في الزمن الذي تتسارع فيه وتيرة التحوّلات، وتتداخل الخيوط بين الخيال العلمي والواقع، يقف الذكاء الاصطناعي ككيانٍ حديث الولادة، لكنه نافذ النظرات، وواسع التأثير، كطفل عبقري لم يبلغ رشدَه بعد، لكنه يعرف تمامًا كيف يدهشنا، ويُرينا العالم من زاوية لم نعتدها. الذكاء الاصطناعي ليس فقط تقنية أو خوارزمية أو برمجيات متقدمة، بل هو سؤال مفتوح على الاحتمالات: من نحن؟ وما الذي نريده من أنفسنا؟ وهل نُحسن استخدام أدواتنا أم نسلمها مفاتيح قرارنا على طبق من داتا؟ من جهة، يبدو الذكاء الاصطناعي كصانعٍ بارع للفرص، يعيد تشكيل مسارات العمل والتعليم والصحة والاقتصاد، ويمدّ يده للإنسان في إنقاذ الأرواح، وتشخيص الأمراض، وتحليل البيانات المعقدة، بل ويكتب، ويرسم، ويلحّن، ويخاطب الوجدان بكلمات مصنوعة من أصفار وآحاد. هو مساعد لا يكلّ، وعقل متقد لا يعرف النوم، يُسخّر علمه في خدمة البشرية، ويمنح الأفراد والأمم أدوات التفوق إذا ما أحسنوا استخدامه. لكنّ السؤال الذي يُقلق النُخب الفكرية ليس في قدرته على الأداء، بل في عدالته... في حياديته... في ضميره غير الموجود. وهنا ينقلب الوجه الثاني للعملة، ليطل الذكاء الاصطناعي بملامح أكثر تعقيدًا، كحارس صامت لتحيّزات دفينة، بعضها نعلمه وبعضها يستتر خلف الكود. فالآلة لا تولد منحازة، لكنها تتربى على بياناتنا نحن، تنهل من ماضينا اللغوي، الاجتماعي، الثقافي، فتتشكل بها رؤيتها للعالم. ما يُغذّى لها من اللغة الموجهة، والصور النمطية، والتجارب البشرية المشوبة، يصير جزءًا من شخصيتها البرمجية. وحين تُستخدم هذه النماذج في اتخاذ قرارات تمسّ مصائر البشر، تصبح الأخطاء أكثر من مجرد خلل تقني، بل تتحول إلى ظلم مؤسسي لا نعرف له وجهًا. لقد رأينا كيف فشلت بعض نماذج الذكاء الاصطناعي في التعرف على وجوه من ذوي البشرة السمراء، أو كيف ميزت ضد النساء في اختيارات التوظيف، أو كيف كرّست فجوات في السرد التاريخي عبر تقديم صورة مشوّهة لبعض الشعوب والثقافات. في هذه اللحظات، لم تكن الآلة منحازة بقدر ما كانت مرآة لانحيازنا نحن. إنّها تحرس ما قد نريد نسيانه من ماضينا، وتُعيد تدويره بثوب تقني. ومع كل هذا، لا يمكن أن نحمّل التقنية ذنب فشلنا الأخلاقي، بل علينا أن نعيد التفكير في منظومة القيم التي ننقشها في قلب الذكاء الاصطناعي. نحن لا نحتاج فقط إلى مهندسين يكتبون الكود، بل إلى فلاسفة وأدباء وأخلاقيين ومفكرين يكتبون البوصلة. نحتاج إلى مَن يربّي الذكاء الاصطناعي كما نُربي أولادنا: بالوعي، بالمسؤولية، بالحب، وبالشك. هل الذكاء الاصطناعي هو المخلّص أم المتهم؟ الحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك، بل هو التجسيد الأذكى لخياراتنا نحن. هو انعكاس لما نمنحه من معرفة، ومن رؤية، ومن ضمير. فإن كنا نريده حليفًا للعدالة، فلنمنحه ذاكرة نظيفة من التعصب، وعينًا لا تزيغ عن الحق. وإن كنا نخشاه، فلنحذر من تركه بلا أسوار أخلاقية، لأن ذكاءً بلا قلب، قد يبرع في الحساب لكنه يفشل في الرحمة. الذكاء الاصطناعي، في نهاية المطاف، هو سؤال مفتوح لا يُجاب عليه بمقال واحد، بل بحوار عالمي لا يتوقف، تشارك فيه العقول من كل ثقافة، وكل هوية، وكل طبقة اجتماعية. إنه أشبه بمرآة، لكن المرآة لا تكذب، نحن من نختار كيف نبدو فيها. فهل نريد أن نظهر فيها كصُنّاع للفرص، أم كأسرى لتحيزاتنا القديمة؟ ربما يكون الذكاء الاصطناعي أعظم اختبارات الإنسانية في العصر الحديث، لا لقوّته التقنية، بل لقدرته على تعرية منظومتنا الأخلاقية. إنه يطرح علينا السؤال الأكثر جرأة: إذا استطعنا أن نخلق آلة تفكر، فهل نستطيع أن نخلق معها عدالة لا تنحاز؟