رياضة النواب تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 ناديا شعبيا بالإسكندرية    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    التربية النوعية بطنطا تنظم ملتقى التوظيف الثالث للطلاب والخريجين    رايان رينولدز يتصدر إيرادات السينما العالمية بفيلم الأصدقاء الخياليين - IF ويحقق 59 مليون دولار    أخبار الأهلي : أحمد الطيب عن لاعب الأهلي : هاتوه لو مش عاوزينه وهتتفرجوا عليه بنسخة زملكاوية    السر يملكه القائد.. اللواء هشام حلبي يكشف أسباب تحطم طائرة رئيسي (فيديو)    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد بعد هجوم ميلي على حكومة سانشيز    أسعار الفراخ اليوم 20 مايو 2024 للمستهلك بجميع الأسواق    صلاح مودعاً كلوب: آمل أن نلتقي مرة أخرى    الرياضية: جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    قوات وحدة الإنقاذ النهري ب الغربية تستخرج جثمان غريق من بحر كفر الزيات    صندوق النقد الدولي: البنوك القطرية تتمتع برأس مال جيد وسيولة وربحية    النجمة ديمي مور تخطف الأنظار في فعاليات اليوم السادس لمهرجان كان السينمائي    جنوب أفريقيا ترحب بإعلان "الجنائية" طلب إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    الأرصاد تحذر من الطقس غداً.. تعرف علي أعراض ضربة الشمس وطرق الوقاية منها    لحرق الدهون- 6 مشروبات تناولها في الصيف    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    أحمد الطاهري: مصرع الرئيس الإيراني هو الخبر الرئيسي خلال الساعات الماضية    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    وزير السياحة يتفقد متحف شرم الشيخ.. ويوجه بتضمينه في برامج الزيارات    وكيل صحة الشرقية يتفقد أعمال التطوير بمستشفى سنهوت التخصصي    رئيس الوزراء يشهد افتتاح جامعة السويدى للتكنولوجيا "بوليتكنك مصر" بالعاشر من رمضان.. ويؤكد: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    «سوميتومو» تستهدف صادرات سنوية بقيمة 500 مليون يورو من مصر    أول تعليق من التنظيم والإدارة بشأن عدم توفير الدرجات الوظيفية والاعتماد ل3 آلاف إمام    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    قائمة الأرجنتين المبدئية - عائد و5 وجوه جديدة في كوبا أمريكا    محافظ دمياط تستقبل نائب مدير برنامج الأغذية العالمى بمصر لبحث التعاون    إصابة 8 أشخاص بحادث تصادم ميكروباص وربع نقل بالطريق الزراعى فى أسوان    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    بدأ العد التنازلي.. موعد غرة شهر ذي الحجة وعيد الأضحى 2024    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    الصحة تضع ضوابط جديدة لصرف المستحقات المالية للأطباء    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    وزيرة الهجرة: الحضارة المصرية علمت العالم كل ما هو إنساني ومتحضر    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    ليفربول ومانشستر يونايتد أبرزهم.. صراع إنجليزي للتعاقد مع مرموش    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    الإعدام شنقًا لشاب أنهى حياة زوجته وشقيقها وابن عمها بأسيوط    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    10 ملايين في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمار علي حسن يكتب: قاموس الروح
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 16 - 07 - 2022

الوقت ريح هوجاء، برق يسطع، فيخطف الأبصار، وقبل أن تُدركه يغيب، وحين تظن أنه فى يدك يتسرب من بين أصابعك، دون أن تراه عيناك، ولا تعرف المكان الذى ذهب إليه. كل الأمكنة مطية للوقت.
وإن تباعد بينها الرحيل، وعز السفر. كل قدم حلت على أرض، ترابا كان أو رملا أو حجرا صوانا أو من أسفلت كفحمة الليل، بوسعها أن تقول أين حلت، لكنها تختلف فى الإجابة عن سؤال: متى حلت؟ فالوقت ليس متفقا عليه بين الناس.
وإن ضبطته آلات لا حصر لها: ساعات يد وحائط، وشاشات هواتف وتلفزيونات، هى فى كل مكان تطارد الناس، لكن قلة القلة منهم من تعرف الوقت، وتدرك أن سؤال: متى؟ أهم كثيرا من سؤال: أين؟ فكل أين يمكن أن نعود إليه، لكن أى متى؟ لا يمكن الرجوع إليه، فهو ما إن يبدأ حتى ينقضي، يذهب بلا رجعة، فلا ثبات ولا فرصة، سائل هو ينسكب على رمل ساف فلا يمكن جمعه. هواء يكون، يضرب خصلات رأس فتهفهف قليلا، فرحة بطيرانها العابر، لكن لا يمكنها أن تعيد النسمة السارية التى ضربتها وراحت.
الوقت ليس سيفا، كما قال الأولون إن لم تقطعه قطعك، فنحن لسنا فى حرب ضروس معه، إنما فى لعبة مسالمة، نحايل ونداور ونطمع ونطمح، ونروح ونغدو، ونتوه ونفيق، ونقف ونمشي، ونموت ونحيا، ونهدهده حتى يكون بنا ليِّنًا رفيقا رقيقا، ونهمس له حتى يتلطف علينا فيكون بنا هينا، وينزل من عليائه ليكلمنا، ويفهمنا ما نحن فيه من سيره الطويل، البادئ فى زمن لا قرار له، والمنتهى عند حد لا أحد يبلغه، حتى لو خال أو ركبه وهم.
الوقت خمر يملأ الشرايين والأوردة وشعيرات الدم الدقيقة النابضة بالحياة. خمر التخلى والتحلى والتجلي، الذى معه، ينقطع الأمس عند الغد، ويغيب الحاضر عما ندركه الآن. فلا شى ء ذهب، ولا أحد يحط قدميه ويتركها.
ولا آخر يهم بالرحيل. عندها فقط يمكننا أن نصطاد الوقت واهمين، نأخذ الدقائق والثواني، ونقبض عليها، ونضعها عند حد التجمد، فى آلاف الآلاف تحت الصفر، ونقول عندها: توقف العالم كما نريد. فليبق كل شيء عند حاله، الشوق طوق، والفراق نوى، والأسى انفطار، واللقاء بهجة، والموت يسكن فقط فى حكايات الغابرين. وقتها لا يضم الشغف جناحيه، ولا تأكل الدهشة زادها، ولا يريد أحد أن يرمى ناظريه بعيدا عن اللوعة والحرقة التى يكابد منها العاشقون، دون أن يريدوا لها رحيلا.
الوقت حد بين إدراك لحظة ميلاد ذهبت دون تذكرها، وموت يأتى ولا يمكن تذكره. إنه مسافة بين غفلتين، واحدة أتت دون أن نكون لها فى يقظة، والثانية نخاف منها، لكننا نعرف أن إتيانها لا مفر منه.
بين ما أتى دون أن يكون لنا فيه صنعة، وما سيأتى دون أن يكون لنا فيه يد، يرتخى الوقت، مادا لنا لسانه، ساخرا منا، ونحن لا نملك له صدا ولا ردا، وليس فى أيدينا أى سيف لنقطع لسانه المزعوم.
الوقت سَقْطُ، هوة بين هامتين تصعدان من جذع الأرض اليابسة إلى عنان السماء، لكنها ترتفع ولا تنزل، وتنزل ولا تعلو، فما إن نلمح نزولها حتى تموت، وما إن نلمح صعودها حتى تموت، وبين موت وموت يكون الوقت، هو أكثر ما يقتل فى هذه الدنيا، بل فى هذا الكون، دون أن يصرخ أو يستيغيث، لأنه مخلوق للتحمل والنسيان، يعرف قدره، لكن المجبورين عليه، السابحين فيه، لا يعرفون له قدرا، فإما أن تغرهم الأمانى فيظنون طول المقام، أو تطاردهم المخاوف فتجعلهم يقرون مجبرين بأن النهاية قادمة لا ريب فيها.الوقت فوت، فما إن تفكر فيما فات، حتى تفقد ما هو بين يديك. ولا ينبو فى هذا ذلك الذى يسأل شيخه:
أين الحاضر؟
فيجيبه مطمئنا:
إنه قد مضى.
فإن سأله:
كيف؟
لا يجد من يتلقى عن السؤال إجابة، فكل ما فى رأسه يعجز عن أن يكافئ ما سمعه من استفهام، لكنه قد يسقط فى مجرى الإدعاء، فيقول:
لم نقبض عليه فوجدناه يمر.
والمجيب والسائل يدركان معا أن ما يتحدثان عنه، لا يمكن وصفه، وما لا يمكن وصفه هو فوق طاقة البشر، ولهذا لا يكذب من يرون أن الزمن هو الله، فهو سبحانه، ليس كمثله شيء، ولأنه كذلك، فالوقت شيء من قبسه، وهو فى هذه الحال أيضا أكبر من أن يقدر الناس على إدراكه على وجه اليقين.
الوقت فوق الذى يمكن وصفه وإدراكه حتى عند الذين يحصونه فى وعى وانتباه، فهم ما إن يهموا أن يعينوه أو يحددوا له تعريفا وتوصيفا حتى يكون قد راح، وأى تعيين له يكون من الماضي، دون أدنى شك. فكل حرف ينطق به العارف والمعرف والمتعارف، لا ينطق به اللسان، حتى يكون قد ذاب فى الهواء.
