«إذن مالى وحبك؟.. إنما يبكى على الحب النساء». منذ أن كتبت ذلك المقال عن قريبى المظلوم الذى فقد عمله ومصدر رزقه بسبب رئيس عمل مغرور متعجرف لا يرقب فى موظفيه إلًا ولا ذمة، لم ينقطع تليفونى ولا بريدى الإليكترونى عن تلقى حواديت وقصص أشكال وألوان من الظلم الذى يتعرض له كثير من القراء الأعزاء، سواء هم أنفسهم أو كانوا شهودًا عليها عندما مر بها أصدقاء وأقارب ومعارف لهم. لو أردت أن أسرد القصص التى وردتنى فلن تكفينى تلك المساحة ولا حتى كل مساحة المقالات فى الجريدة كلها وربما ولا فى الصحافة الورقية، المحلى منها والعالمى. حتى عندما حاولت انتقى قصة أو اثنتين لعرضهما كأمثلة من قصص الظلم تلك، فشلت فشلًا ذريعًا فكلها وبدون مبالغة تصلح للعرض وكلها سوف تثير عند القراء الأعزاء مزيدًا من الأوجاع والآلام التى لن تؤدى مع الأسف لرفع الظلم عن أصحابها، بقدر ما تثير لديهم من آلام نفسية رهيبة. شعرت لوهلة بالندم لأنى فتحت الإيميل وقرأت تفاصيل الرسائل فربما لو لم أقرأها وأعرف ما فيها لما زادت مشاعر المرارة والإحباط التى أمر بها مؤخرًا، فكثير من الأحيان تكون المعرفة شقاء والجهل نعمة خاصة لو لم يكن لديك ما تملكه لرفع الظلم عن إنسان لجأ إليك، سوى كلمات تعزية ودعم نفسى لا يسمن ولا يغنى من جوع. أسوأ ما فى قصص الظلم التى وردتنى عدد ليس بالقليل تعرض فيها أصحابها لظلم بين من رؤسائهم فى العمل لا لشيء سوى لأنهم من أصحاب الدم الثقيل على قلوب رؤسائهم. نعم فهم لم يرتكبوا مثلًا أخطاء فى العمل تستوجب العقاب الذى ربما يزيد فيتحول إلى ظلم كبير ولكن فقط هم ليسوا على هوى صاحب العمل أو رئيس الشركة مثلًا وهذه هى جريمتهم العظمى، لم يتجن المظلوم على الظالم ولم يرتكب فى حقه جريمة شنعاء مثلًا لكن جريمته الكبرى أن المدير لا يحبه. تخيلوا أن سيدنا عمر الفاروق عندما كان يلتقى بقاتل أخيه كان فقط يقول له: أنا لا أحبك وإن استطعت ألا تجعلنى أرى وجهك أو ألتقيك وجهًا لوجه فافعل فسأله الرجل وهل هذا يحملك على أن تظلمنى يا أمير المؤمنين؟ رد الخليفة قائلًا: لا.. فقال الرجل قولته الشهيرة التى سجلها التاريخ: «إذن مالى وحبك؟.. إنما يبكى على الحب النساء». هذا الرجل كان يدعى أبو مريم الحنفى وكان من أصحاب مسيلمة الكذاب وقتل زيد بن الخطاب فى معركة اليمامة أشهر معارك المسلمين ضد المرتدين، ثم أسلم وحسن إسلامه وكل ما فعله عمر أن طلب منه ألا يريه وجهه وكلما لقيه قال له: اصرف وجهك بعيدًا عنى، ليس هذا فقط بل أزيدك من الشعر بيتًا لم يمنع شعور عمر نحو الرجل أن يولّيه قضاء البصرة بعد عمران بن حصين. طبعًا لست هنا بالواعظ الدينى الذى يلقى خطبة عن العدل مهما كانت مشاعرنا تجاه الناس فلست مؤهلًا لذلك ولكنى إن شئت الدقة أردت فقط أن أذكر نفسى وهؤلاء الذين يستسهلون ظلم الناس أن الظلم محرم حتى لو لم يكن الطرف الآخر من نفس دينك وملتك والإسلام العظيم مليء بالقصص التى تؤكد ذلك. وكلنا نعرف قصة القبطى الذى اشتكى للخليفة العادل عمر بن الخطاب من بطش ابن عمرو بن العاص وكيف استدعى الخليفة عمرو وابنه وطلب من القبطى أن يقتص لابنه منهما. حكى لى مرة أحد المقربين من الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر أن جاءته فى قريته بالقرنة غرب الأقصر سيدة مسيحية تشكو ظلمًا تتعرض له فى العمل من رئيسها بدون أى سبب حيث مشهود لها بالكفاءة وإخلاصها فى العمل وهذا كل المطلوب منها تجاه العمل وزملاء العمل رؤساء ومرءوسين فما كان من الشيخ الطيب إلا أن طلب منها رقم موبايل رئيسها الذى يظلمها واتصل به بنفسه والرجل غير مصدق أن من يحدثه شيخ الأزهر الذى نهاه عن الظلم شارحًا له كيف أن ديننا الحنيف هو دين العدل والرحمة ليس فقط مع الناس بل حتى مع الحيوانات والجمادات وكل الكائنات وهو ما تقره كل الشرائع السماوية. لذا عندما تسد فى وجهك أبواب الأرض وتدق حلق أبواب السماء التى لا تسد فى وجه أحد وتدعو دعوة المظلوم، فلن يهزمك أحد مهما كانت قوته وجبروته، فدعوة المظلوم المغلوب على أمره المسّلم لأمر الله ليس بينها وبين الله حجاب، كن متأكدًا وواثقًا أن العدالة الإلهية قادمة ولو بعد حين، فقط مع الصبر وتسليم الأمر لصاحب الأمر.