فى زيارة أولى إلى بيروت قبل ما يقرب من ثلاثة أعوام خطر زياد الرحبانى على بالى فيما أتمشى فى شارع مقسوم بين طائفتين وانتماءين، صوته أتى مدفوعًا بما عاينته من مصاعب الحياة فى حاضر لبنان، وإبداع اللبنانيين فى تعاملهم مع انقطاع المياه والكهرباء ونقص المواد الغذائية والدواء، عبر إرادة جماعية فى إجبار الأمور على السير والحفاظ على الحد الممكن من طريقة الحياة البيروتية كعاصمة للفن والثقافة والانفتاح فى الشرق الأوسط. فى مكتبة صغيرة بالزاوية تراصت عشرات من الكتب اليسارية والتقدمية والعروبية، نشرات لأحزاب سياسية وأشعار فى الحب والمقاومة، ومجلة بين المجلات المعروضة عليها صورة فتاة بتسريحة شعر ومكياج يدل على جيل السبعينيات.. المرح والانطلاق واللامبالاة المتجسدة هنا فى صدر الفتاة العارى إلى جانب عناوين على الغلاف لا ابتذال فيها، وصاحب المكتبة قال من ضمن تعليقاته على ما نتصفح من كتب: - «زمن فات». فى المكتبة كانت هناك أيضًا صورة لزياد، ولا بد أنى سمعت صوته القوى والمحايد: «طيب إنت محلى.. أنا عم بعرضلك قصتى.. إنت محلى شو بتعمل؟» وهى جملة من برنامج إذاعى قديم له يحكى عن الخراب والدمار وتعطل الأحوال بسبب الحرب الأهلية اللبنانية «الحمدلله.. ما بقى عِنّا شى، لا موسيقى نألفها ولا قصيدة ننظمها ولا موقف ناخده». يمكن وصف زياد بأنه مدخل رائق إلى الحالة اللبنانية التى لا يمكن فهمها بسهولة، ولا يمكن مقاربتها إلا عبر قراءات إيديولوجية، أو انتماءات سياسية، وهذا بسبب طبيعة تجربة تداخلت فيها قوى وثقافات الشرق والغرب، أتى وقت كانت بيروت فيه مركزًا أساسيًا فى صناعة السياسة والفن وإدارة الاقتصاد فى الشرق الأوسط، والاحتمالات فى تلك المجالات وغيرها كانت على الدوام مفتوحة على حدها الأقصى. لكن الرؤية المحصورة ضمن الإيديولوجيا والانتماء حجبت النظر عن ثراء الحالة اللبنانية وهنا ضرورة زياد فهو من خلال عبقريته وقدرته الفائقة على دمج وتطويع المدارس الفنية المتنوعة، بل والمتضاربة أحيانًا، فى نسيج واحد، يمثل توسيعًا لزاوية الرؤية ومدارك المتلقى وهذا النهج التجريبى المتواصل أبعد أعماله عن الوقوع فى خانة التصنيفات، سواء فى معناها السياسى الضيق أو فى مفهوم الفن الأوسع.. لا يقدم زياد للمتلقى حقيقة جاهزة، بل يمنحه قدرة على التحرر من سطوة المصطلحات والمفاهيم الجاهزة، مما يفتح أمامه آفاقًا أوسع لرؤية الأشياء على حقيقتها، دون قيود أو تصنيفات مسبقة. يصعب تصنيف زياد ضمن نمط فنى أو مدرسة بعينها؛ إذ بدا وكأنه يمزج ويتنقل بحرية بين الأوجه المختلفة للعبثية والسريالية والواقعية والتجريدية. لقد استخدم كل ما وجده صالحًا، بلا توقع للنتيجة، تمامًا كصبى الساحر فى قصيدة جوته الشهيرة، ليخلق أسلوبًا متفردًا يرفض الأطر التقليدية. زياد كان يضحكنا بشكل فنى، يرينا كيف أن السياسة ساذجة، وأن المجتمعات مسكينة، ونحن كمستمعين جزء من هذا أو ذاك أو كليهما معًا لكن بتحريضه الفنى نصبح قادرين على السخرية، قانون زياد الأول.. الرقص على إيقاعاته من دون تصنيفها، هو لا يحث ولا يدفع المتلقى إلا لمفارقة التفكير الأحادى، وسواء تعلق تفسير ذلك بحداثة تفارق الشكل أو باستعارة فكرة تعدد السبل من عند المتصوفة، فإننا