هذا لكلمة «الوقت» نفسها، بحروفها، واحد تلو الآخر، فما بالنا بمدلولها الذى يسيح فى الأفق، بادئا بما لا بداية له، ومنتهيا عند ما لا نهاية له.
الحال
هبة الله إليه أن يتقلب بلا هوادة. بقلة ترقص فوق نار صافية. يستعر فى جوفها شوق، يخطفها من بين قطع الجمر إلى عمق الفضاء. تتأرجح على كف الريح، وسط النور الغامر، لكن حين يسرى الليل فى أوصال تلك الطيات التى لا نراها بين الأرض والسماء، تسقط البقلة فوق النار، وتبدأ رحلتها من جديد.
حاله مآله، لا يعرف مقرا ولا مستقرا، بين الذهاب والإياب، والإياب والذهاب، تولد وتموت نهارات وليال، وهو على مواعيد مع وجعه المقيم.
يسمعه الناس يصرخ قبيل السحر:
يا ليتنى بقيت فى المقام.
ثم يتلفت حوله ويقول بملء فمه:
الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب.
حين يردد هذا وقت الأصيل، ينظر إليه الجيران من النوافذ مشفقين، لكنهم كانوا قد اعتادوا غيابه فى الحضور، جسد يرونه، لكن دمه شارد فى أجساد لا يرونها، بل تعبرها إلى أطياف يتخيلونها، ثم إلى خلاء لا يمكن لهم الوقوف عند حدوده المترامية بلا حد.
الحال هو الحال، حزنا كان أو فرحا، بسطا أو قبضا، طربا أو نواحا، تلهفا أو صدا، لكن لا صد عن الطريق، الذى يسير فيه مريد، يجاهد نفسه كى يرتقى فى مدارج السالكين.
والسؤال: من ذا الذى يتدرج دوما إلى العلا؟ فبعد كل صعود هبوط، وما تقبض عليه اليد اليوم، قد يتسرب من بين الأصابع غدا، وهكذا البشر، فى تغير وحيرة، وفى رواح وغدو، بين خطيئة وتوبة، ونقص ومحاولة اكتمال، غير معصومين ولا مستعلين، ومن يستعل ينس، ومن ينس يضِعْ.
والناسى ذكَّره مقربون منه، حين سألوه:
متى تركن إلى ما تريد؟
فاهتزت يومها روحه، وكان جسده فى ثبات كجدار سميك، وقال لهم:
حين أعرف ما أريد.
الرجاء
على أبوابه يقف الخلق جميعا. يعرف بعضهم أو يجهلون، فمن ذا الذى لم ينتظر يوما راجيا، وأمله أن يُستجاب له. ومن ذا الذى لم يسمع يوما همس نفسه، تسأله:
أين الطريق؟
ومن ذا الذى لم ترد إليه الإجابة:
ارجوه بلا انقطاع ولا يأس، تقف قدماك على أول الدرب.
أدركنا منذ الزمان الأول، ثم استيقنا بعد أن رمح بنا العمر، أن عبيد الدنيا يرجون أسيادا من دم ولحم، والأحرار لا يرجون إلا من الروح المطلقة. يقفون أمام خالق كل شيء، خاشعين خاضعين له وحده، وليس لغيره، ولا لشيء، شامخين بقدر ما امتلأت نفوسهم بالاستغناء عما هو عند الناس ولديهم ومعهم، وفى تواضع وطلب وإلحاح لما فى يده سبحانه وهو كل أحد، وكل شيء، موقنين أنه يعطى بلا حد، ودون تيه أو مًنٍ أو افتخار أو انتظار رد. وكيف ينتظر أو يتيه من امتلك كل أحد، وأى شيء.
الرجاء هو ذلك التى تلمحه على أكف المتضرعين فى خلاء، أو على باب الأولياء، لا يطلبون منهم شيئا، ولا يتخذونهم واسطة أو وسيلة كما يظن الجهلاء، إنما يرونهم أهل الطريق. هم المُثل العليا من البشر، التى عليهم الاقتداء بها.
الرجاء باب يلم شتات الغرباء والمشردين والمطرودين. إنه مأوى لا يزعم أحد من البشر أنه قد أقامه. ليس هو بحاجة إلى جدران ولا خيام على الأرض، إنما كل أوتاده مزروعة فى السماء، بينما سنونها المدببة مغروسة فى أرض بعيدة، لكنها لا تلحق بالناس الأذى، ورؤوسها المستعرضة تتطامن حين تلمسها النجوم، وتجلب معها كل خير.
وما دمت ترجو بعد توبتك، فأنت مغفور لك، ولو ملأت خطاياك الأرض، شرط أن ترد إلى الناس مظالمهم. وإن لم يقبل الناس عودتك، فلا تبالي، طالما بنيت وبين الخطيئة ألف ميل من جدران ترتخى فوق أكتاف من حجر، وفى جوفها صوان وحديد.
وكيف لا يكون كل هذا الغفران، وقلب من يرجو معلق بمحبوب سيأتي، وفى الرجاء عيش القلوب وكبريائها، وامتلاكها ما لا يمكن لمن يفقتد إلى معنى العزة أن يدركه. فالرجاء من الله شموخ، ومن غيره رضوخ. والذين يقفون على باب الرجاء تراهم فى حضرة الطلب من الله ذائبين هاجعين راكعين كأنهم مجرد غيمة تأكلها الشمس، وينبذها الريح.
ما إن يخلو العبد إلى الناس حتى يهزأوا جهرا بكل شىء وأى أحد يسلبهم إرادتهم وحريتهم. قد يهزأون فى سرهم، دون أن يجرحوا أى شخص، يهزأون ليس من أشخاص، يلتمسون لهم ألف عذر، إنما من ظروف قادت هؤلاء إلى محاولة التغرير بأهل الرجاء.
ومن يرجو لا يكتفى بالتمني، فالثانى يورث الكسل، حين ينتظر صاحبه ما يأتى، سادرا فى شرود أبله، لا يؤتى منه ثمر، ولا تنتظر عاقبة إلا الندامة. ومن يرجو يثق فى جودة الواجد، ويرى التحقق بعين المُحقِق، ويلاطف الرب بجيشان القلب، ولا يجيش قلب سليم إلا بالمحبة.
الراجى إن عرف خاف، وإن رجا اطمأن، فيغلب رجاؤه خوفه، لأنه يثق فى كريم ودود، يزيد جوده عن شحه، ويفيض يسره عن عسره، حتى لا يكون شحا ولا عسرا.
والراجى يفهم أن المسكوت عنه أكبر كثيرا مما نطق به، والصمت أعلى من أى تعبير، وبسطاء الناس لا يشغلهم شيء من الحذلقة والتيه والتردد والمساءلة والشك والريبة، لأنهم ذهبوا إلى الله من أقرب طريق، ألا وهو: حين تعجز بعد كل تفكير وتدبير فهو فى انتظارك.
وكيف لا يكون له هذا، وهو المالك لأى أحد، وكل شىء.
الراجى حتى لو لو يؤمن بأن لهذا الكون الفسيح خالقا، فإنه لا ينقطع رجاؤه، فمن ذا الذى لا يمكنه أن يرجو من بين البشر، وإلا صار غده يومه، وصار يومه أمسه، وصار أمسه عدما. والراجى يدرك أن أى وباء أو اعتداء فى هذا العالم له ترياقه. الترياق الأول والأخير هو الحقيقة.
ومن يرجو يرى الجمال بعين الجلال، ويجد كل البهجة فى اللقاء، ويلفى كل مشقة فى سبيل المحبوب ليس لها وجود. ويفهم أن كل سعة فى يد الرحمن لا يمكن أن تضيق، وأن كل ما يرفع الناس أكفهم ضراعة طالبين له، لا يتأتى، لقصور فى قدرة من طلبوه، ولا من لبوه، إنما لأن ما بينهم وبينه حجاب لا يدركونه.
صار على من يرجو الله فى أيام القحط، ألا يبعد عمن يريد امتلاء بطنه وأهله بأى شىء، وأن يسلك أى نذر يسير، وأن يقطع فى سبيل هذا أى درب. ففى أيام المجاعات، لا تعلو لافتة فوق هامات الناس أكبر من تلك التى تقول: «كاد الفقر أن يكون كفرا»، فهى وحدها التى ترسم معالم الطريق، وتفهمنا أن الزهد والاستغناء لا يتحقق إلا بالقدرة على الامتلاك، ثم الترك.
وليس على هذا أن ينكر من رأى فى دنيا الناس، أو تخيل هذا، أو استبشر به، أو حتى أطلق كذبة بيضاء، أن أفق الرجاء لا سبيل إلى ضمه أو قضمه أو تحديده أو تعيينه ثم المتاجرة به.
وإزاء كل هذا، لم تبعد رؤية شيخى الطيب عما اعتقدت فيه، فقد رأيته يمتطى طيرا عظيما، لا يعرف البشر له إسما، يمد ساقا على جناح، مكتوب فوقه «الأمل» والجناح الآخر عليه كلمة «الخوف».
الخاطر
لا يخلو إنسان من خواطر، ترد إليه دون إرادة منه، فإن جاءت من الله كانت إلهاما، وأن جادت بها النفس فهى الهواجس، أما إن بثتها الشياطين فهى الوساوس. من يُلهم يربح، ومن يُوسوس له يخسر، ومن تتصارع داخله الهواجس يسكنه القلق. والإلهام لا يخلو من قلق إن كان فى المعرفة، فالذى يعرف يقلق، والمهجوس يقاوم من أجل أن ينعم بالسكينة، فإن جاءته كان له نصيب من الإلهام.
