في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي أصيبت السيدة أم كلثوم (1898-1975) بمرض فرط نشاط الغدة الدرقية، وكان العلاج المتاح وقتذاك الاستئصال الجراحي للغدة، لكن هذا الحل كان يؤثر على عصب الحنجرة، بما يهدد كوكب الشرق بفقدان صوتها، لذا اضطرت للسفر إلى الولاياتالمتحدة للعلاج في مستشفى البحرية الأمريكية بولاية ميرلاند، ووثقت «آخرساعة» لحظة صعودها الطائرة واصطفاف جمهورها في المطار فجرًا لتوديعها، وهى اللحظة التي سقطت فيها دموعها بينما كان يقف لوداعها على سلم الطائرة البكباشي أنور السادات.. الحكاية بتفاصيلها نعيد نشرها بتصرف محدود في السطور التالية: كانت كلمات الخطاب الذى تلقته أم كلثوم في الشهر الماضي (أبريل 1953) من واشنطن صريحة واضحة.. وكان الخطاب نفسه قصيرًا موجزًا، ومع ذلك استطاع هذا الخطاب أن يهز شعبًا بأسره، وأن يحرك قلب كل عربى لكى يسير خلف أم كلثوم. والخطاب يقول: إن كل شيء على استعداد.. المستشفى الكبير الذى ستُعالج فيه أغلق حجرة من حجراته ولن تفتح إلا عندما تصل.. والطبيب الذى سيشرف على العلاج أخلى يديه من كل شيء ليعالج صاحبة أجمل صوت.. والممرضون لبثوا فى مكانهم ينتظرون. وفي صباح الأحد الماضي وقف عشرات من أصدقاء أم كلثوم وعشرات من أفراد هذا الشعب يلوحون بمناديلهم البيضاء لصاحبة المنديل الحريرى الأخضر وهى ترتفع إلى الطائرة فى طريقها إلى واشنطن. ◄ صغيرة على العرش حينما زار المغني الفرنسي موريس شاليه مصر، طلب أن يتناول فنجانًا من الشاى مع أم كلثوم، ودعته الست لزيارتها وعندما رآها لأول مرة تملكته الدهشة وأخذ يردد: «مستحيل.. مستحيل». وسكت المغني الفرنسي قليلًا ثم قال: لقد سمعت اسمك في كل مكان زرته في الشرق، فلم أر فنانًا يتمتع بهذه الأرقام من المعجبين المتحمسين، وقيل لى أنك تسعين بالغناء إلى عقد الصلة بين الله والناس، وهذه مرتبة لا يبلغها العباقرة إلا بعد كفاح طويل مرير. وسكت المغني الفرنسي مرة أخرى قبل أن يقول: أنتِ صغيرة جدًا بالنسبة للعرش الذي تجلسين عليه. ◄ اقرأ أيضًا | بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيلها .. أم كلثوم شخصية الدورة ال 33 لمهرجان ◄ صوت الشعب إن أم كلثوم عندما تقف على خشبة المسرح يجلس الشعب أمامها كقطعة لينة من العجين تكيفها بصوتها العميق كيفما تريد، وأكثر من مرة تحولت قطعة العجين اللينة إلى قطعة من الصخر البارد وإلى نار مشتعلة ملتهبة. وكان الشعب يبحث دائمًا عن أم كلثوم.. كان يبحث عنها فى كل وقت.. فى فرحه فى أزمته وفى محنته لأنه يعرف أنها واحدة منه، وأن صوتها هو صوته، وأن أنغامها هى صدى أمانيه وأحلامه. وكانت أم كلثوم تقف مرة لتقول كلمة الشعب ولترجع صدى أمانيه ولتعلن إرادته، ولم تكن تبالى شيئًا ولا حتى صحتها.. كان كل هدفها وما تصبو إليه أن تقف أمام الذين أحبوها والذين يصفقون لها.. كانت تشعر بأنها تحمل رسالة هذا الشعب.. وأن عليها أن تؤديها وألا تقصر فيها، ووصلت الرسالة إلى كل ركن من أركان العالم، وسمع كل إنسان صوت أم كلثوم. ثم مرضت أم كلثوم وطافت بين العقاقير والأدوية، ودارت بين الأطباء