كان المسرح مهيأً فى تيانجين، لكن الدراما بدأت في واشنطن. فبعد أيام قليلة من فرض الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» رسومًا جمركية عقابية على الصادرات الهندية، وصل رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» إلى الصين فى 30 أغسطس 2025، ليستقبَل ليس كمنافس حذر، بل كشريك مرغوب فيه. وقف مودى إلى جانب الرئيس الصيني «شي جين بينج»، وانضم إليهما لاحقًا الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، فرمز وجوده إلى تحول خفى ولكنه واضح. ما كان يفترض أن يكون ضغطًا أمريكيًا، دفع بدلًا من ذلك ثلاثة من أهم قادة آسيا إلى الجلوس فى غرفة واحدة، تجمعهم ليس الثقة، بل الغضب المشترك من السياسات الاقتصادية القسرية لواشنطن. لقد تحولت قمة منظمة شنغهاى للتعاون (SCO) من مجرد لقاء إقليمى آخر إلى لحظة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية. ◄ تحالف «شي مودي بوتين» في مواجهة العقوبات ◄ الهند بين المطرقة الأمريكية وحضن الصين.. تحالف جديد يعيد رسم آسيا كان المشهد الخلفي واضحًا. قبل أيام فقط، صدمت الولاياتالمتحدةالهند بفرض رسوم جمركية بنسبة 50٪ على مجموعة واسعة من السلع الهندية، لتكون أشد إجراء تجارى تفرضه واشنطن على نيودلهى منذ عقود. قدم مساعدو ترامب القرار باعتباره دفاعًا عن العمال الأمريكيين، وعقوبة لرفض الهند الاصطفاف خلف العقوبات الأمريكية على روسيا واستمرارها فى شراء النفط الروسى المخفض. وبدلًا من دفع الهند أقرب إلى واشنطن، دفعت هذه الرسوم مودى إلى مدار جديد، حيث بدت الصين أقل كمنافس وأكثر كشريك تفرضه الضرورة. لم تكن هذه القمة مجرد ضرورة دبلوماسية، بل رمزًا بارزًا للتهدئة المتبادلة بين خصوم يُنظر إليهم عادة كمنافسين. وترى مجلة «تايم» الأمريكية أن بكين جسدت رغبتها فى توجيه آسيا نحو التعاون الإقليمى وتحدى الهيمنة الأمريكية فى النظام العالمى الحالى. ◄ دعوة للشراكة بالنسبة لشي كان ارتباك مودي فرصة دبلوماسية. ففى كلمته الترحيبية أعاد إحياء استعارة مألوفة: «يجب أن يرقص التنين والفيل معًا، لا أن يتقاتلا». مثلت هذه القمة أول زيارة لمودى إلى الصين منذ سبع سنوات، ما يشير إلى احتمال تحسن العلاقات المتوترة بين الهندوالصين بسبب النزاعات الحدودية والتصريحات القومية. تركزت المحادثات بين الزعيمين على ثلاثة محاور: استقرار الحدود المتوترة بعد سنوات من الاشتباكات، تقليص العجز التجارى الهندى الضخم مع الصين، الذى بلغ نحو 99.2 مليار دولار فى 2024، وإحياء الروابط المتوقفة مثل الرحلات الجوية المباشرة التى علقت منذ جائحة كوفيد-19، بحسب ما ذكره موقع Economic Times. ومن جانبها، أبدت بكين استعدادها لرفع بعض القيود على صادرات الأدوية وتسهيل دخول شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية، كخطوات لامتصاص أثر الرسوم الأمريكية. استخدم الرئيس شى هذه الفرصة النادرة ليدعو إلى رؤية يرى فيها أكبر دولتين من حيث عدد السكان فى العالم، الصينوالهند، شركاء لا خصومًا. حث شى البلدين على تعميق الثقة المتبادلة ورفض التهديدات، منتقدًا ضمنًا السياسات الأمريكية التى تهدف إلى تقسيمهم. وقد لاقى هذا الخطاب صدى كبيرًا فى عالم يعانى اضطرابات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة، حيث تتصادم الترابطات العالمية مع الحمايات القومية. ووفقًا لوكالة «رويترز» وموقع «دويتشه فيله» الألمانى، يؤكد حضور مودى فى قمة منظمة شنغهاى عزم نيودلهى على اتباع سياسة استقلال استراتيجى، رافضة ضغوط واشنطن لفك الارتباط مع موسكو. ◄ اقرأ أيضًا | خلال عرض عسكري صيني.. شي وبوتين يتحدثان عن إمكانية العيش حتى 150 عامًا ◄ مخاطر جيوسياسية تُعد التعريفات التى فرضتها إدارة ترامب على الهند سلاحًا ذا حدين. فبينما تهدف إلى معاقبة نيودلهى على استمرارها فى شراء النفط الروسى، قد تضعف هذه الحواجز الاقتصادية الحلف الذى كانت واشنطن