وكم من خواطر سوداء دمرت، وخواطر بيضاء عمَّرت. ومن بيض الخواطر يولد الإشراق، وهو دفقة تجتاح عقول علماء وأدباء فيبدعوا، وعقول أولياء فتكشف لهم الحُجب. وإذا قال المريد لشيخه: رأيت فيما يرى اليقظان، سيقول له الشيخ: حدثنى عن الخواطر. ولأن المريد لا يرد لشيخه طلبا، فإنه سيفيض فى شرح خواطره. لكن ليس كل مريد بقادر على فعل هذا. فهناك من يعجز لسانه عن التعبير.
ويؤمن أن الصمت أبلغ من الكلام. هناك من تلجمه الهيبة. هناك من يتلعثم، وكأن حروفه قد شدت إلى صخور ضخمة. هناك من ينسى. هناك من يغرق فى الخواطر، فيمهله شيخه.
لا يختلف فى هذا إن كان الأمر إلهاما أم هواجس ووساوس. ففى الخواطر يتساوى العجز عن التعبير، عند الذين يكونون مع الله، أو هؤلاء الذين يقفون، على النقيض، مع الشيطان.
المحبة
ليس أعمق من أن يقال إن الله هو المحبة. أمر أبعد من أن يصل إلى كل الناس. فالحب هو النور الأبدى الأزلى الغامر. ليس بوسع أى أحد أن ينتصر على الظلام الذى يعشش فى نفسه. النور الذى يخرج من صميم القلب يصل إلى السماء، وحده الذى يجلى لنا الغيب.
وحده الذى لا يستطيع أى من يدب على الأرض أن يجليه تماما، لهذا نظل جميعا معلقين به. ستنتهى الحياة لو عرفنا كل ما يخفى عنا. إن لم تنته ستصبح أكثر كآبة. مقبضة إلى درجة لا يمكن معها لأى منا أن يعيش.
المحبة العالية لا تأتى كلها لمخلوق، وإلا توحد مع خالقه. نحن فى حاجة إلى إشراقة واحدة من نورها الذى لا ينطفئ، إلى قطرة من محيطها العذب. ما أشرق، وما تقاطر يؤتاه الأولياء، مفرد لا جمع له. من هم دونهم، ينجذبون إلى النور من بعيد، كفراشات عليها ألا تقترب حتى من مصباح واحد وإلا احترقت، فما بالنا بملايين الشموس التى تسطع فيها المعارف والمقامات والأحوال؟ أما من دون دونهم يبحثون عن المحبة فيما يعرفون، ويا لها من محبة عظيمة!
هذا الذى يجلس عند كل مساء يناجيها هو واحد منهم. هو أنا. تجدنى أكتب: أعطاها الله قبسا من محبته التى فاقت الحدود، فصرت لها مريدا. فكيف لى أن أنسى ألقها وروعتها وجمالها الأخاذ، وكيف لا يراد الجمال امتثالا وخضوعا؟ وكيف لى أن أنسى كل شيء وهو سبحانه قد رسم معالمه؟ الطريق الذى سرت فيه حائرا اتطلع إليها فى حرمان. وذلك الذى كانت فيه أتوه بما فى يديها، وهى تظن أن ما بين قلبى وقلبها لا شىء، وما بين عقلى وعقلها اتساع يربط السماء والأرض، وزمن لقائنا هو لحظة افتراقنا.
البهاء هى، وأنا الموزع بين طلتين منها، متباعدتين فى الزمن، لكنهما متوحدتان فى تاريخ فؤادي، تلك إشراقتها، وهذه لا يمكن أن يكون لها مغيب، فهى فى الروح لا ينقضى وجودها أبدا. روح كانت عطية من الله.
وحرستنى أيام الجفاء. حزنت كفاقد كل أحد، وكل شيء. تناسيت، وغلبنى التذكر، دون إدراك منى أن الشوق هو الراية الوحيدة المرفوعة بيننا، مهما تقدم العمر، فالألق الذى برق فى عينى ، حيث لمحتها للمرة الأولى، أقوى من أن يمر تحت ظلال جناحيه فتى مثلي، هام بأجمل النساء يوما.
شقى أنا، لأنى ارتبطت بامرأة من عليين، هى فى نظرى قد صنعتها أساطير، وجدت على الأرض، وتناقلها الناس أياما فقط، ثم اختفت، وكلما قدحوا أذهانهم كى يستعيدوها، لا تأتى أبدا جسدا كاملا، إنما تجىء إليهم صورة حبيبتى، وهى واقفة تبتسم، وربما لا يكون سوى طيفها.
العمر ليس إلا مجرد حساب فى حال الرجاء، والرجاء عبير بين اتصال وانفصال، وانفصال واتصال، وكيف لا، وكل سهم منها يرتد فى قلبى سنبلة ووردة وزهرة تفوح، يتعطر لها زمانها الذى لا يذهب.
لم يدخل سيفى فى غمدى، والجسد لم يرفع بعد راية بيضاء، فأشرعه ليقتلنى بحد المحبة المصقول. يقتل جسدى المتوثب، لتحيا روحى من جديد بمحبة أخرى، تولد لحظة اندماغ قلبينا، كشرر يطير من انقداح صخرتين صلدتين، فتصر النار نورا، يصعد إلى السماء السابعة.
القبض
قلبى مقبوض، خامد فى صدرى. أحس أنه يضغط على دمى بقسوة، لكنه لا يدعه ينفلت. سجن صار هو، بل زنزانة لا فتحة فيها لشمس أو هواء، وجدرانها صلدة وزلقة. يهتز جسدى، ليفك حصاري، لكن لا شىء يزول من خوفى.
أقول له: أخافك.
لكن هذا وجل على عجل. فالمريد التائه، الذى هو أنا، لا يلبث أن تسكنه رغبة فى عبث، وشيء من رجاء، ينفرج له الانقباض. تفتح أبواب السجن. تنزاح الزنزانة الضيقة. تنجلى الظلمة الحالكة. ينهمر النور الآتى من بعيد.
القبض قبضان. شعور بالتفريط، وآخر بالأسى. أسى على ما فرطت فيه، وهو كثير غزير، يُخنق لكنه لا يُميت، وكيف يموت موصولا بربه، حتى لو كان يعبث.قبض ليس من نار يتوعدون بها الأشرار، الذين لا يمضون على الأرض هونا.
ولا يجلبون إلى الأرض السلام، ولا يأتون للناس بالمسرة. إنما هو قبض من تذكر تفريط مخلوق فى حق خالقه، وإنكار للنعمة السابغة التى أنعم بها عليه. قبض يصنعه نقص المحبة، أو الشك فى نصاعة القول، وطهر المسلك. قبض لا يلبث أن تهزه النفس اللوامة، التى تسمع صوتا يأتيها من كل جانب:لا يخاف من ظن بى خيرا، ولو فى لحظة عابرة، من ليل أو نهار.
البسط
أرجوه فانبسط. تنفرج الشدة، وينفتح السبيل. على باب الرجاء أقف صامتا، أطرق باب قلبى، وأنتظر. لا أسمع سوى صوت الصمت، فحتى وجيب القلب قد خمد فى غمرة التمنى، لم يمت، لكنه ربما ذاب فى لهف انتظار تقريب وترحيب.
هل أنا لا أزال حيا؟ أسأل، فالصمت التام موت. تأتى الإجابة:
الرجاء حياة، والبسط فوق الرجاء.
أطمع، وأسأل: هل القبض موت؟
تأتى الإجابة:
عيشة ضنك.
أقول مرتجفا، حتى تتساقط الحروف تحت قدميَّ:
لك العتبى حتى ترضى.
فأسمع صوتا صافيا:
دام الود ما دام العتاب.
ينشرح صدرى، وأبسط كفيَّ، لتسقبلا المطر الذى يهطل أمامى على الطريق، فتنبت أزهار لم أر لها مثيلا. يزول الحذر، وتروح الوحشة. تتساوى فى رأسى كل الأمور، صغيرها وكبيرها، وأيسرها وأعسرها، فأمضى فى تسليم وامتثال مطمئنا حرا، لا أستوحش شيئا، ولا أخاف البلوى.
الهيبة
متى أهاب حتى الغياب؟
أغيب فلا أحس بجسدى. يذهب عنى ثقله وألمه وأدرانه. لا يتأتى هذا إلا إذا حضرت الحقيقة كاملة، وصرت من أهل التمكين، الذين تسمو أحوالهم عن التغير، ويمحى من نفوسهم الانشغال بالذات والصفات.
الهيبة فوق القبض، فالمقبوض يشعر بارتجاف قلبه، ويدرك سعيه إلى السكون. أما من يهاب فيضربه خوفه ضربة قاضية، فلا يدع له، ولو لبرهة، أن يحس بما يجرى فى دمه، ولا ما يلوح لعينيه،
ولا ما يتناهى إلى أذنيه. تنقطع مع الهيبة الأسباب، فلا تكون هى السبيل إلى إدراك الوجود. يتوقف الزمن، فلا تذكر لما مضى، ولا توقع لما هو آت.
الأُنس
الأنس فوق الرجاء. هو حضور من غياب. هو زوال الهيبة. هو بهجة وألفة. هو رقص وغناء. هو دوران ودبيب وانشراح. هو تماه فى الفرح، يغلب أى كدر. هو انتصار على الانقباض، يغلب أى يأس، وكيف ييأس من روح الله من يؤمن به، ويحب خلقه.
