نوال سيد عبدالله - محمد رمضان من القاهرة.. هنا غزة، هذا القطاع العائم على جروح عميقة وآبار من الخوف، أرض تتفجر منها براكين الجوع، وصورة عامة غير قابلة للتجميل، مشاهد موجعة تعجز ألسنة العرب والعجائم عن وصفها أو إنكارها، فى غزة ربما أصبح الموت أرحم من آلام التجويع، أطفال الرصاص أمامهم والحرمان خلفهم. فى هذه البقعة الصغيرة، ضاقت الأرض بما رحبت على ما يفوق المليونى إنسان، وفقد أهلها الغذاء والماء، وبماذا يفيد المال إذا سقط الرجال أمام «قهر اللقمة» ومشاهد أكل الأطفال الرمال لدفن الجوع.. من شمال القطاع إلى رفح جنوبًا يطارد بكاء الأطفال البشرية بصراخ «جوعانين». هنا فى القطاع عقارب الساعة «جائعة».. لا تعمل أو مضربة عن الحركة.. أصعب أيام التاريخ سجلتها البشرية منذ السابع من أكتوبر.. رصاص لا يتوقف، أنهار من دماء الأبرياء، مدن ممسوحة من الخريطة، آلاف من مبتورى الأطراف، وطابور من مجرمى الحرب خلف «هتلر العصر» بنيامين نتنياهو. خلف بوابات القطاع المغلقة بمجنزرات الدبابات، بلغت القلوب الحناجر وتواصلت صرخات الغزيين فى شهادات قدموها ل«الأخبار» عن ثلاثية القهر والتجويع والعنت. سبقها روايات مأساوية فاضت بها أحبار الصحافة العالمية، وغرقت فى دمائها نشرات الأخبار والبرامج التليفزيونية، وحين اقتربت الكاميرات عادت بلقطات لأطفال جائعين بعضهم برزت عظامهم من شدة الجوع وقلة الطعام. سيمر ليل غزة والمؤكد أن نهارها سيطلع قريبًا، لكن التاريخ لن ينسى جرائم نتنياهو وحكومته المتطرفة، وحتى حلول هذا الفجر تتواصل المناشدات الأممية والإقليمية بسرعة إغلاق معسكرات التجويع الإسرائيلية وشطب بند التهجير من مخططات تل أبيب. اقرأ أيضًا | 3 شهداء إثر قصف للاحتلال على حي الدرج شرق مدينة غزة المتحدث باسم الدفاع المدنى: غزة تموت جوعا وجه شاحب يغزوه الإصفرار، ولسان لا تقوى عضلاته على الحركة، ويدان ترتعشان بأعصاب واهية... مشهد يلخص حال محمود بصل المتحدث باسم الدفاع المدنى فى غزة، الذى دخل فى إضراب عن الطعام لأيام متتالية رفضًا لسياسة التجويع التى يفرضها الاحتلال على أبناء القطاع. «بصل» تحدث ل«الأخبار» فى أشد أيام غزة تجويعًا بقوله: «ما زلت أحمل فى جسدى الهزيل وجع شعبٍ محاصر، أحمل فى صوتى الباهت صرخة أمٍ فقدت طفلها جوعًا، وفى نظراتى المتعبة سؤال موجه لكل ضمير حي: هل باتت أرواحنا أرخص من صمتكم؟». دخل الرجل فى إضراب مفتوح لكنه لم يُضرب عن مهامه وفى مقدمتها ملاحقة عدوان الاحتلال فى كل بقاع القطاع، ثم يمضى فى حديثه: «ما زلت أقاوم الجوع، لأصرخ بوجعهم فى وجه العالم الأعمى والأصم، وإذا كان الجوع سلاحًا يُستخدم ضد غزة، فدعونى أجعل من جسدى سلاحًا مضادًا، يعرّى هذا العالم من إنسانيته الزائفة.. إضرابى ليس بطولة بل أضعف الإيمان أمام جريمة تجويع شعب بأكمله». حال المتحدث باسم الدفاع المدنى فى القطاع هو حال كل الغزيين وربما تلخصه نظراته المنهكة وعظام وجهه البارزة من انعدام الطعام ومع ذلك يلتقط الأنفاس ليستكمل كلماته: «أشعر بتعبٍ شديدٍ عند أبسط مجهود... حتى الوقوف أمام الكاميرا بات يحتاج منى إرادة بحجم السماء، فكيف حال من يبحثون بين الركام طيلة اليوم بحثًا عن فتات الطعام، أو قطرة ماء، أو طفلٍ مفقود؟». محمود بصل وغيره ممن ينقلون مجازر الاحتلال فى غزة إلى العالم لم يفقدوا الأمل لكن أملهم الآن هو إسماع العالم صوت آلاف الأطفال «لا لسياسة التجويع.. لن نتوقف عن نصرة المجوعين.. سأبقى مضربًا حتى تتوقف سياسة التجويع، وينتهى استخدام المساعدات الإنسانية وسيلةً لإذلال المواطنين، بدلًا من أن تكون حقًا لكل إنسان». نداء من قلب المدينة التى يموت أطفالها جوعًا.. «أنا محمود بصل، أُحدثكم من أرض يُجوَّع فيها الأطفال عمدًا، وتمنع عنها المساعدات بقسوة، ويُستخدم الجوع سلاحًا لقتل الأبرياء وإذلالهم.. من وسط جثث الأطفال الذين ماتوا جوعًا، أُطلق دعوتى إلى ثورة إنسانية عالمية، ثورة لا ترفع السلاح... بل ترفع الصوت.. أدعو كل إنسانٍ حر على هذه الأرض.. كل عالِم، مثقف، مغنٍ على المسرح، كل ناشط على وسائل التواصل، كل ممثل، فنان، شاعر، عامل، لاجئ، موظف، تلميذ، كل مسلم، كل مسيحي... كل من بقى فى قلبه نبض... أن يتحرك». كلمات بكل اللغات تتوسل إلى البشرية بألا تجعل من شهداء غزة مجرد رقم: «أقول للعالم: كفى صمتًا. كفى تجويعًا. كفى خنوعًا. آن الأوان أن تقولوا كلمتكم. آن الأوان أن يُسمع صوت غزة فى كل برلمان، وفى كل شارع، وفى كل مهرجان.. لا تقولوا: لم نكن نعلم.. ها أنا أُضرب عن الطعام، ليكون جسدى صرخة لا تُسكَت.. الثورة التى أدعو إليها، هى ثورة ضمير: ثورةُ إنسان يرى أخاه يتلوّى من الجوع... ولا يصمت. ثورة لا تؤمن بالحدود، ولا بلون البشرة، ولا بالدين، بل تؤمن بأن من يُجَوع ظلمًا، يجب أن يُنقَذ». «هنادي» استشارية نفسية: المعلمون يعانون من الهزال هنادى سكيك، استشارى الصحة النفسية والدعم النفسى الاجتماعي، واحدة ممن حاولن التخفيف من آثار الحرب على الأطفال مبتورى الأطفال منذ اندلاع الحرب فى 2023 من خلال مؤسسة إنسانية، وتحديدًا فى مستشفيات الشفاء والمعمدانى والخدمة العامة، وحاليًا أعمل فى مدرسة خاصة لطلاب فى عمر فترة المراهقة. تروى سكيك: «مررنا بفترة صعبة جدًا من التكيف النفسى والمجتمعى ما بين الأطفال والأهالى فيما يخص بكيفية تجاوز الطفل مبتور الطرف لمراحله فى التعليم أو الشفاء، لكن ظلت المشكلة الأكبر فى مشوارنا مع هؤلاء الصغار هو افتقادنا لقوت يومنا من طحين (دقيق) ورغيف الخبز، وللأمور الحياتية التى تمكن أى إنسان من الاستمرار فى حياته». مواقف لا تزال عالقة فى ذهن الاستشارية هنادى وهى تقدم دعمًا نفسيًا للأطفال أو الطلاب.. «فجأة أجد الطفل يبكي.. والله أحيانًا طالب قرابة 14 عامًا ثم يبكى فجأة من الجوع.. ثلاثة أيام لم آكل شيئًا.. أو طفل آخر يجلس فى طرف المدرسة ينتظر والده يحضر له (ساندوتش) يأكله.. رغيف خبز عليه شوية زعتر لكنه يجرى عليه ملهوفًا». وفى خضم إدراك استشاريى الدعم النفسى أن قطعة شيكولاتة واحدة أو تمرة ربما تكفى