والمستشارين، وسافرت إلى فرنسا وإنجلترا وسويسرا للعلاج، ثم عادت وقبل أن ينتهى العلاج وقفت أمام الشعب لتغني. وفى يوم الخميس أول يناير الماضى (1953) انتهت حفلة أم كلثوم الشهرية وانحنت للشعب الذى أحبها وأحبته أن تدخل إلى غرفتها وترتمى متعبة منهكة.. لقد أحست كوكب الشرق بضيق وسرعة فى ضربات القلب، وعرضت نفسها على الأطباء، وقرر الأطباء أن الغدة الدرقية تؤدى وظيفتها بنشاط أكثر مما يجب، وأن هذا النشاط هو الذى يسبب لها ما تشكو منه. وأشار عليها الأطباء بالإخلاد إلى الراحة التامة وعدم الغناء، واستجابت أم كلثوم للأمر واستمرت فى علاجها.. ولم يكن العلاج شافيًا، حتى الدواء الذى استحضرته بالطائرة من أمريكا لم يستطع أن يخفف من آلامها. ◄ إلى أمريكا ومرة أخرى اجتمع الأطباء، ونصحوها بالسفر إلى أمريكا لعرض نفسها على مشاهير الأطباء هناك، ورضيت أم كلثوم وأرسلت تطلب إجراء الاستعدادات للعلاج، واهتم أحمد حسين سفير مصر في واشنطن اهتمامًا خاصًا بطلب أم كلثوم، وأشرف بنفسه على إعداد كل ترتيبات علاجها فى واشنطن، وأكثر من هذا عرض عليها أن تنزل ضيفة عليه فى بيته هناك طوال فترة علاجها. وطلبت أم كلثوم من المسئولين أن يصرحوا لها بالسفر، فوافقوا على الطلب فورًا، وصرحوا لها بأخذ أى مبلغ من المال للعلاج. وقال أحد المسئولين إن أم كلثوم قدمت لوطنها خدمات ضخمة لم يقدمها له كثير من رجاله، وأنه يتمنى أن تعود سريعًا إلى وطنها بعد أن تسترد كامل صحتها لتستأنف جهادها الكبير فى ميدانها، فإما أن تعود لتحيى أفراح الجلاء التام، أو تعود لتشترك فى كفاح البلاد ضد الاحتلال. ◄ باسم الشعب وأوفدت الحكومة الأمريكية إلى القاهرة الأميرال براون كبير أطباء البحرية ليرحب بأم كلثوم، وليبلغها أن الحكومة الأمريكية يسرها أن تجيب رغبتها وأن تنزل فى مستشفى البحرية الأمريكية وهو أكبر مستشفى فى أمريكا. ولم تنم أم كلثوم ليلة السفر أكثر من أربع ساعات، ووصلت إلى المطار فى الساعة السادسة صباحًا.. ووقف عشرات من أصدقاء أم كلثوم وعشرات من أفراد الشعب فجرًا فى أرض المطار يلوحون لها بمناديلهم البيضاء وهى ترتقى الطائرة فى طريقها إلى واشنطن، وغير هؤلاء كان هناك الملايين. وبقى سؤال يكاد ينطق به كل لسان ويقفز من بين ضلوع كل مصري: متى تعود أم كلثوم؟ ومتى نسمع صوت أم كلثوم؟ وأجابت صاحبة أجمل صوت عن هذا السؤال قبل أن تغادر الوطن: «وبعد.. استودعكم الله جميعًا وأرجو أن أعود إلى بلادى وقد تحررت أنا من مرضى وتحررت هى من احتلالها». وتظهر الصور التى نُشرت مع هذا التقرير الصحفى أم كلثوم وهى في طريقها لركوب الطائرة، وتلويحها بالتحية للمواطنين الذين أحبتهم وأحبوها، كما ظهر شقيق أم كلثوم وهو يطبع قبلة على خدها قبل سفرها إلى أمريكا للعلاج، وكذلك تواجدت السيدة سعدية وصيفة أم كلثوم، التى رافقتها فى رحلتها إلى أمريكا، وتوسط التقرير صورة كبيرة لأم كلثوم تمسح دموعها بعد أن صعدت سلم الطائرة أثناء تلويح مئات المواطنين الذين اصطفوا لوداعها، وقد وقف إلى جوارها البكباشى أنور السادات الذى جاء ليودعها ممثلا للقيادة العامة. («آخرساعة» 6 مايو 1953)