«امسحوا أغانى أحمد عامر عشان مايشلش ذنوب بعد ما مات»... هكذا طالب حمو بيكا وعدد من مطربى المهرجانات جمهورهم بحذف أغانى زميلهم الراحل بعد وفاته، وكأن ما قدمه الرجل من فن -على اختلاف تقييمنا له- صار فجأة جريمة تستوجب المحو والغفران.. المفاجأة أن نجوم المهرجانات ممن جنوا الشهرة والثراء من وراء ما يقدمونه لا يؤمنون به بل ينظرون له نظرة الفاكهة المحرمة، يغنون نهارا عبر منصات الأغانى وليلا فى الملاهى الليلية، يحققون الثروات ويرتدون السلاسل الذهبية ، ويقودون أفخم السيارات، كل ذلك من أموال الفن الذى يحرمونه، فلماذا استحلوا أموال الفن وحرموه هو؟! الأمر لم يقتصر على حمو بيكا وعمر كمال وابناء عالم المهرجانات العشوائى، بل امتد لنجوم من أبناء الأغنية الشعبية مثل طارق الشيخ، وكأنهم يعيدون للأذهان تجارب الفنانات المعتزلات اللواتى طالبن بحرق أفلامهن منذ عقود.. متى تغلغل هذا التفكير الداعشى، ومتى تكونت هذه الازدواجية فى أذهان شباب لم يتجاوزوا الثلاثين من أعمارهم؟ وهل من المنطقى أن نترك هؤلاء يكونون مفاهيم وثقافة ملايين الشباب والمراهقين الذين يستمعون لأغانيهم؟! الصدمة لم تكن فقط فى التصريح، بل فى الخلفية الفكرية التى حملها، والتى تعكس تغلغلًا خطيرًا لفكر متشدد فى عمق الثقافة الشعبية المصرية، لم يعد يقتصر على جماعات أو شيوخ، بل صار يخرج من أفواه من اعتادوا الرقص والغناء على المسارح، وفى الفيديو كليبات، وأمام جماهير ضخمة تعشق موسيقاهم. فى لحظة يبدو فيها أن الفن أصبح «تهمة»، بات بعض فنانى المهرجانات يتعاملون مع ما يقدمونه وكأنهم مجبرون عليه، أو كأنهم يمارسون خطيئة مؤقتة لا بد أن تُغتفر يومًا ما. نفس الأفراد الذين يحيون الحفلات، ويجنون الملايين من «يوتيوب» و«تيك توك»، يظهرون فى مقاطع أخرى يعلنون فيها أن الفن «حرام»، وأنهم سيعتزلونه «قريبًا» من أجل التوبة. اقرأ أيضًا | متحدث نقابة الموسيقيين يعلق على حذف أغاني أحمد عامر بعد وفاته فأى منطق هذا؟ كيف يمكن لإنسان أن يروج لمنتج، يبيعه، ويكسب منه، ثم فى نفس اللحظة يشهر فى وجهه سيف التكفير أو التحريم؟ وأين الجمهور من كل هذا التناقض؟ فنانون ولكن... الأزمة هنا ليست جديدة. قبل أحمد عامر، وقبل حمو بيكا، ظهرت موجات متكررة من «توبة مفاجئة» واعتذارات متكررة عن الفن. عشنا مشاهد لنجوم كبار مثل شمس البارودى، ومديحة كامل، ومحمد العربى، وآخرين أعلنوا «ندمهم» عن الفن الذى قدموه، بل وصل الأمر بالبعض للمطالبة بعدم عرض أعمالهم مرة أخرى. للأسف هذه الأسماء تم الترويج لها إعلاميا فى زمن كان سابقا الإعلام يلعب فيه دورًا خفيًا لترويج الأفكار المتطرفة، فوجدنا شبكات قنوات عربية تحتفى بهؤلاء وتستضيفهم فى برامج «الاستتابة» على الهواء مقابل آلاف الدولارات فى الحلقة، لا شك أن كل هذا كان مقصودا لنشر أيديولوجيات بعينها وفرضها على الهوية المصرية. قد يبدو هذا فى الظاهر خيارًا شخصيًا، لكن الحقيقة أن هذا النمط المتكرر يعكس ضغطًا مجتمعيًا ودينيًا متأصلاً، يضع الفن دائمًا فى خانة الشك، ويعامل الفنان كمن يمشى على حبل، إن سقط تمنى لو لم يبدأ. الثقافة الشعبية المتشددة ما حدث فى حالة أحمد عامر لا يمكن فصله عن تصاعد المد السلفى فى المجتمع المصرى خلال العقود الثلاثة الماضية. صحيح أن الخطاب السلفى تراجع إعلاميًا بعد ثورة 30 يونيو، لكنه لم يختفِ من الشارع. بل تسرب بذكاء إلى الطبقات الشعبية، ووجد له منصة قوية فى تطبيقات مثل «تيك توك» و»فيسبوك» و»يوتيوب»، حيث تُنشر آلاف الفيديوهات التى تهاجم الفن، وتجرّم الغناء، وتبث فتاوى التكفير والتحريم. المفارقة أن من يتبنون هذا الخطاب فى أحيان كثيرة هم أنفسهم من يغنون ويرقصون ويظهرون فى مقاطع مبتذلة، ثم يقولون «استغفر الله» بعد انتهاء التصوير. تلك الثقافة المتشددة التى تمثل خطرًا حقيقيًا على الهوية المصرية هى بالأساس لا تستند إلى مرجع دينى مستنير ، فعلى سبيل المثال الشيخ خالد الجندي، أحد أبرز دعاة الوسطية، قال فى أكثر من مناسبة إن «الغناء الحلال مش حرام، وإن الحكم على العمل الفنى بيكون حسب مضمونه، مش حسب وسيلة التعبير»، مؤكدًا أن تحريم الفن بشكل عام هو «مصادرة للعقول». كما أن د. أسامة الأزهرى وزير الأوقاف وأحد علماء الأزهر الشريف ، أكد فى حوارات سابقة إن «الفن جزء من بناء الإنسان المصري»، وإنه ضد خطاب «شيطنة الفن وتحريم كل أشكاله»، لأن ده «بيؤدى لانغلاق وتطرف ثقافى». ولكن بالعودة إلى حمو بيكا، فإن تاريخه زاخر بالتصريحات المتناقضة. تارة يهاجم نقابة الموسيقيين ويطالب بحقه فى الغناء، وتارة يعلن أنه «هيبطل علشان ربنا»، وتارة أخرى يعود ليصدر مهرجانات جديدة. فما الذى يدفع شخصًا يمتهن الغناء، ويعيش منه، ويصنع لنفسه جمهورًا واسمًا، أن يطلق مثل هذا التصريح عن زميله المتوفى؟ هل هو إحساس بالذنب؟ هل هو محاولة لكسب تعاطف جمهور ديني؟ أم هو ببساطة، تعبير عن ازدواجية يعيشها هو وجيله من المطربين الشعبيين؟ الفن ليس تهمة لا شك أن حالة التدين الظاهرى، التى تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعى، لعبت دورًا كبيرًا فى ترويج هذه الأفكار صار من المعتاد أن ترى مطربًا شعبيًا ينشر فيديو عن حفلة صاخبة، وبعدها بساعتين ينشر حديثًا نبويًا أو آية عن الموت والتوبة. الجمهور نفسه يتفاعل مع المنشورين بنفس الحماس، فى مشهد عبثى يعكس الخلل الذى أصاب وعينا الجمعى. لم يعد الدين تجربة روحية عميقة، بل «بوست» لجمع لايكات، أو تصريحًا لكسب الاحترام دون التغيير الحقيقى. مشكلة هذا النوع من التصريحات ليست فقط فى مضمونها، بل فى رسالتها الرمزية: أن الفن خطأ يجب غفرانه وأن أى عمل فنى بالضرورة ضد الدين. بينما الحقيقة أن أعمالا فنية كانت وما زالت مصدر إلهام، ونور، ورسائل إنسانية عظيمة. هل من وقفة؟! شخصيا أرفض الوصاية الفكرية والفنية، وكنت رافضًا لتدخلات نقابة الموسيقيين فى تشكيل الذوق العام وفرض آرائها على المبدعين، ولكن هؤلاء يثبتون لنا الآن أنهم ليسوا من سليلى نسل الإبداع فى مصر، بل إن تصريحاتهم المسيئة للفن تستوجب تحركًا عاجلا من نقابة الموسيقين ، تحرك يدافع عن الفن وقيمته ويحفظ كرامة كل فنان مصرى سواء كان موسيقيا أو عاملا فى أى من مجالات الفن، خاصة أن هذه التصريحات تمثل إدانة لأى فنان واتهاما واضحا له بأن ما يمارسه ويقدمه هو حرام! ليس المطلوب منع حمو بيكا وشركاه، ولكن المطلوب بشكل أكبر تشكيل حركة فكرية وثقافية تساهم فى توعية المجتمع بأن الفن ليس حراما، وأن مسح أغانى المطرب أو افلام الممثل بعد وفاته ليس هو الطريق إلى الجنة. عاش المجتمع المصرى عقودًا طويلة بل مئات السنين يقدر الفن ويحترمه، ولا يرى فيه شبهة حرمانية لأنه كان فنًا بحق يسموا بالإنسان المصرى ويثرى وجدانه، ولكن إحقاقا للحق فإن ما يقدمه بيكا وشركاه من «الحرام» أن يصنف فنا، بل هو أشبه بمخدرات موسيقية تعكس أفكار إفرازات العشوائيات وتفرضها على ذائقة أبنائنا، وتجعل من ناقصى العقل والدين قادة للفكر ونماذج يحتذى بها.