هبة خميس فى منامى كنت فى عمق الصحراء ألاحق ظلالاً لا أعلم عنها شيئاً. أسير فى طريق طويل بلا نهاية، حلقى جاف وصوتى تائه لا يخرج، بينما أتبع طيف الخضر منتظرة منه الإجابة التى ستجيب عن كل أسئلتى. رأيت ذلك فى منامى بينما كنت فى حافلة وسط الصحراء تقلنى إلى واحة سيوة التى سمعت عنها الكثير قبل زيارتها، أخبرنى الكثيرون أنها شفاء. لكننى حينما صحوت على مدخل الواحة واهنة من الحلم الذى رأيته مع تعب الرحلة التى استمرت لساعات من الإسكندرية. انقبض قلبى فور رؤية الجبال المحيطة بالواحة. كنت مصطحبة ابنى الصغير فى رحلة للتعافى من فقدانى لوالده قبل عامين من تاريخ الرحلة. بمرور الوقت كنت أستجمع نفسى جيداً لكننى شعرت بحاجتى لوطء مكان جديد بقدمى. للشعور بالتجدد الذى يتغلب على فقدانى. اخترت الواحة مقصداً لعلها تشفى قلبى المكسور. قبل الرحلة بأكثر من عام بدأت فى كتابة أول فصل فى رواية هواء مالح» (دار الشروق 2025) فكرت وقتها فى عودتى للكتابة بعد انقطاع لسنوات من خلال رواية، تمنيت كتابة تلك الرواية لتكون رقيقة وخفيفة عن الحب وعن الفرص الثانية فى الحياة، لكننى توقفت فجأة بسبب «مساكن الأمريكان» حيث قفزت فكرتها إلى ذهنى بعد تمشية بلا هدف بالقرب من المساكن، لتسيطر على شخصية «علي» البطل، فتشتتنى كثيراً عن استكمال الرواية التى بدأتها، فى النهاية قررت تأجيل كتابة «هواء مالح» حتى انتهائى من كتابة «مساكن الأمريكان» لأننى مازلت أجد أنه من الصعب على كتابة روايتين فى نفس الوقت. يتعلق الأمر بسيطرة تلك الشخصيات على تفكيرى وخوفى الشديد من تأثيرهم على بعضهم البعض. بعد غياب سنوات عن الفصل الذى كتبته وبعد تسليمى مخطوط الرواية السابقة للنشر، قررت استئناف الكتابة فى «هواء مالح» فى ظروف شديدة الغرابة، بعد معرفتى بمرض والدى الشديد عقب عودتى من القاهرة لتوقيع رواية «مساكن الأمريكان». كان التكرار هو ما شعرت به تلك اللحظة، دفقة مكثفة من الذكريات عادت إلى فى تلك اللحظة حينما طالعنى وجه والدى المريض، صوت القئ المتكرر وذبول الجسد. كل ما جاهدت لنسيانه عاد إلى. انطلقت فى الكتابة بداية من ذاكرتى نفسها، كنت أتساءل عن حياتى لو كنت بلا ذاكرة، كنت «صفاء» المدرسة التى تتحرك بخفة بين شوارع الإسكندرية ومرسى مطروح عالمة أنها خفية. أتخيل حياة أخرى عشتها باختيارات مختلفة مثل اختيارى التمسك بالتدريس وليس التخلى عنه، إصرارى على أن أكون إنسانة مرئية ليست خفية مثل بطلتى، واختيارى للحب رغم صعوبة الحياة وتعقيداتها. كلما تعمقت أكثر فى الكتابة كنت أجد نفسى عالقة فى متاهة الذاكرة، أصحو أياماً لا أتذكر شيئاً من حياتى السابقة، أعيش يوماً خفيفاً، لكن بمجرد متابعتى لتفاصيل مرض والدى كانت تعود إلى ذاكرتى التى تصر على التكرار كل يوم. وبعد فترة طويلة من المرض لم يتعرف على والدى، لاحظت ذلك ببساطة حينما تابعت عيناه. لم يمرض والدى بالزهايمر لكن السرطان نهش معدته والكبد رغم كل محاولاتنا لإيقافه. تلك النظرة الزائغة على وجهه كانت بلا ذاكرة. بعدها بأيام رحل وبعدها بأيام كتبت فصل النهاية فى «هواء مالح» كنت موجوعة بالذاكرة والمرض، استعنت بالكتابة لتساعدنى فى التخطى كما جعلتنى أتخطى وفاة زوجى من قبل، لكنها تلك المرة كانت مؤلمة تعيدنى لكل تلك الذكريات التى تجنبتها، وخلال الكتابة وجدت نفسى غارقة فى الأسى على كل شىء فقدته. ربما كان محركى الوحيد لتلك الكتابة هو ذلك الشجن الممزوج بالخوف من الفقد الذى حدث لى فى نهاية الكتابة. أو الشجن الذى طبعته الشخصيات على بداية من «صفاء» الشخصية الرئيسية التائهة فى عالمها دون ذكرى و«جمعة» الهارب من ذاكرته عمداً ليصنع ذاكرة بديلة هادئة فى مدينة تتغير بتحول فصولها باستمرار ولا تحمل أى ذكرى لسكانها مثل مدن البدو بلا حضارة تتكيء عليها. فى سيوة تبلورت الفكرة فى رأسى، أحببت الواحة وتمنيت لو ظللت فيها للأبد وسط النخيل وأحجار الملح المحيطة بكل شىء هناك، لكننى لم أستطع منع نفسى من الشعور بتلك الغصة من مشهد الجبال ليلاً حينما خرجنا من الواحة، ذلك التناقض بداخلى خرج من خلال كتابة «هواء مالح» لأعبر عن حبى وخوفى من المكان ومن الذاكرة وكل شىء.