كان جَوَّابا رحَّالةً بين القُرى والمدن كى يحل المشكلات ويعود إلى «مندرته» التى غدتْ ساحة أحبائه ومريديه يعلمهم التسامح والعفو فهما طريق المحبة، والحب طريق الوصول. «الشيخ تقادم اسماعيل النقشبندى» رجلٌ صوفيٌ زاهدٌ فيما يملك، يعيش فى قرية العوينية بإدفو بمحافظة أسوان، تراه جالسا على دِكَّة خشبية وسط محبيه ومُريديه وزائريه، يجلس مُتكئا على عصاه التى قطعها فرعًا من أشجار السّلَم «مَنْ حمَلَ السّلَمَ سَلِمَ» تتفرع عصاه فى أعلاها إلى فرعيْن، تبدو وكأنها ما تزال تحملُ أغصانها فى شجرة طيبة لأنه كان لا يقول إلا كلمة طيبة؛ يستند عليها فى وقار الشيخوخة ومهابة الشيوخ وجمال الروح ونظرة صَقْر عرَكَته التجاربُ وتوارث الخبرات عن أجداده الصالحين؛ قبل أسبوع تُوفى فحَمل نعشه ألوفُ الرجال لتوديعه إلى مثواه الأخير، ولمَّا لم يجد المشيعون مكانا يسعهم للصلاة على جثمانه يمَّمُوا نحو ساحة الملعب الكبير، واصطفوا صفوفا لا تُعَد؛ الجميع فى صعيد مصر يتناقلون سيرته؛ كيف لهذا الرجل الحكيم القدرة على حَقْن دماء الأفراد والقبائل المتناحرة؟ كيف بملامحه الصعيدية ووجْهه المُهاب وكلماته القليلة التى توقف بحور دم الثأر وتطفئ دماء القلوب المشتعلة، كيف تبوَّأ هذه المكانة السامية؟ كان لا يتحدث كثيرا ولكنه إذا نطقَ صَدَق وإذا حكَم عَدَل، يعرف مداخلَ النفس ورياض الروح وشفاء الغليل وبُغْية المشتاق للعدل؟ فإذا حكَم رضيَ الطرفان بحُكمه، كم من الثارات أطفأها بكلمة منه، أعان الدولة فى استتباب الأمن فى صعيد مصر ولاسيما فى محافظة أسوان، كان يقطن قرية لكنه كان جَوَّابا رحَّالةً بين القُرى والمدن كى يحل المشكلات ويعود إلى «مندرته» التى غدتْ ساحة أحبائه ومريديه يعلمهم التسامح والعفو فهما طريق المحبة، والحب طريق الوصول. له مهابة محبوبة، وطلَبُه عند الناس مُجاب، حينما تأملتُ جنازته أدركت أنه «لا يذهب العُرفُ عند الله والناس» وأنه كما قال الشاعر: تحيا بهم كلُّ أرضٍ ينزلون بها. كأنهم لبقاعِ الأرضِ أمطارُ دور الساحات اجتماعيا لماذا لا نرى فى التصوف سوى أدعيائه الذين لا يعرفون أدبه وسلوكه بل يجيدون التزيف والشعوذة ، حبذا لو رأينا التصوف الحقيقى ودوره الاجتماعى والنفسى والثقافي؟ لماذا لا نرى نَهْجَه التسامحى فى نشر المحبة بين أطياف المجتمع؟ لماذا نغفل دوره التربوى فى تربية الشباب وتقويم سلوكهم وإشباع روحانيتهم وسلامهم الداخلى وزرْع الانتماء وحب الوطن؛ ثم لماذا لا نُدرِّس فى مناهجنا سِيَرَ الشيخ تقادم والحاج غلاب والشيخ الطيب والشيخ كمال حجزى والأمير الفضل والشيخ عبدالمعطى أبو زيد والشيخ مفتاح الهوارى والنواب المخلصين ودور الساحات الحسَانية والرضوانية والجيلانية وساحة الشيخ جاد أبوغاى وساحة العصبة الهاشمية وغيرها من الساحات فى استتباب الأمن وراحة الأرواح ولَمّ الشمل والحفاظ على لُحمة المجتمع وقوّة الدولة وصلابتها؛ إنهم يعملون دون مقابل ويصرفون من مالهم الخاص ولا ينتظرون شكرا، فهم رجالٌ فى زمن ندر فيه أمثالهم، وكم كان الإمام أحمد بن حنبل مُحِقا حينما قال لخصومه: «بيننا وبينكم الجنائز»! القانون والعُرف وقد يقول قائل: «ولماذا لا نطبق القانون ولا نحتاج لأمثال هؤلاء؟» وهذا الكلام مهم فى جزئه الأول وغير مفيد فى الباقي.. لماذا؟ لأنه لو أن قائلا قتل واحدا من قبيلة أخرى ثم أُودع السجن فإن قبيلة المقتول قد لا تنتظر إعدام القاتل أو الحكم بسجنه أو براءته بل تبادر باختيار أفضل شخصيات قبيلة القاتل وتقتله، وهذا جُرمٌ كبير لكنه يحدث فى الصعيد؛ هنا يأتى دور الشيخ تقادم وأمثاله فى إطفاء نار الغضب بالصلح عفوا أو «بالقودة» سماحا أيضا؛ والقودة هى تقديم القاتل أو واحد من أهله كَفَنَه لأهل المقتول على مشهد من الناس وبعد استلام الكفن منه تقرر قبيلة المقتول العفو عنه اكتفاء بدلالة الكفن ورمزيته الأليمة وإكراما للجنة الصلح والناس الحضور بدلا من تكرار مسلسل الثأر بين القبائل وهو إرث بغيض ولكنه للأسف ما يزال موجودا، هؤلاء المصلحون لا يتقاضون أجرا من الدولة ولا من الناس بل يبذلون من أموالهم بغية الإصلاح والصلح، وعلى الدولة أن تعتنى بهم ماديا وأدبيا فهم يثبّتون أركانها وينشرون السلام بين قراها ونجوعها وأما المجتمع فقد وهبهم حقهم من الاحترام والمحبة والتوقير وسماع نُصحهم وقراراتهم العادلة أيضا. إننى مع هؤلاء ومع هذه اللجان المُصلحة شريطة ألا يُبَرَّأ القاتل وأن ينفذ القانون بحقه حتى لا يفلت من العقوبة كى يكون عبرةً لغيره وأن نزرع فى المجتمع حُرمة قتل النفس كما أمرت بذلك كل الأديان السماوية وأن نعمل على إنفاذ القانون دون تمييز، فالعدل أساس بناء الدول. ظاهرة البلطجى صدام الأسبوع الماضى فى سوقٍ شعبى فى إحدى قرى صعيد مصر، كلٌّ يبيع ويشتري، وفجأة يهبط بلطجى من الجبل ويقف فى مُنتصف السوق مدجَّجا بسلاحه الآلى وحاملا «جَبَخانة الرصاص» على كتفه ويصرخ وهو مُشهر سلاحه «عليَّ الطلاقْ، انَّهاردهْ ما فيشْ سُوقْ» ويردف هذه الجملة بشدّ أجزاء السلاح وإطلاق زخة رصاص فى الهواء ويأمر الباعة والمشترين بالانصراف لأنه قرر عدم إقامة السوق اليوم لأن الباعة لا يدفعون له إتاوة! إنه «صدام» من مطاريد الجبل، كيف وصل إلى السوق بسلاحه الآلى حاملا حقيبة الذخيرة، وكيف تركوه يتمشى فى السوق جيئةً وذهابا دون رادع إلا من شابين وقفا ضده فى شجاعة؟ مطاريد الجبل بؤرةُ خطر فى الدولة، فمعظمهم من الخُلعاء الذين خلَعَتهم قبائلُهم أى تَبرّأتْ منهم لكثرة جرائمهم.. إنهم يسكنون الكهوف الجبلية مُحتمين بهذه الطبيعة الصخرية القاسية التى لا تسير فيها سيارات الشرطة ولا غيرها ويتخذون الكهوف بيوتا، ينزلون إلى الحَضَر للسرقة والبلطجة وفرض الإتاوات؛ وكلَِى يقين أن الشرطة ستصل إلى «صدام» وأمثاله حتى لا يتكرر نموذج «خُط الصعيد» وفيلم الجزيرة وأحمد السقا «عزت حنفي» وهو يهدد «مِن النَّهاردهْ ما فيشْ حكومهْ، أنا الحكومهْ». مطاريد الجبل الأدهى من ذلك أن «الدَّهَّابة» الذين يبحثون عن الذهب فى الصحراء قد انضم إليهم مطاريد الجبل وبعض مواطنى دول مجاورة، ولذلك نسمع عن جثت ملقاة فى الصحراء نتيجة صراع عصابات بحثا عن عُروق الذهب؛ آمل أن تنتهى الدولة قريبا من إقامة المثلث الذهبى وتفتح باب إنشاء شركات حكومية تابعة للدولة وتديرها، تبحث عن الذهب بصورة قانونية وتقسم المنطقة إلى محاجر توظف شبابنا للبحث بصورة مشروعة عن الذهب والمعادن النفيسة وبذلك نقضى على البطالة ونحافظ على ثرواتنا المعدنية ونطهّر الجبل من المطاريد، وننفذ الأحكام القانونية الصادرة فى حقّ بعض هؤلاء حتى يستتب الأمن ولا نرى ظاهرة خُط الصعيد ولا نرى «صدام» مُهددا البشر فى منتصف السوق فى «عزّ النهار»! تأمُّلٌ فى الظاهرتين رحتُ أفكر فى ظاهرتيْ الشيخ تقادم والبلطجى صدام، وكلتاهما حدثتا فى الأسبوع الماضى وفى صعيد مصر، اختيارُ الطريق أصعب من إيجادها «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» كيف تعمى البصائر وتقود الإنسانَ خُطاه إلى الخير وآخر تقوده إلى الشر؟ بين البصر والبصيرة تتجاذبُ الطرق وتضلّ الخُطى وتتشابه الدروب؛ لقد أنجب الصعيد الرجليْن؛ كيف مضى كلٌَ فى طريق عكس طريق الآخر وكيف كانت النهايات؟ فى النهايات تتجلى البدايات أنا يا صَاحِ مُتّهَمٌ بهذا الحبِّ، حَسْبى أننى أهوى أنا المَعْدودُ فى العُشّاقِ من صِفْرٍ، ولا أقوى أنا يا صَاحِ مُتّهَمٌ بأنِّى صِرتُ بينَ الناسِ لا أرْوَى وأنى صِحْتُ فى الأسواقِ بينَ الخَلْقِ بالبُشرى: أحِبُّوا بعضَكمْ بعضا ذَرُوا ما أنتمُ فيهِ وغوصوا فى بحار الحبّ وانتبهوا بأن بحارَه مَلْأى وأن ضفافَهُ وَهْمٌ وأن الوارِدِينَ لشرْبه غَرقَى مَشَوْا بالماءِ ما ابتلُّوا وباحُوا بالذى كَتَمُوُا لأنَّ السِرَّ وسطَ قلوبِهمْ جَمْرٌ يحَوِّل بَحْرَهمْ سُحُبا أنا يا صاحِ مُتّهَمٌ بأنَّ الناسَ يتّبعون ما أرضَى وما أرضاهُ لا يأتي، وما يأتى قليلٌ يا... شرابُكَ أيها الساقى غدَتْ روحى به ظَمْأى فَدَعْنى وانْعَ لى رُوحى فأنتَ الآنَ ما أرْجُو وما أهْوى وصاحَ المُنْشِدُ البَكّاءُ: «فُؤَادى بالأحبّةِ ما تَهَنَّى وَدَمْعى حين زادَ الوَجدُ أَنَّ»