عبد الناصر فى إحدى حفلات أم كلثوم.. ىصفق إعجابا بصوتها فأجابه: »لأنها من العهد البائد« فضحك وقال: »علي كده.. لازم نلغي الأهرامات.. هي كمان من نفس العهد« كثيرون.. وكثيرون جدا في هذا العالم واسع الأرجاء يتشاءمون من الرقم (13). أم كلثوم، علي عكسهم جميعا.. لم يكن هذا الرقم يشكل عندها أي إزعاج أو قلق أو خوف.. بل كانت تقول: - ده شعور ملوش طعم.. يعني مثلا أن الإنسان لما يبقي عمره (13) سنة حيتوقع تحصله كارثة؟.. أنا لا أنظر إلي الرقم 13 نظرة تشاؤم، بل أتفاءل به وأحبه.. ومن المصادفات الغريبة التي تؤكد ذلك أن كوكب الشرق تعاملت بارتياح مع الرقم 13، الذي برز بوجود 13 ملحنا في حياتها، صاغوا لها روائع الأغاني التي سعدت بسماعها جماهير الأمة العربية.. والملحنون هم: عبده الحامولي، الشيخ أبو العلا محمد، الشيخ زكريا أحمد، محمد القصبجي، رياض السنباطي، د. أحمد صبري النجريدي، محمد عبدالوهاب، محمد الموجي، كمال الطويل، بليغ حمدي، داود حسني، فريد غصن.. وسيد مكاوي! كل شيء فيها كان غير عادي.. إنها جزء من تاريخ الفن الحضاري العربي، وجزء من تاريخ الزعامات الشعبية في هذه المنطقة من العالم.. تماما مثل زعامة عبدالناصر.. وربما ما جمع بينهما من صداقة وطيدة هو هذا الإحساس بالزعامة الشعبية. كان صوتها كالصلاة يستقطب كل الناس: الغني، والفقير، الحاكم والمحكوم، وفي رقعة هي الوطن العربي كله، حتي قيل إن العرب كانوا يختلفون فيما بينهم، ويتفقون علي صوت.. أم كلثوم. كذلك الحال مع عبدالناصر، الذي امتلك صوتا مؤثرا بشكل مذهل في الجماهير العربية.. لقد كان الصوت جزءا من »كاريزما« عبدالناصر، بنبراته الآسرة الساحرة التي تستميل القلوب وتبعث الحماسة وتلهب المشاعر. سر هذه المرأة وتساءل المولعون بمراقبة الظواهر في حياة البشر: ما سر هذه المرأة؟.. ما سر أم كلثوم؟ فريق أجاب بأن سرها في صوتها الذي هو غير عادي في تاريخ الأصوات.. كلام كثير.. كثير قيل في صوت أم كلثوم. موسيقيون، وبحاثة وأدباء وشعراء وسياسيون وغيرهم وغيرهم، تحدثوا عن »صوتها المعجزة«، وصوتها الهبة السماوية وصوتها النعمة الإلهية.. هنا نشير إلي إحدي المهتمات المصريات واسمها »تغريد عنبر« بصوت أم كلثوم، فقالت في رسالة الماجستير التي أعدتها بعنوان »أصوات المد في تجويد القرآن« ونوقشت في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية عام 1965: »إن صوت أم كلثوم من أغني الأصوات في العالم، فهو متنوع الذبذبات، يتميز بشخصية فريدة ومكوناته تسبح في مجال واسع، وذبذباته تتراوح بين مائة وألف ذبذبة.. وأن إجماع كل الأذواق علي عظمة صوت أم كلثوم وسموه يعود إلي غناه بالموجات والنغمات والذبذبات والألوان الصوتية المختلفة والشخصية التي تفرض علي المستمع أن يتابعها. ثروة قومية كان الكل يعتبر صوت أم كلثوم ثروة قومية.. والكل هنا، يعني كل الذين لحنوا لصوتها الأغاني التي