لرفع معنويات أى طفل، تجد سكيك صعوبة فى ذلك فنكتفى بالكلام والإيماءات والطبطبة لعل وعسى.. حاولت تخصيص يومين للتفريغ النفسى للطلاب لكننى لم أجد تفاعلا منهم لافتقاد أدوات التعزيز بل يتغيبون.. حتى المعلمين باتوا يعانون من الهزال فى ظل انتشار الجوع وهكذا تظل الأمور قائمة يوميًا». مراسل «القاهرة الإخبارية» : أخشى على أطفالى من جنون الاحتلال يوسف أبو كويك مراسل قناة القاهرة الإخبارية فى قطاع غزة، صوت آخر لمئات الصحفيين والمراسلين ممن تلاحقهم رصاصات الجوع، يروى مأساة يومية متكررة: «بتنا نؤخر تناولنا للطعام.. لا نستطيع أن نوفر ثلاث وجبات بل هى وجبة واحدة تكون تقريبًا بعد الرابعة عصرًا حتى يستطيع الأطفال المبيت». قبل النوم يشكو الأطفال الجوع هم يطلبون كسرة خبز فقط وبالكاد نستطيع أن نوفرها.. أحيانًا ليس لقلة المال فنحن كإعلاميين لدينا رواتب لكن الأزمة فى عدم وفرة الاحتياجات الرئيسية فى الأسواق، وأيضًا هناك معضلة أساسية وهى أننا لا نستطيع توفير رواتبنا بسهولة فالبنوك لا تعمل فى قطاع غزة والقطاع المصرفى معطل منذ بدء الحرب ولا توجد سيولة نقدية وهناك من يتحكم فى تلك السيولة فى الأساس فحتى نحصل على رواتبنا يقتطع هؤلاء المتنفذون من أموالنا قرابة 50% أى أن نصف الراتب يذهب إلى ما يمكن تسميتهم بأمراء الحرب.. هى أزمة مركبة ما بين الحصار الإسرائيلى وجشع التجار واللصوص الذين يعترضون قوافل المساعدات وهم يعملون بتوجيه من الجانب الإسرائيلي.. صحفيون- من بينهم أبو كيك- يعيشون حالهم كحال أبناء القطاع فهى أسوأ ظروف ومجاعة يعيشها الغزيون منذ بدء العدوان الإسرائيلى قبل 22 شهرًا وبالكاد يستطيعون توفير وجبة واحدة فى اليوم.. فمراسل «القاهرة الإخبارية» مسؤول عن أسرة بها أربعة أطفال يجد صعوبة فى إطعامهم لقلة الخضار فى القطاع لأن جيش الاحتلال يسيطر على السلة الغذائية للغزيين وهى منطقة شمال القطاع والمناطق الشرقية من خان يونس والمنطقة الشمالية الشرقية من رفح وما يتوفر فى الأسواق فقط هى بعض المساعدات التى يذهب الشبان إلى مراكز المساعدات الأمريكية ويواجهون الموت للحصول عليها ثم يبيعونها فى الأسواق بأسعار باهظة جدًا. لدى الأب يوسف طفلة ثلاثة أعوام وهى سن يحتاج إلى بروتينات كأى صغير فى عمرها لكنها لم تتناول منذ خمسة أشهر أى فواكه ولا اللحوم سواء البيضاء أو الحمراء لأن الاحتلال لا يسمح بدخولها، وهذه الحال تنسحب بظروف أصعب على الأسر البسيطة فى القطاع التى تستطيع اقتناء كل احتياجاتها من الأسواق لذلك اعتماد آلاف الأسر اليوم على المطابخ المجتمعية «التكية» لكنها أيضًا أغلقت لأن الاحتلال لا يسمح بتوريد الاحتياجات اللازمة لبرنامج الغذاء العالمى أو المطبخ العالمي.. الحديث عن 15 فى المئة من أطفال غزة يعانون سوءًا حادًا من التغذية. أنا كإعلامى أذهب للعمل قرابة السابعة صباحًا وأعود بعد 12 ساعة وللأسف معظم المطاعم الشعبية أغلقت ولم تعد مفتوحة لأشترى منها طعامًا، هذا يجعلنى فاقدا للتركيز أمام الكاميرا من دون