الله فى قلبى يؤنسنى، فأمضى وفى نفسى أُنسى. أرى من فرط الأُنس كل شيء فى الوجود جميلا، حتى الأشرار، أراهم سيرجعون يوما إلى ما ينفع الناس. أرى العصاة واقفين على باب التوبة، وأثق فى أنه سيُفتح لهم يوما، وأن هذا اليوم آت دون شك. أتسامى عن الصغائر، وأتسامح مع ما يجري، فهو عندى قدر مقدر، ودور مرسوم للعباد.
الوجد
أطربنى لحن لم أسمع له مثيلا، يمتزج فيه الشجن بالفرح، صادف قلبى دون إرادة مني، فلم أعرف وقتها إن كان عليَّ أن أبكي، أو أضحك. كان وِردا آتيا من بعيد، له حلاوة وطلاوة، رددته فى سريرتي، فلما غلبنى صدحت به، غير عابئ بالذين يمرون حولي. غاب من عينيَّ وعن أذنيَّ كل شاهد.
حضر سلطان الحقيقة، فاستغرقنى ما أنا فيه. شهدت وذهبت طائعا وغرقت. نار الاشتياق انبلجت نورا، وصار وجدى وجودا، بينما أفنى فى الحق، فبقيت به أسمع وأرى.
السُكْر
السكر غياب، مؤقت إن كان عابرا، ومقيم إن كان عميقا، وعمقه قد يجعله أقوى من الغياب. أرى أن السكر غيبة بوارد قوي، وإسقاط لإخطار الأشياء عن قلب السكير. وأن من سكر غير من تساكر. وهو سكر بلا خمر، إنما بالإفراط فى التسليم حتى تصغر الدنيا فى رأس من سكر، فلا يرى منها شيئا، ويكون صحوه على قدر سكره، فالسكر الغامر، يعقبه صحو تام.
صحو فى سكر، وكيف لا؟ وحين يسكر المريد يرى ما لا يراه فى صحوه، أو يكون صحوه أجلى وأعلى. فالسكر غياب عما يكد الذهن فى دنيا البشر، هو تسام عن الصغائر، وذهاب إلى الجواهر من أقرب طريق. السكر نوم للكذب ويقظة للصدق. السكر ذهاب لغفلة يصنعها الانشغال بالذى يجري، وإتيان لانتباه ينشغل بالذى يبقى.
السكر هو فتح الطريق واسعا أمام كل مكبوت ومكتوم وتائه ومنسى وملجوم. السكر هو سلطان للعقل الباطن. أريكة يتربع عليها كل ما ظلمه الشعور. السكر هو ما وراء كل ما نشعر به. هو الذى هناك فى الركن البعيد المظلم المهمل وكنا نهرب منه. السكر هو حضور الحقيقة فى وجه المخاتلة. هو الصدق فى مقابل الكذب. هو التسرى عما يقتل من حقد أو كراهية. السكر هو رضا بكل شيء، وتسامح مع العالم.
السكر خمر الروح، لا فرق بين صانعها، إن كان هو شيء من أعماقك البعيدة، أو هو آخر يدور حولك راقصا، يظن المتعجل أنه سيسقطك فى الغواية، بينما هو يهديك سواء السبيل، لكنه يجعلك تقسم مرات ومرات: ألا تظلم، ولا تبغي، ولا تعتدي، ولا تنتهك حرمة. أنت تطيعه، فالسكير يطيع من يطاوعه، ويعصى من يعصيه، فهو يتساوى عنده كل شيء.
الكبير الصغير، والسيد والمسود، والحاكم والمحكوم، وصاحب الملك، ومن يجلس على قارعة الطريق يمد يده للعابرين، فكلهم عنده بشر، لا فرق بينهم، سوى اختلاف الظروف.
سمعته يقول فى الليل، وفى يده قنينه:
لماذا حرمها ثم ترك العالم على هذا النحو من التناقض المخيف. خرق واسع لا يرتقه أحد. فجوة هائلة لا يسدها شىء.
وسمعت من يرد عليه:
ليس كل صاحب كأس شيطان، وليس كل رافض له ملاك.
وسمعت آخر يقول:
فى وصال من لم ينقص كأسه.
تاه المجيبون بين كأس وأخرى، وانجلى فى الأبيض الزاهى والأصفر البهيج، والأحمر الأخّاذ، كل شيء، إلا أن يكون الشارب غافلا عما للكأس من بهجة، وما لبهجته من شعور فوق الوصف، ومن تهيؤات فوق النواميس.
قال المريد:
السكر حال ومقام.
قال الشيخ:
لا حال ومقام يجتمعان إلا فى السكر.
ورفع المريد رأسه، وانسحب لسانه، مستفسرا، فسمع:
ما يأتى فى لحظة صفاء، يهديها إلينا الباطن المخبوء هو الحقيقة الجلية، وما دونها هو قدرتنا على التعمية، وهذه لا يجب أن نعول عليها أبدا.
ولم يكن أمام المريد من سبيل سوى أن يقول:
السكر تجيلة، وفيه يأتى ما هو أعلى مما نعتقد، ونشغل أنفسنا زمنا واهمين بأنه الحقيقة.
وليس على المريد هنا من وقت أو سبيل سوى أن يسمع صوت شيخه:
ما تتوه له هو السبيل، وما تتوه منه لا يعول عليك.
التيه
تيه المريد رشد إلى الطريق، ففى الحيرة يسكن الاختيار. والتائه على درب السالكين، إن ضل جسده، أرشدته روحه. ومن يتوه باحثا عن دنيا يصيبها كان تيهه ضياع، ومن يفعل هذا فى سبيل الوصول إلى الحقيقة، كان تيهه تحقق.
تيه المريد ليس هروبا من أناس يتوعدونه بالشر، إنما فرار من أناس يوعدونه بما يرونه خيرا له، وما هو كذلك. والتائه بلا وعد ووعيد من أحد من البشر، ولا يرى من تدابير الناس ما يفزعه، هو السائر على درب صائب.
التيه الذى يراه البشر هو صحراء ممتدة. أرض خصبة غادرها أهلها أبدا، تاركين إياها للرحيل. صبى أتى من قرية نائية إلى مدينة كبرى، ومفازة طولها قدر عرضها، وأربعون عاما أو يزيد يرمون على رملها وصخرها، والأقدام أكلها الحصى، والآتى لا يعرف، والذى مضى يطاردنا.
التيه عند أهل الله لا صحراء فيه، ولا مدن موحشة، ولا سنوات طويلة يعدونها أو تعدهم، إنما خوف من توه عن الحق، وانزلاق بعيد عن الحقيقة.
والضياع عند هؤلاء لا يكون أبدا فى مفازة لا يعرف السائر فيها إن كان الشرق شرقا، أو الغرب غربا، إنما هو ضياع فى مكان لا يتجاوز موضع القدمين. فالضائع فى البراري، ويدرك نفسه، ليس ضائعا، والواقف فى مكانه ويجهل نفسه فهو الضائع.
سأل المريد شيخه: متى يعود العبد من طريق تاه فيه؟
أجابه: إن ضاع منه الحق.
عاد المريد إلى السؤال: وهل يدرك التائه الحق؟
أجاب: إن كان تائها فيه.
ثم صمت برهة، وواصل:
لا تيه أكثر من اعتقاد المرء أنه وصل إلى اليقين، فالواصلون فى شكوى دائمة من التفريط، تساورهم الشكوك فى أقوالهم وأفعالهم، ويضنيهم الخوف من العجب بالنفس، والاستعلاء على الخلق.
الصحو
الصحو عند المريد إفاقة، لتحصيل ما كان فيه وقت سكره من إلهام. إنه الانتباه من روعة الغياب دون مفارقته. فليس الصحو ردة عن الحال الذى كان فيه الذى سَكْر، إنما إفادة منه، باختبار هذا الإلهام مع اليقظة. وإذا كان السكر هياما عن الوجود، فالصحو هيام فى الوجود. والصاحى عبد عارف للحدود التى تقف عندها الدنيا، وتربط بين لذتين، لذة الاشتهاء، ولذة الاستغناء.
والصاحى زاهد، يدرك ما هو فيه، ويتجنبه بإرادته، وصبره، وجهاده العميق لفجور النفس, والصحو تدريب واع على الحرمان من لذة الدنيا ولدادة أهلها.
الصحو عودة إلى العلم الكسبي، دون نسيان العلم اللدني، الذى يأتى مع سكر عميق، ينسى فيه العبد نداء جسده، ويذوب فى نداء الروح.
قال المريد: صحوت، فلم أنس.
قال الشيخ: بل انس ما صحوت له.
نظر المريد فى حيرة، وسأل: هل التذكر ذهاب للسُكر؟
أجاب الشيخ: إن صحوت فلا تصل أمسك بغدك، وابق عند ما أنت فيه، مقطوعا عن كل أحد، وأى شىء.
هز المريد رأسه، وقال: فماذا لو كان الصحو وصلا بالواحد الأحد.
ابتسم الشيخ وقال:
هذا هو الصحو الذى نسعى إليه، وفيه لا يذهب أثر السُكر أبدا. فمن كان سكره بحق، كان صحوه بحق.
