فى زمن تتغير فيه القيم بسرعة، ويكاد الإنسان ينسى أبسط معانى العطاء، أجد أن المدرسة هى المكان الأول الذى يمكن أن نزرع فيه بذرة الخير. هناك، بين جدران الفصول وصوت الجرس وضحكات التلاميذ، يمكن أن تنشأ الحكاية.. حكاية طفل أو شاب يتعلم أن جزءًا من حياته لا يكتمل إلا إذا أعطى. أنا أؤمن بأن الخير عادة، والعادات تُكتسب فى الصغر.. لهذا أطلق اليوم مبادرة «فاعل خير» لكل المدارس فى مصر، وأتبناها بكل قلبى.. الفكرة بسيطة وعميقة فى الوقت نفسه: أن نساعد الأطفال والشباب على إطلاق مبادرات خيرية من داخل كل مدرسة، بحيث يتعلمون حرفة أو يصنعون شيئًا بسيطًا، ثم يبيعونه ويذهب العائد لصالح مشروع إنسانى أو لمساعدة محتاج. قد تكون الحرفة صغيرة، مثل أشغال يدوية، أو إعادة تدوير أشياء مهملة، أو حتى إعداد وجبات بسيطة تُباع فى معرض المدرسة.. لكن القيمة ليست فى حجم ما يُقدَّم، بل فى المعنى الذى يبقى فى القلب: أن يدرك الطالب أن بإمكانه أن يكون سببًا فى فرحة إنسان آخر. حين يتربى الطفل على أن الخير ليس تبرعًا ماديًا فقط، إنما جهد ووقت وفكرة، فإنه يحتفظ بجزء أصيل من روحه.. هذا الجزء الذى أخشى أن يضيع وسط زحام الحياة وضغوطها، حين يكبر ويدخل سوق العمل ويلاحق أحلامه.. المبادرة هنا تصبح مثل عقد من الأمان، يربط بين ما نتعلمه صغارًا وما نحتاج أن نتمسك به كبارًا. مصر مليئة بالخير والأصالة والمحبة.. فى كل شارع وقرية ومدينة، ستجد من يمد يده بالعون دون أن ينتظر مقابلًا.. لكن إذا أردنا لهذا النهر أن يظل جاريًا، علينا أن نُغذيه من منبعه: الجيل الجديد.. حين يرى الطفل زملاءه يتكاتفون لصالح شخص لا يعرفونه، أو مشروع يخدم بيئتهم، سيتعلم أن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يملك، بل بما يمنح. أتخيل يومًا تُقام فيه فى كل مدرسة زاوية صغيرة باسم «فاعل خير»، يجتمع فيها الطلاب مرة كل أسبوع للعمل معًا.. ليس نشاطًا هامشيًا أو وقتًا للفراغ، إنما درس حى فى التعاون والإبداع، يُدرَّس كما تُدرَّس العلوم واللغات.. هناك، سيكتشف البعض مواهب لم يعرفوها من قبل: من يجيد الرسم، أو النحت، أو التصوير، أو الطهى.. وهناك، سيولد شعور عميق بالانتماء، لأنهم صنعوا بأيديهم ما سيغير حياة غيرهم. هذه المبادرة ليست حلمًا بعيدًا.. هى خطوة ممكنة إذا اجتمعنا على تنفيذها.. إدارة المدرسة، المدرسون، أولياء الأمور، وحتى المجتمع المحيط بالمدرسة، كلهم شركاء.. وأعدكم بأنى سأكون أول الداعمين، لأنى أؤمن بأن زرع بذرة واحدة فى قلب طفل قد تُثمر شجرة خير تظل تظلل الناس لعشرات السنين. لا أريد لهذه المبادرة أن تكون حدثًا عابرًا، بل ثقافة مستمرة.. فاعل الخير ليس شخصًا واحدًا، بل جيل كامل.. جيل يعرف أن ما يعطيه اليوم سيعود إليه غدًا فى شكل محبة ودفء وسلام.. من المدرسة تبدأ الحكاية ومن أيدينا جميعًا تكتمل الصورة.