تحاول تقويته خصوصًا فى مواجهة صعود الصين الاقتصادى والعسكرى. يواجه المصدرون الهنود، خاصة فى مجالات النسيج والمجوهرات والمأكولات البحرية، صعوبات متزايدة فى السوق الأمريكية، مما يهدد الوظائف والنمو الاقتصادى فى وقت تسعى فيه حكومة مودى لتعزيز التصنيع عبر مبادرة «صنع فى الهند». في المقابل، تبدو روسيا، بدعم صينى وعلاقاتها مع الهند، صامدة رغم العقوبات الغربية، ما يعكس تغيرًا فى توازن القوى العالمى. تعكس هذه التعقيدات نمطًا جديدًا ناشئًا؛ يتلخص فى أن الحروب التجارية بقيادة واشنطن قد دفعت، عن غير قصد، الصينوالهندوروسيا نحو تقارب استراتيجى، مساهمة فى تهدئة التوترات. يمثل هذا التوازن الحساس الذى تحاول الهند تحقيقه انعكاسًا لإعادة ترتيب أوسع فى آسيا، حيث تخف حدة النزاعات التقليدية أمام المصالح الاقتصادية والجيوسياسية المشتركة التى تتخطى العداء القديم. ◄ دور بوتين زاد من درامية القمة وجود الرئيس بوتين؛ فقد عكس حضوره الديناميكيات الثلاثية القائمة. فبوتين المعزول عن الغرب اعتمد بشدة على كلٍ من الهندوالصين لدعم صادرات النفط وصناعات الدفاع الروسية. بالنسبة للهند، شكل النفط الروسى طوق نجاة ضد التضخم؛ أما بالنسبة للصين، فموسكو تظل ثقلاً جيوسياسيًا يوازن واشنطن. تستخدم موسكووبكين قمة منظمة شنغهاى لتعزيز الأمن الإقليمى وصد ما يرونه أطرًا عالمية يهيمن عليها الغرب. وتبرز شنغهاى على أنها رمز لطموحات الجنوب العالمى لعالم أكثر تعددية تتوزع فيه القوة بشكل أوسع. وفى جلسة ثلاثية، شدد القادة الثلاثة على «التعددية القطبية» كرؤية مشتركة. ما عكس رسالة واضحة: لا ينبغى لقوة واحدة، خاصة الولاياتالمتحدة، أن تملى ترتيبات التجارة أو الأمن العالمى. وصف بوتين منظمة شنغهاى بأنها «منصة للسيادة». أما مودى فتجنب الخطابات الواسعة، لكن مجرد وقوفه بجانب شى وبوتين أرسل إشارة لا يمكن لواشنطن تجاهلها. يختلف موقف بوتين عن الروايات الغربية حول العزلة، ويبرز دعمه المتواصل لدور شنغهاى المتنامى كنموذج بديل للتعاون، فى وقت تبتعد فيه الولاياتالمتحدة عن العمل متعدد الأطراف، ما يعزز نفوذ نموذج تقوده المنظمة فى المنطقة، وفقًا لشبكة "CNN" الأمريكية. ◄ دبلوماسية مودي جسدت قمة تيانجين سرعة تغير الاصطفافات. فقبل عام واحد فقط، كانت واشنطن تحتفى بالهند باعتبارها «ركيزة» استراتيجيتها فى المحيطين الهندى والهادئ. واليوم، تهدد الرسوم العقابية بدفع نيودلهى إلى أحضان بكين. هذا لا يعنى أن الهند تتخلى عن شراكتها مع الولاياتالمتحدة. فالتعاون الدفاعى، وتبادل المعلومات، والاستخدام المشترك للبحرية فى المحيطين، يظل ضروريًا لنيودلهى. لكن رسالة مودى من تيانجين كانت لا لبس فيها: الهند لن تُحشر فى زاوية تمس استقلالها. وكما قال: «الهند تؤمن بالصداقة مع الجميع، والعداء مع لا أحد»، وفقًا لوكالة «أسوشيتد برس». أتاحت القمة أيضًا فرصة لمودى لمناقشة مشاكل إقليمية أكبر، مثل الأمن الطاقى والصراع الروسى – الأوكرانى. يمثل موقف الهند المتوازن والعملى فى القمة تحديًا لتوقعات واشنطن، حيث تسعى نيودلهى للعب دور محورى فى تشكيل مستقبل آسيا كمصدر قوة متعددة الأقطاب، لا مجرد توازن ضد الصين. بالنسبة لشى، كانت استضافة مودى وبوتين معًا ضربة دبلوماسية موفقة؛ بكين كعاصمة للدبلوماسية بدلًا من المواجهة. أما بالنسبة لمودى، فقد كانت الزيارة تحذيرًا لواشنطن وتطمينًا للناخبين الهنود بأن زعيمهم قادر على رسم مسار مستقل. وبالنسبة لبوتين، فكانت سياسة بقاء، برهانًا على أنه ما زال لاعبًا لا غنى عنه فى معادلة آسيا. يعتمد بقاء هذا الوفاق إلى حد بعيد على واشنطن. فإذا صعّدت الولاياتالمتحدة رسومها، قد تعمق الهند ميلها نحو الصينوروسيا. وإذا سعت إلى تسوية، ربما تقنع مودى بإعادة التوازن. لكن قمة تيانجين تركت أثرها بالفعل؛ صورة شى ومودى وبوتين معًا ترسل إشارة قوية بأن حرب ترامب التجارية تعيد رسم التحالفات فى الزمن الحاضر.