المفارقة
لا يخلو طريق السالكين من دهشة، ومن زالت دهشته ذهبت فرحته. والدهشة لحكمة الخالق أعلى المفارقات، فمعها يتزلزل الخاطر، وتدمع العين، والدهشة من أقوال الناس وأفعالهم ليست بالشيء القليل، حتى لو سكن معها الخاطر، وغار الدمع، فالمخلوق له نصيب من عطاء خالقه.
نحيل يدفئه الذكر، وسمين يرتج من اللهو. عاصفة من نار، وسكون من بَرَد. عاص تنتظره التوبة، ومطيع ينتظره التلفت. لص يوزع ما سرقه على الفقراء، وكاسب من خلال يمن على من يعطي. معطى يرحل، وآخذ يبقى.
قال المريد لشيخه: عجيبة هى الحياة. علماء عباقرة أفادوا البشرية ماتوا فى ريعان شبابهم. آخرون من حكماء كان لديهم ما ينفعون به الناس، لكن الموت خطفهم، بينما قتلة ولصوص بلغوا من الكبر عتيّا.
لاذ الشيخ بالصمت، وهو يتذكر من عرفهم فى الحالين، لكن سؤال المريد أيقظه: أهى حكمة لا نعلمها؟ أم هو العبث؟
هز الشيخ رأسه، وقال:
لا يفصل فى هذا سوى من تساوى لديه الحضور والغياب. ذلك الذى يرى فوق ما يراه الناس.
احتار المريد فى الإجابة، وهم أن يسأل من جديد، لكن الشيخ عاجله:
لا تنس ما وقع لموسى مع العبد الصالح، فالحكمة الباطنة فيما لا نعرفه، أكبر من هذه الظاهرة فيما نعرفه، وما أوتينا من العلم إلا قليلا.
الكلمة
كل شىء هالك إلا الكلمة، وحدها تبقى، لأنها الله، وهى الروح، والمساحات غير المأهولة بين ما نريد وما لا نستطيع، لهذا نحن منجذبون إليها دومًا، حتى لو أخذتنا إلى ما فوق طاقتنا، وأدركنا ونحن ذاهبون فى طاعة أنها السجن الناعم الذى يلف طيات من الحرير على كل ما فينا فيخمد مستسلمًا لسحر الكلام ومعانيه، لكنه يمدنا، دون توقف، بما يجعلنا قادرين على اختراق كل جدار، والتحليق بعيدًا بعيدًا، ونحن فى إيمان راسخ بأن الحرف بعد الحرف طريق إلى أحلامنا المجنحة.
كل شيء يزول إلا الكلام، وحده يصمد فى وجه الفناء، محمولًا فى ألواح محفوظة، وذاكرة لا يأكلها الدود. هناك حيث لا شيء نأخذه معنا، لن يكون بوسعنا أن نستعيد ما سمعناه ورأيناه إلا بالحروف.
وحدها التى سترسم كل ما خلفناه وراء ظهورنا: المبانى الشاهقة، والمصانع، والغابات، والصحارى الشاسعة، والبحار الهائجة، ومقاهى المساء، ومحطات القطارات، والمطارات التى أخذتنا إلى أماكن بعيدة، وكل الوجوه التى أطلت علينا فى رحلة الحياة الطويلة، متجهمة وباسمة، مختلفة ألوانها وأشكالها. كل شيء سيكون بوسعنا أن نستعيد رسمه، حتى حبات العنب التى التقطناها من عناقيد تدلت، أو تمددت فوق أطباق نظيفة، أكانت على حالها أم صافية فى كئوس عذبة.
كيف لنا، ونحن هناك أن نصف ما جرى لنا هنا، راح فى أقل مما تستغرقه رفة جناح فراشة، وانقطعنا عنه، ما رأيناه، وأغلقنا عنه العيون فى آخر إغماضة بين الناس، أو فى عزلة اختيارية أو مجبرين عليها. لا أرض هناك ندب فوقها إنما فيص وطيف ونسائم عفية، ومدى لا نهاية له، وأبدية أعطيت لنا كى نمرح فيها، كما كانت الثيران تلهو فى مزارع الدنيا المفتوحة، مثلها سندرك هناك أننا كنا مجرد أعطية ورهان زائل.
إلهي، أنت خلقت كل شيء جميلًا، معجزات بعضها فوق بعض، أولها نحن، قبل سماء وأرضين. فى أنفسنا ولا نبصر، فاعطنا اليقين هناك، لتبدد حيرتنا هنا، حيث أنت، وحدك من تقول لنا:
أنا الكلمة.
وبها ستزول الحيرة التى أقامت وأكلت نفوسنا حتى ذهبنا إليك. فالحرف، الكلمة، الكلام، كل ما يبقى بعد زوال الأشياء جميعًا، ولأنك كلمة يا خالقنا، فأنت فوق الفناء، ونحن دونه، نرسف فى أغلال مربوطة بأسفل سافلين. أنت لا تفنى ولا تبيد.
ولا تكون إلا ما تريد، لأنك الكلمة، فامنح لنا بعضها هنا، حتى نؤتى ناصية البرهان إليك، قبل أن يلتف الساق على الساق، وتفارق الباقية التى هى منك، الفانية التى هى علينا.
وحدها الكلمة روحك ومشيئتك، وكل ما جرى لنا، وأجريناه بحولنا الضعيف الخفيف، وما حسب علينا وحسبناه. فالذين يحصون علينا كل شيء، قلناه أو فعلناه، لا يقدمون حصادهم قمحًا أو شعيرًا إنما حروفً متتابعة، ملضومة كلؤلؤ مكنون.
حتى إشاراتنا وإيماءاتنا ليست لدينا ولديهم سوى كلام، وكذلك الصمت، الذى وحدك تعرفه يا صاحب الكلمة، ليس سوى حروف مختبئة خلف خوفنا وترددنا وخجلنا وترفعنا أو تعالينا وغرورنا.
الكلمة هى ما سيذهب معنا، ومن لا يدرك معناها هنا حيث الضجيج الذى يكاد يصم الآذان جميعًا، سيكون عليه أن يتعلم كيف يصغى إليها هناك، ويتذوق المعانى التى تحمله فوق أجنحتها التى يقف الكون كله عليها، ويدرك كم خسر كثيرًا حين توهم أن الكلام عبء، وأن بوسعه أن ينتقل إلى التدبير دون تعبير.
يا إلهي، الذين فهموا أنك الكلمة الحرة الكاملة المتعالية، هم من سعوا إليك فى يقين، وهم من لم يركنوا إلى ما هم فيه على أنه غاية كل شيء، لأنهم أدركوا أن الكلمة لا نهاية لها، وأن كلامنا هنا مهما ارتقت بلاغته فهو طفل يلهو فى حدائق المعنى، ومهما علت فصاحته عاجز عن تحديد أو تصوير أو تفسير كل ما نريد قوله، وكل ما يدور فى أذهاننا، ويجوب نفوسنا بلا استئذان.
نحن هنا يضيع كلامنا تحت ركام من سوء الفهم والإضمار والمبالغات والكذب والأفهام المسمومة بالريبة والظنون، والاستخفاف بأمانة الكلمة، والتيه بين الثرثرة والحجة، واحتقار الكلام على زعم أنه مضيعة للوقت، مع أن كل شيء يبدأ من الكلام وينتهى إليه، طوعًا أو كرهًا.
هؤلاء الواهمون هم أغلب أهل الأرض. إنهم الإفك الذى تذروه الريح. الأكاذيب التى يأكلها الدود. الزرع الذى يصفر ويشيخ وتبلعه أرضه، لأن أيدى الحصادين تأبى أن تمنحه ما يجعله مفيدًا للناس، حتى ولو صار وقودًا للمتحلقين حول مدافئ الشتاء البارد، التى تزهر باللهب.
هؤلاء إن تكلموا فإن حروفهم إبر مسنونة، ما إن يلمسها أحد حتى تدميه. الحرف إما ورد أو شوك، نسيم أو عاصفة، وجود أو عدم. والذين يؤمنون بأن الحرف ورد ونسمة ورسوخ أبدى هم من الواصلين، لأنهم أقرب إلى صاحب الكلمة وعين ذاتها. إنهم من نالوا الحكمة التى تأخذهم فى أقرب سير على درب المعانى حتى يبلغوا سدرة المنتهى.
الوجود
واحدة وحيدة كانت، نبتة ترتعش فى مهب الريح، تميل قليلًا بورقها الذابل كى تعبر الدفقات المتلاحقة لهواء لا يدرى شيئًا عن أوجاعها. طالما حاولت أن تصلب طولها، وتحدثه عن كل الذى عبرها، ولم تعبره، لكنه كان يضربها بلا رحمة، ويتنهد فى حسرة حين يراها، وهو يبتعد نحو فضاء ملبد بالغيوم، تنفض عن نفسها آثار العاصفة، وتقف متطلعة إلى الأفق المجروح بنار الشفق.
كانت مولعة بالهمس فى أذن سماء تضمد جراحها، وتشد وشاحًا على جبينها الدامي، فتقول لها، وهى تتلفت حولها:
أنتظر يومًا آخر مختلفًا.
لكن الغد لم يأت بجديد، فها هى الأيام تتوالى، والريح لا تتوقف، والغيم لا يموت على كف الأفق.
وحدها فى هذه اللحظة التى بوسعها أن تسمع هذا الصوت الخفى الذى يأتيها من عمق سحيق:
نحن معك.