قليل من السكر.. سعر الكيلو من السكر تجاوز 150 دولارًا أمريكيًا، هذا أكثر من الجنون. أنا شخصيًا فقدت 15 كيلوجرامًا من وزنى وهذا يؤثر فى قدراتنا على الكتابة والأسوأ حال الخوف المستمرة ما بين أطفالى وأسرتى وعلى نفسى لأن أسرتى تحتاجنى وأنا يوميًا لا يتوقف القصف بجواري.. صحيح هناك صمود أسطورى للشعب الفلسطينى فى غزة لكنه أرغم عليه. الخوف هو السمة السائدة فما من مكان آمن فالبيوت مستهدفة والشوارع مستهدفة والأسواق عرضة للقصف حتى المستشفيات والمساجد تتعرض للقصف فبعد 100 ألف شهيد ومفقود و170 ألف مصاب على المجتمع الدولى أن يتحرك وأكثر من 75% من المبانى لم تعد صالحة للسكن بعد مسح 3 محافظات بشكل كامل. الأطفال يأكلون الرمال وقلوب الأمهات تعتصر تحت القصف |أجساد هزيلة وعظام بارزة وصراخ يشق صمت العالم الطبيب «أبو تامر»: نصف أهلى شهداء «أنا كنت شغال طبيب فى الإمارات بداية من عام 2018، وبعد خمس سنوات أى فى عام 2023 قررت أرجع غزة، اشتريت شقة وسيارة، وقلت أبدأ حياة جديدة فى بلدي... وبعد شهرين فقط، خسرت كل شيء».. كلمات بطعم المرارة يرويها أحمد أبو تامر، شاب فلسطينى فى الثلاثينات من عمره، لتلخص مأساة العدوان الإسرائيلى على القطاع فى دقائق. أحمد، الذى يعمل أخصائى عمليات جراحية، يواصل حديثه من خيمة فى أحد المخيمات وسط القطاع، قائلاً: «البيت راح أول يوم فى القصف، 14 أكتوبر. مات أولاد خالى وأقاربي. طلعنا من تحت الأنقاض أكثر من مرة المال يتعوض، لكن التعب والخوف والنفسية المدمرة... لا». ورغم معاناته، لا يحمل أحمد عداءً لأحد، بل يناجى الله بأن «يفرجها... حسبى الله ونعم الوكيل فى كل الأحزاب والحركات... إحنا كشعب بدنا نعيش بكرامة، ناكل ونصلى ونعيش بسلام، مش نخاف كل سنة من حرب جديدة». فى حديثه لنا، لم تغب مشاهد الدمار الإنسانى عن الطبيب الغزاوى الذى يمضى فى حسرته بقوله: «عمرى ما مديت إيدى لحرام.. لكن اليوم بفكر كيف أجيب كيلو طحين لأولادي، ما فى ولا شيكل. والله العظيم قربت أروح (اشحت)، لكن كرامتى توجعني». قبل الحرب بأيام قليلة، كان أحمد أبو تامر، الطبيب العائد من الإمارات، يتهيأ للعودة إلى عمله خارج القطاع.. «كان ميعاد سفرى 16 أكتوبر، لكن الحرب سبقتنى ب8 أيام، وفى 14 أكتوبر تم قصف الشقة... راح شقى العمر، راحت السيارة، راحت الذكريات». لم يخسر أحمد بيته فحسب، بل خسر أفرادًا من عائلته دفعة واحدة يقول بصوت مثقل بالحزن: «نص أهلى شهداء، كثير من أولاد خالى وأولاد أعمامى استشهدوا. وإحنا طلعنا من تحت الأنقاض كذا مرة. حالة مأساوية والله». اليوم، لم يتبق لأحمد سوى خيمة مهترئة تؤويه مع 11 فردًا من أسرته، بينهم والده ووالدته، وزوجته وأولاده الأربعة، وأخ مريض بالسرطان، وأخت، وطفلة يتيمة يتكفل برعايتها.؟. «كنت من الناس الأغنياء قبل الحرب، واليوم عندى ديون والتزامات، وبقعد أفكر كل يوم كيف أوفر لقمة لولادي». ورغم الانهيار النفسي، لا يحمل إلا كلمات دعاء وأمل: «نفسيتنا متدمرة، وتعبنا، ومش عارفين نلوم على