لم تكن الحياة بهذه القسوة من قبل. كنا نعيش ونخطئ ونتعلم، نُخطئ فى الخفاء، ونعاتب فى الستر، ونُسامَح دون أن يُفضَح اسمنا على الملأ. اليوم، أصبحت السوشيال ميديا محكمة مفتوحة، يجلس فيها الجميع على كراسى القضاء، والجميع متهم حتى يثبت براءته ولا تُثبت. دخلت السوشيال ميديا حياتنا ببطء، ثم سرقت كل شيء بسرعة. لم تكتفِ بتغيير طريقة تواصلنا، بل تدخلت فى عقولنا، وأفكارنا ومفاهيمنا. جعلتنا نعيش فى مقارنة مستمرة، فى قلق دائم، فى سباق بلا خط نهاية. فجّرت فينا طاقة الغضب، والتجريح، والشماتة، وكأنها طاولة تعذيب ل«جلد» من لا يعجبنا، أو من نختلف معه . ما كان يُقال على استحياء، صار يُعلَن على الملأ. وما كان يُعاتب فى البيت صار يُحاسب عليه آلاف الغرباء. أما الرحمة، فغابت. والستر، لم يعد يُطلب ولا يُمنح. الخطر الحقيقى ليس فيما نراه الآن، لكن فيما نربى عليه أجيالا قادمة . جيل يرى أن الفضيحة بطولة و القسوة شجاعة و الطبيعى ممل. جيل يتلقى دروسه من «ترند» ويفهم الحياة من «هاشتاج». جيل لا يسمع الصوت الحقيقي، بل يصدق الصوت الأعلى، ولو كان فارغًا أو مؤذيًا. نحن نُرَبّى أطفالًا يرون التنمر مادة للضحك، ويظنون أن السخرية أسلوب حياة، وأن من يتعثر لا يُساعد بل يُداس. نزرع بأيدينا بذور جيل فاقد للرحمة، لا يعرف طعم الخطأ ولا قيمة الاعتذار، لأنه لم يتعلّم كيف يخطئ فى أمان. السوشيال ميديا ليست شرًا فى ذاتها، لكنها صارت مرآة مشوهة حين غاب عنها الوعي. والمطلوب الآن ليس أن نغلق هواتفنا لكن أن نفتح عقولنا وقلوبنا، ونُربّى أبناءنا على أن الإنسان ليس «بوست» يكتبه أو يُعلَّق عليه، إنما روح يجب أن تُفهَم وتُحترم وتُراعى. إن لم نُوقف هذه القسوة اليوم ، سندفع جميعًا ثمن جفاف المشاعر، وفوضى القيم غدًا .