أتحفت بها دنيا العرب علي مدي عشرات السنين.. وتشمل كلمة »الكل« أولئك الذين درسوا ذبذبات صوتها وقوته وحجمه.. من هنا كان الأطباء العرب والأجانب يتحاشون الاقتراب من رقبتها إذا احتاجت إلي العلاج. ويذكر الكاتب الكبير مصطفي أمين أنه عندما قرر الأطباء في بريطانيا عام 1949 إجراء جراحة في رقبتها لعلاجها من الغدة الدرقية التي كانت تجعلها تشعر كأنها تجري، وهي جالسة في مكانها، بادر وزير خارجية بريطانيا إلي استدعاء سفير مصر في لندن، عبدالفتاح عمرو باشا إلي مكتبه وقال له: لقد علمت الحكومة البريطانية أن هناك واحدا في المائة أن تفقد أم كلثوم صوتها من جراء هذه العملية الجراحية.. لهذا السبب تدخلت وزارة الخارجية البريطانية وطلبت من الأطباء الإنجليز عدم إجراء الجراحة.. وقد خضع هؤلاء لأمر الوزارة خوفا من أن تقوم قيامة العرب علي بريطانيا. إن هذا الحب من الشعب العربي لأم كلثوم الذي أدركته بريطانيا، كانت كوكب الشرق تدركه وظلت وفية له مدي حياتها.. وقد تجلي ذلك خلال مواقف عديدة منها، وفي إحداها، علي وجه التحديد كما أضاف مصطفي أمين: »عندما عولجت أم كلثوم في الولاياتالمتحدة عام 1953 من مرض أصابها، اقترح عليها أحد كبار موظفي وزارة الخارجية الأمريكية أن تنشد أغنية واحدة لمحطة إذاعة صوت أمريكا.. فرفضت أم كلثوم وقالت: »حين أغني بعد شفائي، سأغني لإذاعة مصر، لا لإذاعة أمريكا.. وأنا مستعدة أن أدفع مصاريف علاجي، لأغني في بلدي أولا.. وقد ظلت أم كلثوم علي وفائها لوطنها حتي أيامها الأخيرة، فقد عرضوا عليها السفر للعلاج في الخارج خلال مرضها الأخير.. إلا أنها رفضت لثقتها في الأطباء المصريين وأصرت علي أن يشرفوا علي علاجها. الميكروفون يتراجع أمامها ومازلنا نبحث عن سر أم كلثوم. وهذه المرة يتحدث الكاتب الصحفي محمود عوض عن أم كلثوم.. فيقول: »إن أم كلثوم حينما تغني، فإنها لاتكون مجرد مطربة تقف أمام ميكروفون فوق مسرح بين جمهور داخل صالة وسط مدينة.. إنها تجعل الميكروفون يتراجع، والمسرح يهتز، والجمهور يقفز، والمدينة تسهر، والبلد يرقص، والفن.. يغني.. إنها تصنع من صوتها وعواطفها ومشاعرها شبكة ضخمة تمسك بهم بمستمعيها - بحيث يصبح كل شيء فيها كالآخر.. كل واحد مندمج في الآخر.. نحن، أنت، هم، هي، هو، كل شيء يفقد شخصيته ويجد معني جديدا وعواطف جديدة لمدة محدودة من الزمن. تعرف كيف تغني لكن الحقيقة أن أم كلثوم لم تكن تغني فحسب، بل كانت إنسانة تعرف كيف تغني، ولم تكن سيدة صالون فحسب، بل تعرف كيف تفرض حضورها في الصالونات، كما تفرض حضورها وراء الميكروفون.. كل شيء عندها كان فعل اختيار ذكي. فرقتها الموسيقية، من المرحوم محمد القصبجي الملحن وعازف العود، إلي محمد عبده صالح عازف القانون، إلي أحمد الحفناوي عازف الكمان.. كانت فرقة منتقاة.. بطانتها من رجال الصحافة والأقلام: التابعي ومصطفي أمين وكامل الشناوي وأنيس منصور.. كانت