«حين التقينا لم نقل الكثير كانت العيون تتحدث والدموع تنوب عن الكلام والعناق كان طويلا كأننا نحاول ضغط السنين فى لحظة !» سبتمبر 2016 كان كل شىء فى هذه الرحلة يبدو أشبه بحلم طويل تأخر سنوات .. حقائبى التى حملتها إلى المطار كانت تفيض بأكثر من مجرد ملابس وهدايا بسيطة .. كانت ممتلئة بالشوق للقاء صديقتى التى لم أرها منذ زمن باعد بيننا .. لحظة هبوط الطائرة على الممر فى مطار بيير إليوت ترودو بمدينة مونتريال ملأتنى مشاعر مختلفة بين التعب والإرهاق بعد رحلة طويلة استغرقت أكثر من 16ساعة .. وفى ذات الوقت التقاط الأنفاس والحماس والتطلع والفرح لرؤية « أورور « صديقتى الغالية المهاجرة إلى كندا منذ أكثر من ثلاثين عاما .. عندما دلفت بوابة الوصول كانت تقف فى انتظارى رأيتها كما هى لم تتغير ملامحها .. بوجهها المستدير ذى البشرة البيضاء التى تميل إلى الحمرة الطبيعية عند وجنتيها وابتسامتها العريضة التى تبعث على التفاؤل وشعرها القصير داكن السواد الناعم كالحرير وعينيها السوداوين الضيقتين خلف نظارتها ولاتزال تحملان تلك الومضة المشاغبة التى عرفتها منذ الطفولة.. رغم أن الزمن ترك بعض خطوطه على وجهها .. كما تركها على وجهى !.. حين التقينا .. لم نقل الكثير فى البداية..كانت العيون تتحدث والدموع تنوب عن الكلام.. والعناق كان طويلا كأننا نحاول أن نضغط السنين فى لحظة واحدة.. ضحكنا.. بكينا .. تذكرنا..نسينا.. ثم بدأنا من جديد .. لقاؤنا كان كافيا لشحن «بطاريتى « بطاقة إيجابية لامثيل لها !.. اليوم الثاني طوال إقامتى لم يهدأ بال أورور ولم تدخر جهدا من أجل توفير كل سبل الراحة وإعداد البرنامج اليومى والتخطيط لاستثمار هذه الأيام المعدودات فى زيارة كل ما هو مهم من معالم مدينة مونتريال الجميلة .. منذ الصباح الباكر تستيقظ أورور لتحضير مائدة مميزة من الإفطار حيث تجتمع أسرتها الصغيرة التى تعتبرها ثروتها الحقيقية .. زوجها العزيز فؤاد وقد جمعت بينهما قصة حب كللت بالزواج وإنجاب ثلاثة أبناء رائعين الكبرى كارين التى ولدت بمصر أما ألكسندرا وأنطونى فقد ولدا فى المهجر .. ويمتد الحديث المشترك والقصص عن الحياة فى كندا والصعوبات والتحديات التى واجهتهما وكيف استطاعا اجتياز المحن وبناء حياة جديدة بعيدة عن الوطن هو مهندس إلكترونيات ماهر وهى تملك دار حضانة للأطفال .. كنت أستمع إليها جميعا بشغف وأدركت لحظتها أن الهجرة ليست فقط انتقالا جغرافيا .. بل هى رحلة داخلية نحو الذات والتغيير..! سانت كاترين كانت الشمس تشرق ببطء فوق سماء مونتريال تلك المدينة الكندية الاستثنائية التى تجمع بين سحر أوروبا القديمة وحداثة أمريكا الشمالية فى شوارعها القديمة يختلط عبق التاريخ الفرنسى بأصوات الموسيقى الحديثة وتتناغم ألوان الجدران مع دفء المقاهى وروح سكانها « الكيبيكوا» كما يطلق عليهم نسبة لمقاطعة كيبيك .. الطيبين بوجوههم الهادئة الصاخبة فى آن واحد .. ذهبنا فى جولة إلى قلب المدينة شارع سانت كاترين الشهير الشريان التجارى والثقافى حيث تنتشر المحال التجارية والمطاعم والمسارح ويشعر الزائر بنبض الحياة المونتريالية فى كل خطوة .. بالمناسبة فى هذه المقاطعة فقط اللغة الأولى هى الفرنسية وهم يتحدثونها بلكنة غريبة تشبه الفرنسية المكسرة بطريقة يصعب فهمها لأول وهلة حتى على الفرنسيين أنفسهم !.. أما المستوى الاجتماعى ودخل الفرد العالى والخدمات التى تقدم للمواطنين بشكل عام فكانت سببا فى ندرة جرائم السرقة والقتل وهى الحافز لتحملهم الثلوج والبرودة الشديدة التى يعانون منها فى فصل الشتاء الطويل !.. على