مين. كل اللى بدناه نعيش بكرامة، نصلي، نصوم، نعيش من غير خوف، من غير قصف، من غير حرب كل سنة سنتين حرب لحد الآن طحنت فينا الأخضر واليابس» وسط الركام، لا يرى أحمد نفسه فردًا نجا فحسب، بل شاهدًا على مآسى لا تحصى «ناس كتير حولى فقدت أهلها... أو نص أهلها». ويروى أحمد عن أحد أقاربه: «زوج أخت مراتى وعيلته بالكامل تم محوها من السجل المدني، مش بس ماتوا، كأنهم ما كانوا. أخوه التانى بنته بقيت تحت الركام أيام لحد ما عرفوا يطلعوها، وربنا نجاها الحمد لله». أحمد الذى عاش القصف والخسارة من كل اتجاه، لا يخفى سخريته الممزوجة بالمرارة من ما يسمى ب«مؤسسة غزة الإنسانية»، قائلا: «هذه مصيدة موت، وليست مؤسسة روحت هناك حوالى 10 مرات، مرتين بس قدرت أجيب شوية حاجات لأولادى وأهلي... لكنها لا تكفي، ولا تسد جوع طفل». «هناك مذلة وخوف ورصاص فوق دماغك، كل خطوة محسوبة. الأطفال بيدوروا فى الشوارع والزبالة على هدوم أو حتى صندل يلبسوه» -وفق الطبيب أبو تامر- والذى مضى فى حديثه: «اليوم يقولون فى مساعدات فى نتساريم، ناوى أروح... لكن لا أعرف إذ كنت سأعود سليمًا أم لا من الرصاص وقنابل الغاز والفلفل التى بيرموها علينا» وفى خضم المعاناة اليومية، لا يشكل الطعام وحده معضلة لعائلات غزة، فحتى المياه النظيفة باتت حلمًا بعيد المنال.. «بندور على نقطة مياه نشربها، ولا نلاقي. أحيانًا نضطر نستخدم الميه المالحة، مية البحر» ويقول أحمد بأسى إن كثيرًا من العائلات تلجأ إلى غلى مياه غير صالحة للشرب فى محاولة لتطهيرها، رغم إدراكهم أنها قد تسبب أمراضًا، لكنها «أفضل من الموت عطشًا»؟ ولأن انقطاع الغاز والكهرباء صار واقعًا دائمًا، أصبح الخشب بديلًا للطهو، لكنه بدوره صار عبئًا جديدًا على العائلات المنكوبة: «الخشب نفسه أصبح غاليًا. الناس تشتريه بالكيلو علشان تطبخ، وأحيانًا ما فيش لا خشب ولا نار». وفى مشهد عبثي، يتحدث أحمد عن أطفال يركضون خلف بقايا أخشاب أو قطع أثاث مكسرة ليحرقوها من أجل غلى الماء أو طبخ أى شيء يسكت الجوع: «نشترى خشب ونطهو برا، وسط الريح والغبار، وكأننا فى العصر الحجري. بس ده واقعنا، وده حال أهل غزة اليوم». «منى» كادر بمستشفى المعمدانى: نعمل دون طعام ولا شربة ماء «منى» واحدة ممن يحملن أكفانهن على أكتافهن يوميًا فى ظل تمسكها برسالتها كإدارية فى الخدمات الطبية بمستشفى الأهلى العربى أو المستشفى المعمدانى الواقع فى حى الزيتون بمدينة غزة، ومع ذلك يمكن لصوتها المنهك تلخيص حال القطاع الطبى المدمر كلية فى القطاع.. من شدة الجوع تهرب الكلمات من منى لكنها تهدئ نفسها وتستجمع قواها مرة أخرى: «الوضع فى مستشفيات القطاع يرثى له صراحة، فلا أى إمكانيات لإسعاف الجرحى فى ظل أعداد مهولة تصل إلى مستشفى المعمدانى يقابلها أجهزة طبية لا تعمل وغياب شبه كامل للأدوية ونقص فى الطواقم الطبية.. لا شاش ولا محاليل وحتى الأسرة لا يتسع عددها للجرحى.. للأسف منهم من يظل ملقى على الأرض وينزف حتى الموت». ما تراه هذه السيدة فى المستشفى هو مشهد كارثى يومى متكرر أمامها ثم أتت المجاعة لتفاقم أحوال أبناء الشعب الفلسطيني.. «نحن ككوادر طبية نظل طوال فترة العمل من دون طعام ولا شربة ماء لكن فى وقت من الأوقات لا نستطيع الوقوف على أقدامنا لتقديم المساعدة والإسعافات للجرحى». مشاهد الشهداء والجرحى صعبة للغاية ممن يصلون إلى المستشفى ما بين أشلاء ومقطوعى الرؤوس حتى الأطفال مناظرهم مؤلمة جدًا.. «فى وقت من الأوقات استشهد بين يدى طفل كان مبتور اليدين وإحدى قدميه أيضًا.. هذه المشاهد كانت ولا تزال مرعبة ومتعبة لنا». وما إن تنتهى فترات العمل تكون كافة الكوادر الطبية من أطباء وممرضين وإداريين قد استنزفت طاقاتهم ولا يستطيعون الوقوف فالجميع فى أمس الحاجة إلى غذاء للطاقة.. «نذهب إلى بيوتنا المدمرة بعد أن نصبنا عليها خيامًا.. نحاول إياهم أطفالنا بإعداد طعام.. الجميع يعانى من سوء تغذية.. لكن كل ذلك ربما يهون أمام تفكيرنا المتواصل ومحاولة البحث عن إجابة لسؤال: متى ستنتهى هذه الحرب؟.. أنا كأم أتعذب يوميًا أمام أطفالى الجوعى وأبناء شهداء أتولى رعايتهم». «ديما» ممرضة البريج: لنا الله... ومصر فى وسط هذه الصورة القاتمة، تلقى «ديما» وهى ممرضة من مخيم البريج، بكلمات سريعة وهى تحاول إنقاذ ما تبقى من الأرواح فى مستشفى مكتظ بالجرحى والشهداء: «اليوم كانت مجزرة فى نتساريم، 50 شهيدًا و100 إصابة. أقسم بالله المساعدات الأمريكية فخ للموت. الطحين غالى جدًا، أنا وجوزى صار لنا شهر ما أكلنا خبز، حتى لو لقينا أكل، ما فى فلوس نشتري». «ديما»، أم لطفلة، تتحدث بحرقة عن غياب موقف دولى موحد، مضيفة: «ولا دولة وقفت معنا غير مصر. إحنا بنتمنى من حكومتكم الله يوفقها وتقدر توقف المجازر. إحنا بنموت من الجوع والدمار فى وقت واحد». رغم القصف ونقص الموارد، تواصل ديما عملها كممرضة فى أحد مستشفيات غزة، تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط طوفان من الجرحى والشهداء وبينما كانت فى ورديتها المعتادة، تفاجأت بزوجها يدخل عليها، لكن ليس زائرًا، بل مصابًا. «كان رايح يجيب شوية مساعدات من مؤسسة غزة الإنسانية، اللى بتشرف عليها أمريكا وإسرائيل»، تقول ديما بمرارة، «وفجأة لقيته قدامى فى المستشفى... مصاب بإيده ورجله، وجايب شنطة فيها كم شغلة (مساعدات) بسيطة». تدرك ديما أن حتى محاولات النجاة أصبحت محفوفة بالموت، وأن المؤسسات التى يفترض أن توفر المساعدة تحولت إلى فخاخ للدمار، حيث صار الجوع والرصاص يتسابقان لقتل الفلسطينيين العزل. أما «شهيرة» فهى سيدة مطلقة فى خان يونس وهى أم لثلاثة أبناء (بنتين وولد)، تروى مأساتها فى ظل ظروف الحرب والحياة والجوع، حيث تقيم رفقة أبويها فى وضع أصعب ما يكون. تمضى السيدة الفلسطينية فى حديثها: «لا دخل ولا معيل ولا أحد يصرف، حتى أبى وأمى كبار فى السن، كنا نعتمد على 100 دولار من الإعانات الأممية لكن كل ذلك توقف حاليًا.. توقف الشغل تماما.. النزوح دائم ولا يتوقف من مكان لمكان وهذا يحتاج أموال فى وقت لا يوجد عائد مادى من الأساس».