أمام حالة فنية خاصة تتعدد أساليبها التعبيرية ما يشى بطموح يتجاوز مسألة الفن الوظيفية والسعى لقلب المعادلة ليصبح الفن فيها هو الواقع عبر إعادة تخييله، وربما يمكن تقريب زياد بشكل ما إلى صلاح جاهين، حيث خفة الفن نفسه بلا هزال ثقافى أو معرفى، وسخرية لا تنقلب مجموعة من النكات السمجة، وإيمان تام بمجموعة من القيم والمبادئ من دون أن تطغى فى الفن باعتباره: حوار شخصى بين الفنان ومجتمعه وظروف زمنه. رغم البصمة الفريدة الواضحة لأعمال زياد إلا أنه لا يتواجد بشخصه، يمكن بالطبع معرفة اهتماماته وانحيازاته لكن لحظة تصنيفه تجده يعيد ترتيب الكلمات واللحن والمنطق الفنى ذاته لينأى بمنتَجه من تحويله لشعار وبيان، طريقة خاصة فى ممارسة الفن إما تشدك إليها لإعادة اللعب والتأويل أو ترفضها تمامًا، أو تفضل أحد تصوراته الأخرى فى الأنواع الفنية التى مارسها: مؤلفًا وملحنًا ومخرجًا وكاتبًا مسرحيًا وفنانًا ساخرًا. صاغ زياد مشروعًا فنيًا يتضمن عناصر متناقضة، مزج السياسة والفن فى تعبير يناسب الجميع، سخر من الكل ومن نفسه، ألبس الفن لغة الناس بعد تكثيفها ليكون منها قاموسًا يمكنه التعبير عن وضع خطر، لأنه وكما يحذر: «بين المزح والجد كان صار مجزرة جديدة»! ليس مشروع زياد الفنى محاولة لبناء يوتوبيا أو للفت الانتباه إلى شىء، بل قول ما هو واقعى بأبسط الطرق الممكنة، وبالتوظيف الماهر للأدوات والصيغ الفنية المتعددة، لهذا فنحن فيما نسمعه نطرب ونضحك مع أن معظم ما يتناوله من قضايا الواقع مأساوى، خراب واحتلال واغتيالات وفساد، لكن سخريته القائمة على أن هناك «فى شى مش راكب هون»، لا تتوقف عند الحالات إلا باعتبارها نموذجًا يدل على غياب المنطق بشكل عام، يذكر ببدهيات ويشير إلى نمط تفكير قد يكون الحل الذى لم يتم تجريبه لإيقاف عد الانهيار التنازلى، وبتلك الإمكانية فقد أصبح زياد ومن خلال تعبيره على الحالة اللبنانية، وجهًا فنيًا عربيًا يتواجد فى مستويات متباينة من مجتمعاتها، وإن بقى تأثيره الأكبر على النخبة الثقافية فى كل بلد. أن تدخل عالم زياد معناه أن تتأهب للتعامل مع فنان مشاكس وعنيد ومكتئب ذى مزاج متقلب، تتصارع فى ذهنه الأفكار وتتسابق فى خروجها إلى العلن، لكنه يتحكم فى اندفاعها عالمًا بأن مقدارًا ضئيلًا من الخطأ كاف لإفساد منظومته الفوضوية، لابد أنه تعلم مقادير ومعادلات الفن السرية فى بيت فنى بعظمة بيت فيروز وعاصى الرحبانى، لكنه لم يتأخر فى ابتكار وصفاته ومعادلاته الفنية الخاصة، وبها تمكن من نقل أمه ومعلمته، عبر تجربة مثل «كيفك إنت»، من صورتها النمطية كمطربة كلاسيكية إلى زمنها المعاصر، وهو فى ذلك لم يكن راغبًا فى التعبير عن طبيعة مرحلته، بقدر ما مارس مفهومًا رحبًا للفن يتيح له دمج أنماط موسيقية غربية مع شرقية، الترومبيت والكمان يتآلفا مع العود والقانون ومعهما فيروز تتحرك من خانة «زهرة المدائن» و«يا حبيبى كلما هب الهوى» إلى «شو بدّى بالبلاد الله يخلّى الولاد»، وينقل زياد بذلك السؤال حول الفن ومعناه من النقاش المتخصص إلى الشارع، وإلى جيلين، قديم مندهش من مطربته الأيقونية يراها تغامر بمكانتها الأسطورية، وجيل حديث يطربه أن يسمع رؤية فنية جريئة تعيد تعريف الفن والواقع على حد سواء.