الطريق فى تلك الصبيحة الهادئة .. كانت الوجهة شلالات نياجرا .. وقد أصرت أورور رغم طول المسافة التى اقتربت من الست ساعات .. أن تصحبنى بسيارتها تقودها بكل حماس كالفارس المغوار على الطريق السريع 401 وهو شريان كندا الذى يربط بين مدنها الشرقية .. كان الطريق طويلا.. يمتد لنحو 800 كيلومتر لكنه لم يكن مجرد مسافة تقطعها عجلات السيارة .. بل كان رحلة تأملية عبر مناظر طبيعية تأسر القلب.. فى البداية اقترحت أورور أن ترافقنا صديقتها المصرية الكندية أيضا « نيڤين « رغم اعتراضى الداخلى إلا أننى لم أظهر ضيقى فقد كنت أكتفى بصحبة أورور .. إلا أننى فيما بعد شكرتها بعد أن اكتشفت أن نيڤين إنسانة ودودة خفيفة الظل أضفت الكثير من البهجة على رحلتنا وعرفت أننى ربحت صديقة جديدة استمرت علاقتى وطيدة بها حتى اليوم .. على جانبى الطريق كانت الحقول الخضراء تمتد كسجادة مخملية .. .. والأشجار بألوانها الخضراء والحمراء والصفراء والبنية .. كانت تقف كحراس صامتين للطريق ومع كل كيلومتر كنت أشعر وكأننى أترك خلفى صخب المدينة وأغوص أكثر فى حضن الطبيعة.!.. مع مرور الساعات .. بدأت المناظر تتغير الحقول تحولت إلى غابات كثيفة ثم إلى تلال متموجة وأخيرا إلى ضفاف بحيرة أونتاريو التى بدت كبحر هادئ يحتضن الأفق.. كنا نتوقف بين الحين والآخر نلتقط صورا .. أو لملء خزان السيارة بالبنزين .. والطريف أنه لايوجد موظف أو عامل لملء الخزان أو لتحصيل المال وإنما نقوم بذلك بأنفسنا ونضع النقود فى المكان المخصص لها فى الماكينة دون رقيب أو حسيب !.. ضحكت مع أورور متسائلة : ماذا لو لم تسددى الفاتورة بعد ملء السيارة بالوقود ؟.. فأجابتنى باندهاش وباقتضاب : مستحيل .. مفيش حد هنا بيعمل كده ! تمنيت أن يأتى يوم ونرى ذلك فى مصر !.. شلالات نياجرا كانت الرحلة بالسيارة رغم طولها مليئة بلحظات من السكينة كأن الزمن يتباطأ ليمنحنى فرصة للتأمل فيما هو قادم. عندما اقتربنا من نياجرا بدأت أسمع همس الماء قبل أن أراه.. أخيرا وصلنا .. هنا على ضفاف نهر نياجرا وقفت مذهولة أمام المشهد المهيب !.. كانت الشلالات ثلاثية الأبعاد .. ليست مجرد ماء يهبط من علو بل قوة حياة تتدفق بلا توقف تحمل فى طياتها قصص الأرض وأسرارها !.. الماء كان يتساقط بعنفوان يشبه غضب الآلهة فى أساطير الإغريق وفى الوقت ذاته كان يحمل رقة غريبة كأن الأرض تبكى وتضحك فى آن واحد!.. وقفت على منصة المشاهدة أراقب الرذاذ يرتفع كسحابة بيضاء يلامس وجهى برطوبة منعشة.. الضوء كان ينكسر فى الماء مشكلا قوس قزح ليبدو كجسر سحرى يربط بين السماء والأرض!.. كل شىء حولى كان يتحرك: الماء،الرياح،الزوار الذين يلتقطون الصور ويتبادلون الضحكات.. لكننى فى هذه اللحظة شعرت بنوع من السكون الداخلى كأننى أصبحت جزءا من هذا المشهد الأبدى.. كنت أفكر فى عظمة الطبيعة فى قدرة الخالق على إذهالنا وجعلنا نشعر بصغرنا وكبرنا فى الوقت ذاته!.. المغادرة غادرنا نياجرا .. وغادرت مونتريال .. وغادرت كندا الجميلة .. وكانت بالنسبة لى تجربة لا تنسى بين الماضى والحاضر.. كانت فريدة من نوعها جمعت بين جمال الطبيعة ولقاء الأعزاء .. وعلمتنى أن الأماكن ليست فقط مواقع على الخريطة بل هى حكايات وأشخاص وذكريات تظل محفورة فى القلب.. كما أدركت أن الصداقة الحقيقية تتجاوز الزمن والمسافات .. وأن اللقاء بعد سنوات طويلة يحمل فى طياته دفئًا خاصًا لا يمكن نسيانه.. وعدت إلى مصر محملة بقصص جديدة وصور استثنائية.. وأمل أن أعود يوما ما لأزور كندا مرة أخرى لأغوص فى سحرها وأعانق ذكرياتى وصديقتى العزيزة. !