فئة مختارة.. شلتها من رجال السياسة كانت أيضا شلة مختارة.. جلساء صالونها، من أدباء وظرفاء، كانوا أيضا جلساء منتقين، وليسوا كبقية الناس.. كانت أشبه بعاهلة تعرف كيف تدير مملكتها الفنية، وكيف تفرض هيبتها علي أرجاء هذه المملكة. قد يكون من الجرأة أن نقول بأن صوت أم كلثوم لم يكن هو العرش.. ربما كان صوت فايزة أحمد أجمل.. لكن والكلام هنا للموسيقار محمد عبدالوهاب - »هناك صوت ذكي، وصوت غير ذكي.. تماما كما هناك كتاب يقرأ، وكتاب لايقرأ.. وصوت أم كلثوم ذكي من حيث القدرة المذهلة علي التقاط المعرفة من الناس، فالناس هم مدرسة أم كلثوم وجامعتها، وفي محيطهم تكونت شخصيتها وتبلورت. وأم كلثوم، في كل مراحل حياتها، في حفلاتها الغنائية، كما في أفلامها السينمائية الستة (وداد نشيد الأمل دنانير عايدة سلامة وفاطمة) ظاهرة تستحق الدراسة لما فيها من تحول مستمر. وكان ذكاء أم كلثوم مشعا.. فذكاؤها كان يتركها تعرف كيف تختار مواقعها، ولا تكون فريقا.. وقد حدث ذات يوم من أيام ثورة 1952، أن أصدر قائد الجناح وجيه أباظة - المشرف علي الإذاعة - أمرا بوقف أغاني أم كلثوم، ولما علم الرئيس جمال عبد الناصر بقرار قائد الجناح استدعاه ليسأله: »هل صحيح أنك أوقفت أغاني أم كلثوم؟«.. فأجابه: »أيوه يا فندم..«. سأله جمال عبدالناصر: »لماذا؟«.. فرد وجيه أباظة: »لأنها من العهد البائد«.. فضحك الرئيس عبدالناصر وقال: علي كده.. ما نلغي الأهرامات.. هي كمان من العهد البائد«. وبلغ من مجد أم كلثوم في زمن عبدالناصر أنه ألغي خطبة له مساء يوم خميس لكي لا تتضارب مع حفلة أم كلثوم. وذكاؤها كذلك جعلها في منتصف الأربعينات مطربة الجامعة العربية.. فقد دعا الملك فاروق رؤساء الدول العربية إلي حفلة في قصر »أنشاص« الإسكندرية وجاء إليهم بأم كلثوم، فلم تنشد أغنيات عادية، بل تعاونت مع الشاعر محمد الأسمر ورياض السنباطي علي إعداد أغنيتها المشهورة التي يقول مطلعها: زهر الربيع يري أم سادة نجب وروضة أينعت أم حفلة عجب فإذا طرابيش رؤساء الملوك والوفود العربية تتطاير من فوق الرؤوس. ومهما يكن من أمر، فأم كلثوم هي الصوت الذي اخترق الحواجز بين كل الأقطار العربية.. غنت للقاهرة، كما غنت لبغداد.. وغنت لبغداد، كما غنت للرباط.. وفي الرباط، وكان العام 1969، حيث أحيت حفلتين غنائيتين لدعم المجهود الحربي بعد نكسة 67، وفي إحدي هاتين الحفلتين انطفأ نور الكهرباء، ولأن أم كلثوم كانت تخاف من الظلام، فقد اضطربت وهي علي المسرح، ولكن ما لبثت أن شعرت بيد تمسك يدها لتشيع فيها الاطمئنان، فلما عاد النور من جديد، فوجئت بأنها أمام جلالة الملك الحسن. كانت ملتقي كل الأشواق في دنيا العرب. وكانت مركزا لتصدير الشعارات الوطنية في أرجاء دنيا العرب.. »يا دولة الظلم انمحي وبيدي«. قالتها أم كلثوم فكانت مؤشرا لعدد من حركات التحرر أو التصحيح،، وباقة ريحان علي ضريح أم كلثوم.