ليست لي يدٌ في هذه القصة سوى أنني التقطتها من قلب الواقع ونسجتها كما سُمِعت... من موظفة أحبت عملها بصدق، وعاشت له أكثر مما عاشت لنفسها، لكنها وجدت نفسها فجأة أمام قرار لم تكن تظن يومًا أنها ستتخذه: الرحيل. فليست كل مغادرة لوظيفة دليلًا على رغبة في التغيير؛ أحيانًا تُجبرنا القلوب المنكسرة على اتخاذ قرارات مُوجعة. كتبتُ هذه المقالة بعد أن استمعت إلى قصة مؤلمة من موظفة ناجحة، قررت ترك مكانٍ قضت فيه أجمل سنوات عمرها، فقط لأن بيئة العمل أصبحت لا تُطاق. منذ تخرجها بتفوق، التحقت بوظيفةٍ طالما حلمت بها، لم يكن العمل مجرد مصدر دخل، بل مساحةً للإبداع والشغف، من أول راتب، اشترت هدايا لأهلها، وتلقت تدريبات متعددة، ونجحت في شراء سيارة رغم محدودية الراتب، لم يكن العمل روتينًا بالنسبة لها، بل امتدادًا لهوايتها، كانت تمارسه بشغف، تنتظر الإجازة لتعود بشوق، وتختار ملابسها بما يليق به. لكن شيئًا ما تبدل...جاء المدير الجديد. وتغير كل شيء. تحولت بيئة العمل إلى ساحة ضغط نفسي ومعاملة قاسية، أفقدتها الإحساس بالأمان، وأثقلت عليها حتى باتت تنهض كل صباح بشعور من القهر، لم تعد تنتظر العودة من الإجازة، بل باتت تتمنى لو تطول. ورغم صعوبة القرار، حصلت أخيرًا على موافقة بالنقل، لكنها لم تنم تلك الليلة، جلست تتأمل تفاصيل سنواتها الماضية، كأنها تودع عمرًا لا يُعوض، شعرت أنها تترك خبرتها التي تراكمت على مدار سنوات عمرها، لكن البقاء في هذا المُناخ لم يعد ممكنًا، لم تكن المشكلة مهنية في جوهرها، بل إنسانية بحتة تمس كرامتها وصحتها النفسية. البيئة السامة قد تُجبر أفضل الموظفين على المغادرة، فليس دائمًا القرار سهلًا، لكنه أحيانًا ضرورة لحماية النفس، فاحترام الإنسان في عمله ليس تفضلًا، بل حق، والبيئة الآمنة لا تُقاس براتب أو منصب، بل بإحساس الموظف أن كرامته محفوظة، وأن عمله محل تقدير. وهذا ما أكدت عليه الأبحاث الحديثة في مجالي الإدارة وعلم النفس التنظيمي أن بيئة العمل السامة تُعد من أبرز أسباب تدهور الأداء وارتفاع معدلات ترك العمل، حتى بين أفضل الكفاءات؛ ومن هذه الأبحاث على سبيل المثال دراسة نُشرت في مجلة علم النفس التطبيقي (Journal of Applied Psychology) ، بعنوان "تأثير القيادة السامة على رفاهية الموظفين وإنتاجيتهم"، أشارت إلى أن القيادة المسيئة لا تؤدي فقط إلى خسارة المواهب، بل تُحدث آثارًا نفسية عميقة، وتُكبد المؤسسات خسائر مباشرة وغير مباشرة، وهذا يؤكد أن توفير بيئة عمل محترمة وداعمة ليس رفاهية، بل استثمار إستراتيجي في رأس المال البشري واستدامة المؤسسة. هذه الحكاية ليست حالة فردية معزولة، بل هي مرآة لواقع يعيشه كثيرون في صمت، كم من موظف يعاني خلف مكتبه، بسبب مدير مُتسلط أو بيئة طاردة. إن تجاهل مثل هذه الحالات لا يحلها، بل يفاقمها، وقد يصل الألم إلى حدود لا تُحتمل، مما يؤثر على الحياة الشخصية للموظف وصحته العامة. رحيلها ليس ضعفًا، بل شجاعة وتقدير للذات، ليس هروبًا، بل حماية للكرامة والصحة النفسية، وكم من موظف يؤخر قراراته المصيرية خوفًا من المجهول، أو تمسكًا بماضٍ لم يعد حاميًا له، لعل قصة هذه الموظفة تكون صرخة صامتة تُوقظ بعض الضمائر، وتدفع المؤسسات لإعادة النظر في سلوك بعض مسؤوليها الإداريين؛ لأن خسارة الإنسان لا تُعوض، والموظف لا يطلب أكثر من بيئة تحترمه، ومدير يُقدره ويمنحه الفرصة ليبدع ويستمر. وتبقى كلمة أخيرة: المديرون لا يديرون المؤسسات فقط، بل يديرون أحلام موظفيهم وتطلعاتهم، وهم يخطون لأنفسهم طريقًا في هذا العالم. كاتبة المقال.. كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة