كان الأمن القومى العربى له ملامح واضحة، عدو محدد وخطر معروف اسمه «إسرائيل»، يجتمع العرب تحت رايته ويوحّدهم فى خطابٍ ومصير، لكن منذ أن هبَّ ما سُمِّى بالربيع العربى، تبدّل المشهد جذريًا، وبدأ المفهوم يضيع بعد أن تعدد الأعداء من الداخل والخارج. إسرائيل لم تتغير ولم تتخلّ عن أطماعها، لا فى فلسطين ولا فى سوريا ولا فى المنطقة العربية، ولا تزال تهدد الأمن القومى العربى، لكنها لم تَعُد العدو الوحيد ولا حتى الأخطر لدى البعض، بل صارت فى بعض الأوقات شريكًا فى مناورات مع دول كانت بالأمس تُصنَّف ضمن محور العداء لها، وتحوّل ملف القضية الفلسطينية من قضية جامعة إلى ملفٍ خلافى، لم يعد يوحّد الصف العربى بل بالكاد فى الحد الأدنى للاتفاق. فى عام 1990 أعدّت جامعة الدول العربية آخر دراسة شاملة حول تهديدات الأمن القومى العربى، واعتبرت إسرائيل الخطر الأهم، لكن شهد نفس العام الزلزال الأكبر، حين غزا العراق دولة الكويت، فاهتز الكيان العربى من الداخل، وسقطت معه فرضية «البوابة الشرقية»، وتحول صدام حسين من رمز للمواجهة إلى مصدر للخطر. وإذا كانت الجراح تندمل مع الوقت، فغزو العراق للكويت هو الجرح الذى يتسع ولا يلتئم، وفتح الباب واسعًا لتفسخ الجبهة العربية، وظهرت الخلافات جلية، وتباينت الولاءات، فلم يعد الشرق شرقًا، ولا العدو واضحًا. وتعددت التهديدات: الإرهاب، المشروع النووى الإيرانى، الأطماع التركية، الحروب الأهلية، التدخلات الأجنبية، النزوح والهجرة غير الشرعية، والصراعات على المياه، وكلما اتسعت رقعة التهديدات، تباينت معها رؤى الدول حول تعريف «الأمن القومى»، حتى صار لكل دولة «أمنها الخاص» الذى قد يتقاطع أو يتعارض مع غيرها. وبات خطر الجماعات الإرهابية أشد فتكًا من إسرائيل فى نظر البعض، والجماعات التى تسللت عبر بوابات الدين والشعارات، ووصلت إلى الحكم وخربت المؤسسات من الداخل، الإخوان، حزب الله، الحوثيون، القاعدة، داعش، الحشد الشعبى، كل تنظيم منها أضر بأمته أكثر مما فعل الأعداء التاريخيون. أما من تمكن من النجاة من الفوضى، فهى الدول التى تمسكت بالدولة الوطنية وبقوة مؤسساتها، وعلى رأسها الجيش ومصر نموذج واضح، واجهت التهديدات بحزم وطورت جيشها، وطهرت سيناء من الإرهاب، ونجحت فى الحفاظ على التوازن الداخلى والخارجى. المنطقة الآن ليست كما كانت والأعداء فى كل مكان، ومفاهيم القوة والتهديد باتت مرنة ومراوغة، ويدٌ تضرب من الداخل، وأخرى تتدخل من الخارج، والهدف هو تفكيك عناصر القوة وضرب الدول العربية فى مقتل. النجاة تتطلب وعيًا وقوة وتمسكًا بالدولة الوطنية، وعلى كل دولة أن تدرس واقع جيرانها ومحيطها الإقليمى، قبل أن تحدد لنفسها ما تعنيه عبارة «الأمن القومى»، المفهوم لم يعد نظريًا، بل معركة وجود لا تقبل الخطأ.