من هؤلاء الذين ينادوننى على هذا النحو؟
تسأل نفسها، لكن الإجابة لا تأتى لها فى التو واللحظة، إنما حين تخلو إلى نفسها، جالسة فى مقعد بصالة بيتها الضيقة، أو فى غرفتها التى كم تمنت أن تكون لها وحدها.ووحده الصمت يجيبها، وهى المجهدة من كثرة الأسئلة، وعقلها شارد فى اللحظة الأولى، والسؤال الأول:
هل كانت نبتة أم زهرة حين طرق اليقين بابها؟
لا أحد يجيبها إلا ذلك الذى يعود ليهمس فى أعماقها:
أنت كل هذا.
ويلاحقها قبل أن تنطق:
روح فى روح، كلها أرواح. إن اختلف المسار فالمصير واحد.
كانت وهى صغيرة ترى نفسها تلك الوردة البيضاء التى تتأرجح فى النسيم، تقترب منها وتمس وريقاتها الناعمة بأطراف أصابعها، وتمد أنفها لتشم عطرها، فتتصور أنها قد صارت مثلها، خفيفة تكاد تطير فى وجه من يقترب إليها، ضواعة تكاد تسكر من يمد إليها أنفه. فما إن تزقزق عصفورة صغيرة فوق غصن مياد، أو تثغو العنزة الوليدة حتى تسترد ما ضاع، وتجد نفسها تطير أو تجرى على الأرض فى اتجاه العُشب.
زهرة أو وردة أو عنزة أو طفلة، لا خيار ولا تخيير، فهى كل هؤلاء، تتوحد مع الأشياء جميعًا، حتى الحجر يحضر، لكنه حجر كريم، من يمسه تسرى فى أوصاله دفقات من نور، متقطعة كأنها آتية من آخر الكون فى خجل وعلى عجل، لكنها لا تلبث أن تنتظم وتغمر الدنيا بأسرها، فترد الظلام على عقبيه.
لا تعرف هى من أين أتتها الروح؟ هل كانت تسكن نبتة أم ذات أربع؟ وتضحك أحيانًا، وتقول لنفسها:
ربما كانت فى حجر.
يقولون عن الأحجار إنها جمادات، لا تسمع ولا ترى، ولا تعرف ولا تدرك وليست لها إرادة. لكنها وحدها سمعت الأحجار تكلمها فى الليالى الطويلة، بدأ كلامها وشيشًا كأنه يأتى من قلب جبل أصم متحشرجًا خشنًا مخنوقًا، وما إن يتمكن من حفر طريقه حتى يصير طليقًا يملأ الدنيا رنينًا عميقًا، كأن الحروف نفسها قد قدت من صخر، وليس هذا بغريب على الأشياء الملونة التى تحمل الأسرار.
أى سر يمكن أن يفوق الروح؟
تسأل وهى تحملق فى الفضاء الذى يرخى ذيوله الناعمة على الأفق، وتجد نفسها فى هذه اللحظة أقرب إلى الإجابة من أى أحد على سطح أرض، يظن أهلها أنهم قادرون عليها، فتقول لمن يلح عليها:
اصمت، وأصغ.
يصيخ السمع فتقول له:
الروح واحدة، خلقها الله هكذا، تتوالد كما تفعل الأرحام، فالروح رحيمة، والرحمة روح أى علاقة مع من خلق. واحدة لأنها سر، والسر واحد، لأنه يتعالى على الأسرار الصغيرة لبنى البشر، إنه السر الأعظم الذى ما أن تقترب منه أسرار يظن الناس أنها دفينة وفى حرز حريز حتى تحترق، كما يتهاوى البعوض ميتًا إن اقترب من صاعقه، وتحترق الفراشات فى النور الساطع المختبئ فى النار.
وما علاقة هذا بما نريده معرفته؟
يسألها كل من يسمعها، فتقول له:
يجهل الأمر من لا يتأمل طويلًا فى كل من وما حوله.
ليرى ماذا؟
كل شيء، البشر والحجر، الإنسان والحيوان، الحاضر والغائب، والمساحات المفتوحة بين البداية النهاية، والمردومة بألوان من الخوف والتيه والحيرة، والأسئلة التى لا يكف كل إنسان عن طرحها ويقف عاجزًا عن الإجابة.
تصمت برهة، وتقول لكل من حولها:
ألم تقرأوا «ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا»؟ لم يصادر صاحب الأمر، ومنشيء الروح عليكم إن رغبتم التفكير فيها. بل قال لكم فقط: إنها من أمرى. يا الله، كثير من الرموز والمعانى والأشياء فى هذا العالم من أمرك، لكنك سبحانه لم تغلق الباب أمام النظر إليها.
يقولون لها:
قرأنا وتوقفنا، فما كان له ليس لنا.
تضحك وتقول:
هو سبحانه لم يغلق الباب أمام وصولكم إلى فهم ما أضناكم، لكنكم استسلمتم.
وتنظر حولها فترى الجبل، وماعز يحط على هامته، وزهور تنبت على جانبيه، وتقول:
هنا بدأ ما جاءني، وسيروح منى إليه.
ويسخر منها من يقول:
كل روح تختلف عن أختها، فما للإنسان ليس للحيوان.
وتضحك وتقول:
كل لا يتجزأ، واحد لا يتعدد، سر لا ينكشف إلا لمن سعى.
وحين يسألها الحائرون:
ومن الذى يسعى؟
تجيب فى ثقة تامة:
ذلك الذى يضع يده على جسده، فيدرك كم فيه من العطر الفواح، والورق اليانع الوارف، ومن يجرى على ذات أربع، ومن يفرد جناحيه، وذلك الراسي، المتأرجح بين صلد أملس ناعم وآخر ملىء بالنتوءات، والذى لا يمكن لأحد منا أن ينطحه.
فى كل هناك جوهر كامن، إنه الروح، التى تعطى الأشياء وجودها، وإن راحت مات كل شيء. وفى آخر العالم سينزع الله الروح التى لا نعترف بها من الجبال، فتصير عهنًا منفوشًا، ومن الأغنام فتصير أحجارًا بيضاء ثم تتفتت إلى أحجار منها إلى ذرات عبار تضيع تمامًا فى العاصفة التى يصنعها نفخ فى صور يعلن نهاية كل شيء، إلى الروح، التى تظل، رغم فناء العالم، موجودة، تنادى على كل من حلت بهم كى يأتوا، وقتها سيدرك كل أحد، وكل شيء، أن الروح أمر واحد، توزعت على الكل، دون تفرقة، إنها واحدة لأن من أطلقها واحد، هو من خلق وسوى وعدل فى أبهى صورة.
الناس
هذا الذى يرقص كى يصعد إلى السماء، يبدو للناظرين من بعيد رحاية تطحن الأغلال الأرضية التى تثقل النفوس، دوامة فى بحر هائج تظن بدورانها الملهوف أنها ستمنع الماء من أن يكون آسنًا. لا يريد أن يكون من يدور جائعًا يجوب الميادين الوسيعة كى يعطيه العابرون ما يشترى به كسرة خبز، ولا صيادًا تسطع الشمس فوق هامته وتلسعها، وهو جالس فى العراء طيلة النهار، كى يسرق من البحر سمكة واحدة.
إنه ذلك الرجل الذى يقف على الرصيف الخالى من العابرين فى صقيع شتاء قاس، ويقول مرات ومرات:
حبل وريد القلب الموصول بالله دومًا لا تقدر على قطعه ذنوب لا تكف عن التساقط تحت أقدام توبة تتجدد، وتكنسها ريح نفس تلوم.
تفتح سيدة نافذتها فتحة ضيقة، مبتعدة بوجهها عن تدفق الريح الباردة، وتمد أذنيها فقط كى تسمع، لكن الرجل يصمت فجأة، ويعطى ظهره للشارع، ووجهه إلى جدار بناية فارعة الطول، ويلوذ بالصمت الجليل، فتعرف دون أن يخبرها أحد بشىء، أنه لا توجد كلمات بوسعها أن تصف ما يريد أن يقول، ومع هذا تسمعه دون أن ينطق، تصلها حروفه:
يا ربى، أنت حسبى وسندي، قلبى عامر بك فيموت خوفى من عبادك، فمهما بلغ سلطان أيهم فهو لا يملك شيئًا وما هو فيه ليس إلا القليل الضئيل مما هو لك،عابر ذاهب عنه لا محالة، فالملك لك.اللهم اعصمنى من أيدى من ينسون الرجوع إليك، واجعلنى ممن يقولون كلمتهم غير هيابين ذى الهوى والغرض والسوط والسطوة.
تدرك هى المشكلة التى تؤرقها دومًا، إنها الأمانى التى تكون أطول من الأعمار، وتفهم أن ما ينتهى إليه السابقون لا يكمله اللاحقون بالضرورة. تعرف أن قدر البشرية، وهى تتحدث عن التقدم والتطور، أن يشعر النابهون فيها كل لحظة، أن الغابة حاضرة، فاتحة فمها لتبتلع أى شيء، وتزداد توحشًا، لتصبح قدرة من يفترس فيها أكبر بكثير من وسع الذين يسعون إلى أن يجعلوها أليفة، ويمكن أن تُحتمل، وتمر، وتعاش على قدر الاستطاعة.
تفهم هى أن حل هذه المشكلة لا يكون بتحليق بعيد فى فضاء مفتوح، وخلاء واسع، وصولًا إلى امتلاء يحل فيه كل ما لا يراه غير العارفين، فعلى الأرض ما يستحق أن ينزل الأمر من عليائه ليسرى بين الناس، فلهم ينتهى كل شيء، بأمر ممن خلقهم، وأوجد لهم كل الكائنات والأشياء.
تسمع هى الصوت الذى يناديها:
الله غنى عن العالمين.
تصدق هى هذا الذى يتكلم دون أن ينطق حين يعلن جرأته على البشر ما داموا ظالمين، وتتعلم منه، أو هكذا تظن هى فى دنياها الخالصة، أنه لا يمكن أن يستقيم أحد، ولا ينال الاعتراف، ولا يرسخ ويزدهى، إن لم يكن له ما يؤديه فى حياة الناس هنا.
«ماذا سيجنى البشر من الإنشاد الصافى إن لم يهز أوتارهم؟»
تسأل نفسها، وتنظر إلى الشوارع التى تغص بالعابرين، وتقول:
إن لم يكن الوصل إلى هناك يمس ما هو هنا فلا وصل ولا اتصال.
وتسمع هذا الذى يلومها. إنه ذلك الذى طالما جاء إليها دون أن تعرف من هو على وجه اليقين، كى يهمس فى أذنيها:
الاتصال تحليق هناك بعيدًا عن هنا الذى صار وحلًا.
وتدرك هى قطعًا أن الطين اللازب الذى صار يأخذ كل قدم تدوس فيه ويصل حتى الساق ساعيًا إلى البقية، لا يمكن أن يُترك هكذا دون اتصال الذى هو هناك وهنا لا نراه بالذى نراه، فيسلم ما نمسه ونحسه بما لا نسمع ونرى كما نرى الناس ونسمعهم، لكن قلوبنا تعرفه وعقولنا كذلك إن صفت.
يحلم أى إنسان يعانى على سطح هذه الأرض بمن يأخذ بيده دومًا، ويريد منه ألا يشرد به كل الوقت فى ما فوق استطاعة الأذهان أن تبلغ هيئته فهو «ليس كمثله شيء»، إنما أيضًا تقترب به من هذا الذى يعمل معه وهو يدب على التراب مثله، فى سبيل أن ينتشله مما يعانى منه، الفقر والحرمان والتيه والخوف والحاجة والرغبة المستعرة فى التحليق ساعة من نهار فى أحلام يقظة، وساعة من ليل فى رؤية قد تتبخر، أو يستقر بعضها فى الذهن، ثم تذوب، أو الانتشاء من لذة يرتعش لها الجسد.
تعى هى أن أنين الناس الذى ينهمر على سمعها وهى تمضى بينهم فى الميادين والشوارع والحارات والعطوف والأزقة وفوق الجسور والدروب والطرق، هو أولى بالرعاية، لأنها تؤمن بأن الأرض هى الطريق إلى السماء، وأن الذاكرين إن لم يَسِل ورعهم على رءوس الحيارى والفقارى والخائفين وذو العوز فإنه يظل منقوصًا، وأننا إن لم نبحث عن الأولياء منهم وفيهم فإننا نخطىء خطأ كبيرًا.
الأرض من السماء، لا انفصال بينهما، فالأولى تجل للثانية، والأخيرة تفضل على الأولى، وبين التجلى والفضل دروب وشقوق ومسارب لا يمكن نكرانها إلا لذى جهالة أو غفلة أو تنطع، ولا يفهمها إلا أولئك الذين يعرقون هنا فوق التراب فى الحقول والمزارع والورش والمشاغل والحوانيت الضيقة والمتاجر الوسيعة، إنهم من يعرفون أن العرق الذى يبرق على كل جبين ووجه هو نجمة تترقرق فى صفحة الفضاء الأزرق المفتوح على الدهشة والأمل.
كل شيخ ينظر بعين الرأفة إلى مريديه، وكل مريد يتوق إلى خلاص على درب سيده الذى يدركه، لا يمكنهما وهما فى غمرة الحضرة البهية أن يغمضوا العيون عن كل الذين يأتون إليهم، ويتحلقوا حولهم، باحثين معهم عن مسرب يأخذهم إلى البراح. ليس براحًا هذا الذى يطلب من الأحياء موتًا كى يروه، إنما هو الذى يحققه الناس بأذهانهم وأرواحهم وسواعدهم، وهم يمشون على الأرض متطلعين إلى الفضاء البعيد.
إن فى هذا ما يجعل كل مريد مكتف، وفى الاكتفاء مساعدة على الاستغناء، وفى الأخير تفرغ للذكر، وإذا كان هناك ذاكر لا ينتظر اكتفاء، فما ذنب غيره أن يجوع وهو سابح فى الحضرة البهية، فلا إيمان بلا شبع وارتواء، قد ينقصه ما يجعل الجسد هزيلًا، فالجوع كاد يكون كفرًا، إن كان بغير إرادة بغية تحقيق صفاء الروح وهيامها الذى يأتى حين يفرغ البطن قليلًا.
مقام الشوق والهيام هذا قد يكون أحيانًا فيضانًا وتبتلًا ينزل من عليائه إلى دنيا الناس، دون أن ينسى الحبل الممدود بينها وبين أبعد نقطة فى هذا الكون، حيث سدرة المنتهى، إنه ذلك المسرى والمسار الذى يبين أن المحبة هى طريق فهم كل شئ يشغل الناس، وأن فى هذا الخلاص.
إن امتلاء الروح لا يطلب لذاته، فالله لا يريد للبشر أن يصفوا فيرتقوا وهم فى عزلة تامة حتى الموت، وإن فعلوا هذا ابتداء فى المجاهدة، فإن الأجدى أن يكونوا بعدها بين الناس، ليهدوا إلى السبيل الأسمى، والمقصد الأسنى، ويشيعوا الفضائل فى الخلائق كى تصبح الحياة أكثر سعادة وجمالًا وسكينة.
التيه
قال له وهو يغالب وجعه المزمن:
كل شيء زائف حولنا، لكن ليس بوسعنا من أجل اتصال أرزاقنا سوى أن نُسمعه كلامًا عن إيماننا بحقيقته الدامغة التى لا تقبل التجريح، ونقف له منتبهين، ونقول بملء أفواهنا: أيها العظيم القادر المقتدر، لا يوجد حق ولا صواب فى هذه الدنيا سوى ما تفعله.
رد عليه، وكان زميله، وأقل منه مالًا وولدًا ومنصبًا:
لم يجبرك أحد على الكلام، والصمت لمن هم مثلك هو أعظم خيار واختيار.
فى حديث الاثنين طريق، سلكه السالك، غير عابئ بشيء سوى أمرين: ألا يسقط حين ينظر إلى وجهه فى المرآة، وأن يقف يقظًا على الحد الفاصل بين الصمت والكلام، مستعيدًا طوال الوقت قول شيخه:
لا يسمع السلطان منك ما يبهجه إن كان ظالما، والأجدى أن تواجهه، فإن كنت غير قادر على الجهر أمامه بما تراه فيه، فاصمت، حتى لا يسمع منك ما يغضبه، ولا تعتقد أن صغير القول عندك هو كذلك عنده، فأنت لا تعرف ما يدور فى رأى الذين يجلسون متربعين على الكراسى الكبيرة فى القصور الفخمة.
ويهز رأسه لجسده حين يبوح له بضعفه عن حمل نفسه الجسورة، ويقول له:
أفهمك، فطالما وقفت معى وأنا أصرخ فى البرية، وأعزف لحنًا لا يسمعه غيري، وأنطق حروفًا تائهة فى عالم مزدحم بالكلمات الفارغة.
ويرد عليه:
قلت لشيخى الطيب إننا نعرف جميعًا أن «الظلم ظلمات يوم القيامة»، لكن ماذا عن الآن؟
يوقظ كل مسامعه منتبها إليه، فيقرأ السؤال فى عينيه، فيجيبه قبل أن ينطق:
ابتسم يومها فأشرقت الشمس فى محياه، وقال لى فى ثقة: لا أعتقد أن الظلم يمكن أن يكون نورا فى أى من أيام الناس فى الحياة الدنيا، إنه يقبح وجوه الظالمين فى النفوس والعيون، فلا يمكن لذى استقامة أن يرى ظالمًا جميلًا طيبًا يستحق السمع والطاعة، حتى لو أجبر على أن يتفوه بما هو عكس ذلك.
يتوه الاثنان فى الذى يجرى لهما، ويدركان أن الله خلق للبشر أجمعين من أسباب الهم والغم والحزن أكثر من أسباب الفرح، لأنهم اختاروا هذا، ظلموا أنفسهم فى جهالة، لكنه سبحانه قابل هذا برحمة واسعة منه، لينهى أى عتاب منهم على محنة الخلق، بل وجب أن يشكروه على فرصة الحياة، ولذة التجربة فى عنائها وشقائها قبل تنعمها.
كان عليهما فى هذه اللحظة أن يتخيلا العدم، الذى لا يمكن تخيله، حيث لا حياة، ولا تجربة، ولا فرصة، ولا لذة، ولا عذاب، ليدركا أنه لا يوجد ما هو أسمى من القرب أكثر من الله، بعيدًا عن دنيا الناس بكل أكاذيبها، وهؤلاء الأغلب فيها الذين يظلون طوال حياتهم، يعيشون ويموتون، دون اكتشاف الحقيقة، وهى أنهم، رغم كل ما تم منحهم من فرص وقدرة، عابرون فى هذا الكون.
