى الرواية السابقة كانت اللغة مختلفة عن «هواء مالح» تماماً، وأظن أن ذلك منطبق على كل أعمالي. «مساكن الأمريكان» روايتك السابقة جاءت بعد فترة بحثية شاقة، هل اتبعت نفس الأسلوب مع «هواء مالح»، وهل تخططين لأعمالك قبل الكتابة؟ بالطبع أحب البحث المكثف دائماً قبل الشروع فى الكتابة، فى «هواء مالح» كان البحث مرتبطاً بعدة أشياء أولها الحادث نفسه والأخبار حوله، كما تطرقت لشكل المدينة فى 2010 ، وفى النهاية كان البحث عن البدو، وذلك البحث كان محض مصادفة حيث شاركت فى حلقة أمكنة التي يديرها الكاتب علاء خالد وكانت حلقة بحثية عن ايكنجي مريوط، وهناك فى جولات المكان شاهدت البدو عن كثب، دخلت بيوتهم وشاركتهم الشاي وحضرت مناسباتهم، لذا كان لدي مادة ثرية بذلك الناتج من الحلقة ووظفته بالفعل فى الرواية. الإسكندرية ليست مدينة واحدة؛ بل أكثر، كيف ينعكس ذلك على كتاباتك؟ كل مدينة كبيرة هي عدة مدن متداخلة والإسكندرية ليست بعيدة عن ذلك، لكن الفجوة هي فى رؤية الفنانين للمدينة نفسها، تلك الرؤية القديمة للمدينة كحالة فنية نوستالجية لا تخضع للوقت الحالي والمنطق، أجد كثيرين يتباكون على المدينة الكوزموبوليتانية التي عاش فيها الأجانب جنباً لجنب مع المصريين لكنني أعود للواقع وأسأل كبار السن فنادراً ما أجد أحداً يتذكر تلك الصورة النمطية للمدينة، وهي صورة غارقة فى الرومانسية مستمدة من الأدب والحكايات التي رواها الأجانب نفسهم فى منتجهم الثقافى من الأدب والفن والموسيقى وهي صورة مغلوطة، فحينما نتجه لكتابات «إبراهيم عبد المجيد» مثلاً يقابلنا وجه آخر للمدينة ليس بتلك الرومانسية لكنها مدينة تطحن أبناءها كعادة المدن الكبرى. شاع مؤخرا الحديث عن استخدام الذكاء الأصطناعى فى الكتابة، كيف ترين الأمر، وهل سيتم إعلان موت المؤلف الأدبى؟ أستخدم الذكاء الاصطناعي فى حياتي اليومية معظم الوقت، لكن فكرة استخدامه فى الكتابة الأدبية تحديداً لا أستسيغها على الإطلاق ، كما أن الكتابة عملية إبداعية متكاملة وإنسانية لا يصلح معها تدخل الذكاء الاصطناعي. ما مشاريعك المقبلة؟ انتهيت منذ فترة قصيرة من مجموعة قصصية بعد غياب لفترة عن القصص القصيرة، ولدي بالطبع عدة مشاريع أخرى فى الرواية لكنني لا أعلم بعد ما العمل الذي سيفرض نفسه فى النهاية لأتفرغ له.