د. نور الدين محقق تعرفتُ على روايات الكاتب المصرى الكبير صنع الله إبراهيم فى نهايات الثمانينيات وبدايات التسعينيات من القرن الماضى، وذلك حين التحقتُ طالبا بالدراسات العليا فى شعبة اللغة العربية وآدابها بجامعة محمد الخامس بمدينة الرباط وتحديدا فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بها ، متخصصا فى السرد العربى قديمه وحديثه، ومُنفتحا فى هذه الدراسات العليا على مناهج النقد العالمى الحديث وفى مقدمة هذه المناهج النقدية، كل من المنهج البنيوى والمنهج السيميائى، وكان فى مقدمة أساتذتنا فى هذا المجال الأدبى الذى اخترناه كل من الأستاذين الكبيرين محمد برادة وأحمد اليبورى بالإضافة إلى أساتذة كبار آخرين مثل محمد مفتاح وعبد الفتاح كيليطو. فى هذا الجو الطلابى الجامعى الغنى بالمعرفة بمختلف تمظهراتها الأكاديمية العميقة، قرأنا كل روايات هذا الكاتب المصرى الكبير صنع الله إبراهيم والتى كانت صادرة فى ذلك الوقت، جنبا إلى جنب مع كل من روايات الكاتبين المصريين الكبيرين الآخرين جمال الغيطانى وإدوارد الخراط. لقد شكل هذا الثلاثى الروائى المصرى فى تلك اللحظة الزمنية أفقنا الثقافى الحداثى ، بحيث قرأنا بعمق كل ما كان يصدر عنه فى ذلك الوقت من روايات قوية، وكنا نناقش هذه الروايات سواء على مستوى المضامين التى كانت تطرحها أو على مستوى الشكل الروائى الفنى الذى كان يتبناه كل روائى من هذا الثالوث على حدة ويدافع عنه بمختلف الأشكال الثقافية المتاحة له. كان الكاتب الروائى جمال الغيطانى معروفا بكتاباته الروائية التى تنهل من التراث العربى القديم لاسيما التاريخى والصوفى منه، وتعيد تشكيله وفق رؤية روائية حداثية بامتياز وقد شكلت روايته «الزينى بركات» لدى صدورها وبعده حدثا ثقافيا عربيا بامتياز ، وكان الكاتب الروائى إدوارد الخراط يوظف التراث بشكل روائى عصرى يدمج فيه سيرته الذاتية، وقد تميزت روايته الشهيرة «رامة والتنين» بأفقها السردى الفاتن والهائل فى نفس الوقت، وظلت حاضرة بقوة فى نقاشاتنا أو فى دراساتنا لها، فى حين كان صنع الله إبراهيم يدمج الوثائق التاريخية اليومية المنتقاة بدقة من الصحف والأخبار المتداولة والبحث الميدانى ويشيد من خلال الاعتماد عليها وعلى ما عاشه بالفعل فى بعض مراحل حياته ، فى بناء رواياته الواقعية التى كانت وظلت تمتاز بكتابتها التجريبية القوية. هكذا عشنا مع مختلف رواياته وتفاعلنا معها إيجابا وسلبا، وإن كان التفاعل الإيجابى هو المهيمن على علاقتنا بها، لأنها كانت ولا تزال روايات ذات أفق واقعى عميق ورؤية إنسانية كونية، تنتصر للمستقبل وتنتقد ما يمكن أن يقف فى سبيل التقدم الإنسانى من عقبات سواء كانت هذه العقبات فكرية أو سلوكية. من هنا كانت قراءاتنا لرواياته لا سيما لرائعته «نجمة أغسطس» التى صدرت فى طبعتها الأولى سنة 1973 قراءات عميقة بحيث قمنا بتفكيك بنياتها وبحثنا فيها عن كل ما يمت للواقع المصرى بصلة، كما توقفنا عند علاقتها بالروايات العالمية خصوصا على مستوى بنية كتابتها الروائية والتجريبية التى مثلتها بكل عمق ووفق منهج روائى محبوك بدقة متناهية. لقد شكلت هذه الرواية لحظة حاسمة فى تطور الرواية العربية الحداثية ونقلتها من لحظة الكتابة الخطية الأفقية إلى لحظة الكتابة التجريبية العمودية الواعية بذاتها، وهى عملية أساسية فى التفكير فى الرواية وفى عملية كتابتها وليس فقط فى الاكتفاء بالتفكير فى الموضوع الذى تتناوله هذه الرواية. إن الكاتب الروائى الكبير صنع الله إبراهيم وهو يكتب رواية «نجمة أغسطس» متخذا من الكتابة حول عملية بناء السد العالى فضاء لأحداثها وموضوعا لمجريات شخصياتها الروائية، قد كتبها بطريقة مختلفة جدا عما كان سائدا فى الكتابة الروائية العربية فى ذلك الوقت. لقد اعتمد على كل ما توفر لديه من كتابات صحفية حول عملية بناء السد العالى، وعلى عملية شخصنة بطل الرواية بحيث جعله قريبا منه ومعبرا عما كان يفكر فيه ويعتقده فى ذلك الوقت، لاسيما وأنه قد انتهج فيها أسلوب الكتابة بضمير المتكلم وهو ضمير سردى تساؤلى وحداثى بامتياز. أما فى روايته الأخرى التى حملت اسم «اللجنة»، والتى نشرت فى طبعتها الأولى سنة 1981، فقد تطرق فيها بشكل روائى عميق إلى الجو الكافكاوى الذى يمكن أن يتحكم فى العالم عن طريق لجنة غامضة، كما تطرق فيها إلى ما قد سبق وأن أشار إليه الروائى والصحافى البريطانى الشهير جورج أورويل فى رائعته الروائية الذائعة الصيت والتى حملت عنوانا رقميا مثيرا هو « 1984»، والمتمثل فى فعل الهيمنة الكلية والمراقبة الشمولية لمختلف نشاطات الإنسان فى ظل مجتمع تحكمى كوني. طبعا لقد كتب الروائى المصرى الكبير صنع الله إبراهيم روايات أخرى عديدة لاقت كلها إقبالا مميزا من لدن القراء على اختلاف مشاربهم الفكرية، كما أشاد النقد العربى بمعظم هذه الروايات وكتب عنها بما يليق بالمكانة الثقافية التى تميزت بها والتى قد استطاعت أن تحتلها فى مسار الرواية العربية فى كليتها، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي: «بيروت، بيروت» (1984)،«ذات» (1992)، «وردة «(2000)، «أمريكانلى» (2003)، وغيرها. وقد ترجمت مختلف رواياته إلى اللغات العالمية الكبرى وفى مقدمتها كل من اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الإسبانية واللغة الألمانية وسوى ذلك من باقى اللغات. هكذا سيبقى الكاتب المصرى الكبير صنع الله إبراهيم خالدا فى مسار الرواية العربية كأحد الصانعين الروائيين المهرة لمختلف تجلياتها الحداثية التجريبية بامتياز. وهو ما يدفعنا من جديد كقراء أولا وكنقاد وباحثين بعد ذلك لإعادة قراءة هذه الروايات العربية القوية وتحفيز الأجيال الجديدة من القراء والنقاد والباحثين على قراءتها وإعادة الاعتبار إليها من خلال هذه القراءات نفسها. ذلك أن ما يُحيى الكتب بشكل عام ويعيدها قوية إلى الساحة الثقافية من جديد هو فعل القراءة.