حدق أحدهم ناظرًا إلى السماء، وهو مشمول بالكلمات التى سمعها، وراح يقول فى تبتل:
هناك بين الأزرق والأخضر، أرفع يدى محلقًا، الزرقة سماء خجلى، والخضار زرع يقاوم الشيخوخة، لكن الموت آت يا صديق.
نظر إليه الثانى تائهًا، وقال:
لننظر أولا هنا بين السواد والرماد، فتحت أقدامنا ما خلقنا منه، وحولنا أولئك الذين يدبون على المسرح الكبير.
أى مسرح؟
الدنيا، مسرح العبث الأول.
لا تشلغنا، ولا نقف أمام حطامها، فنحن الجوعية الزاهدون.
نجوع نحن كى تصفو أرواحنا، فما ذنب الذين يجوعون فتنحل أجسادهم، وتحل فى نفوسهم كآبة، فيقنطون ويقفون تحت السماء رافعين أكف العتاب. الجوع اختيار، أو هكذا يجب أن يكون، فالذين يجوعون بأيدى غيرهم يكادون يقفون على حافة الكفر.
والذين يفعلونها بإرادتهم يعطون الطعام لغيرهم عن طيب خاطر، ثم ينظرون إليه هازئين، موقنين أن الرحمة والإيثار بوسعهما أن يوقظا الطاقة الجبارة النائمة بين جوانحهم، فتمدهم بأسباب عيش غير الذى يمضى فيه غيرهم طيلة أعمارهم معتقدين أن هذا كل شيء.
وهل إذا جعنا وصفت أرواحنا، تتغير طبيعتنا؟
ماذا تعني؟
أى نسمو فوق الأخطاء والخطايا؟
لا أبدًا، بلا أخطاء نصير آلهة أو ملائكة أو جمادات. فما نرتكبه من أخطاء وخطايا يدل علينا، ودونه هو دليل على من لسنا له، ونحن لكل نقص برهان ورهان. برهان على أن الإنسان مهما أوتى ناقص، ورهان على أن الله حين خلقه على هيئته، لم يكن يريد منه شيئًا، لا اعتراف ولا إضافة أو تزيد، إنما إقرار بالحقيقة.
لكن هناك من بيننا من يظنون أنهم فوق البشر دون أن يفكروا لحظة واحدة فى صفاء الروح أو حتى تهذيبها.
أعرفهم، إنهم جهلاء مغرورون، لو فكروا لحظة واحدة فى المرض والموت وقبلهما فى الجوع والاشتياق والحنين والكيد، لعرفوا ما ينقصهم، وتواضعوا.
الحيرة
ينام الغيم على كف السماء، يستقر قليلًا فى راحتها الصافية، يصارع الريح ويصدها، فتمزقه أشلاءً. يصير كل شيء نريد أن نراه: فيلًا أبيض تائها فى الغابة، نعجة جائعة، حمامة ترمى وداعتها فى قبضة الهواء، قطعًا من رخام رائق،أجولة قطن ملقاة على رئوس الحقول، أكفانًا بعثرها الفناء، تعانقها أنظارنا السابحة فى الفراغ، وأقدامنا التى تلثم التراب،وتدوس على زخات خفيفة، وتثير العجاج، يعلو ثم يعلو، يخالط السحاب، يجرحه، يفزعه، فينتفض غاضبًا، ويدعو بعضه إلى بعض.
أسمع صوته يتنادى ويستغيث، فينضم الفيل إلى النعجة. ينضم الاثنان إلى الحمامة. يقف ثلاثتهم فوق الرخام الممتد. يسندون ظهورهم المكدودة على القطن. يفرشون الأكفان تحتهم. تغضب الريح فترمى ما فى يدها. تنزع أرديتها، وتقف عارية استعدادًا للمعركة. لكن الغبار الذى أثارته أقدام حافية يقف فى وجهها عارى الصدر. عيناه حمراوان. أظافره مسنونة. فمه مفتوح عن سكاكين قواطعه، وأنياب حادة تعلن الحرب.
تدق طبول السماء رعدًا يهزنى أنا السارى فوق الجسور العالية المعزولة. أرفع عينيَّ إلى الفضاء البعيد فأسمع من يقول لي:
اثبت.
أطيع. أفرج عن بيانى الأول الذى يؤيد السحب فى وجه الريح. أطب من كل الفلاحين المكدودين المتقاطرين فى الحقول أن يرفعوا فئوسهم كى تصد العاصفة. أرى فئوسًا ومناجل تشق صدر الهواء الغاضب. أنا الذى أجرى ونعلى قد شردت منى أكون قادرًا على أن أصرخ فى وجه سيول الفضاء الجامحة، تلك التى تغرق الوجوه غطرسة، وأقول لها:
قفي.
لكنها لا تطيعني. أكررها مرات. أنطقها من أعماق روحي. أجدها تتمهل، فيصير الريح نسائم، ولا يستطيع شيء أن يهز قدميَّ اللتين تمضيان فوق الجسور الذاهبة إلى حلمي. النصر يقترب يا من آمنت به. لم تقل إن شيئًا محالًا أبدًا.
هكذا أقول لنفسي، فأرى السماء تزمجر، وتلمع فى عينى فئوس الفلاحين التى تشق الهواء كما شقت الأرض الصلدة، وأسمع صوتًا غريبًا يقول لي:
ليس أمام الذى توزع بين أشواق امرأة عولت عليه وأخرى انتظرته سوى أن يقاوم.
أقاوم فلا أكتفى بالنداء، إنما أقف فوق الجسر العالى غير عابئ بمن سيستجيب لاستغاثتي، ولا التراب الذى يجرى تحت قدمى بعد طول سكون، ولا انتظام الفلاحين فى صف واحد وقد نكسوا فئوسهم، وأدخلوا المناجل فى أغمادها.
أنا أعول دائمًا على كلمة تنادى رجلًا فيصير رجالًا، فتكتمل الصفوف، ويعرف الذين دخلوا إلى الخنان والأكفان ووقفوا على حافة القبور أن الزمن يمنحهم فرصة أخرى للحياة، وعليهم أن يتخيروا بين غمامات حبلى بالمطر وبين العاصفة.
ليس هناك من وقت طويل للتفكير، الآن السؤال، الآن القرار:
مع المطر أنتم أم مع العاصفة؟
سؤال أطلقه أنا الطليق فوق الجسور حافيًا. لا أسمع صوتًا فى البداية. يضنينى الأسى، يقتلنى الانتظار، بعد طويل من الجرى المتواصل أسمع همسًا:
نحن مع المطر.
أمد كفيَّ لتسقط زخاته فوقهما. أسمع صوتًا خافتًا يقول:
أنا هنا وقد عرفت دوري.
أدرك عندها أن قطرة سقطت فوق صخرة، قد أقسمت بأغلظ الأيمان أن بوسعها أن تشقها نصفين، ثلاثة، أربعة، على قدر ما يستطيع الناس أن يعدوا.
يسألنى أولئك الذين أكلهم اليأس:
خرجنا طلبا للمطر، وصرخنا فى وجه العاصفة، وما نالنا غير القحط.
أمضع كلماتهم على مهل، وأقول:
لولا الذين أنتم هم ما كان يمكن للحياة أن تمضي. ربما تصير غابة، أو جحيمًا، أو ضياعًا تامًا، أو شيئًا من ذلك الذى كان موجودًا وقت أن كانت الضغينة تملأ نفس أخ قتل أخاه فى بدء الخليقة.
أقول لهم:
نحن النهار الذى يلون الليل بالنور. نحن الحياة التى تقول للرحيل الأبدى تمهل. نحن الرحيل إلى السكينة والنعيم.
يا أيها الذين أضناكم الانتظار، وتقلمت أظافركم وأنيابكم، وضاع صراخكم فى الهواء هباء، لا تيأسوا. اجلسوا صامتين تحت نور شمعة، تؤنس وحشتكم، واقرأوا تاريخ الذين ذهبوا. مثلكم كانوا يعتقدون أن كل شيء آل إلى الظلام والخوف والدم والتيه.
جلسوا طويلًا يتبادلون العتاب ويتساءلون:
من الذى ضيع لحظة النسيم الطليق والورد والضحكات المجلجلة؟
بعد طول جدل ينتهون إلى ما كانوا يصرخون به، يثرثرون حوله، دون فائدة. وقتها سيشعر الفلاحون أن الغيم ليس لهم. وأن ريحهم لا تهز أغصان الشجر فيتساقط منها ثمر جني، إنما هى تلك التى تسلخ الفرع من أخيه، وتسقط الأسوار القائمة على حواف الحدائق. حينئذ يا أيها الذى نناديه وينتظرنا، سيولد الغيم اللطيف المثقل بالماء، ليسقى زرعنا وضرعنا، ويقول لأنصار البور والقحل واليباب والبوار والخسران:
تراجعوا.
لن يمتثلوا، سيحاولون من جديد أن يطلقوا القبح وقد لونوا وجهه بمسوح الجمال. سينجحون إلى حين، لكن مآلهم إلى إخفاق. وقتها فقط سيقول الغيم:
أنا المطر والماء، والزرع البهي، والثمر الجني.
وقتها أنا الذى أجرى فوق الجسر أشعر أنه يعلو بي، ويعلو ويعلو، حتى يكون بوسعى أن أمسك بيدى السحاب، لأنى لا أتردد، فافعل أنت الأمر نفسه، وكن على دربي.
اقرأ ايضا | فارس رجب يستعرض «فلسفة الإنسان المعاصر»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.