لم يكن الفيل مجرد حيوان مر عبر التاريخ المصري، بل كان - في فجر الحضارة - شريكا في الطقوس، ورمًزا للقوة في العالم الآخر؛ ومع تغيّر المناخ والزمن، انسحب الفيل إلى جنوب النيل، تاركا أثرا عميقًا في الذاكرة الطقسية والرمزية لمصر القديمة. ◄ من براري ما قبل التاريخ إلى حروب الملوك تؤكد دكتورة رانيا ممتاز دكتورة الآثار الجزيئية أن في أعماق الصحراء الجنوبية لمصر، وتحديدًا بين إدفو وكوم أمبو، توجد نقوش صخرية تُصور الفيَلة بجمالها وعظمتها وكأنها حيوانات معتادة في بيئة مصرية ولكن هل كان الفيل يوما مصريا حقًا؟ في قديم الزمان، عندما كانت صحراء مصر لا تزال مرو ًجا خضراء، وكانت الأمطار تزورها بسخاء، تجولت الفيلة بحرية على ضفاف النيل. نعم، قد لا نصدق اليوم، لكن مصر - التي نراها الآن أغلبها صحاري - كانت يو ًما موطنًا طبيعيًا للفيلة. وتوضح د. رانيا ممتاز أن البداية كانت قبل أكثر من 8,000 سنة، عندما كانت سهول الفيوم والواحات مليئة بالحياة، تسير فيها قوافل من الغزلان، وأفراس النهر، والزرافات، والفيلة. وقد عثر العلماء على عظام فيلة في هذه المناطق، تدل على أنها كانت تقيم هناك بالفعل. وعلى جدران الجبال، في أماكن مثل جبل العوينات والجلف الكبير، رسم الإنسان القديم فيلا بخرطومه المرفوع، وسط مشاهد صيد مذهلة. كانت هذه الرسومات جز ًءا من طقوس الاحتفاء بالحياة البرية، وربما رسائل إلى الأجيال القادمة. ◄ رموز ما قبل الملوك تشير د. رانيا إلى أن الحضارة حين بدأت تتشكل، وقبل أن يُكتب التاريخ الرسمي لمصر، ظهر الفيل رمزا في أختام بعض الزعماء. في حضارة "نقادة"، استُخدم الفيل كزخرفة تُزيّن الفخار، وربما كرمز يُشير إلى القوة والسيطرة على الجنوب، حيث كانت الفيلة أكثر شيوًعا ونراها بوضوح في القطع العاجية المنقوشة، مثل مقبض سكين مصنوع من العاج، المحفوظ في متحف بروكلين ويظهر عليه صف من الفيَلة تدوس بأقدامها ثعابين عملاقة رمز الشر، في مشهد رمزي غني. رأى المصري القديم في الفيل حيوانًا مميزا، ربما امتلك قدرات رمزية أو سحرية. ◄ الجفاف والصيد.. نهاية الوجود الطبيعي للفيل بحلول بداية الدولة القديمة، ومع تغيّر المناخ وازدياد الصيد للحصول على العاج، ومطاردة المزارعيين المصريين للفيلة بعيداً عن مزروعاتهم بدأ الفيل بالاختفاء من مصر تدريجيًا، وانسحب جنوبًا نحو السودان والحبشة غادرت الفيلة نحو أعماق إفريقيا ولم تعد مصر قادرة على احتضانها، لكنها لم تنسها ومع هذا، ظل العاج سلعة مرغوبة في الفنون الرفيعة والتمائم الجنائزية رغم انقراض الفيلة محليًا، بقيت حاضرة في أذهان الفراعنة كرمز للهيبة. ◄ الفيل في اللغة المصرية القديمة عرف الفيل في اللغة المصرية القديمة بكلمة Abw،(ابو) وقد أطلقت نفس الكلمة علي كل من الناب والعاج مع اختلاف المخصص، وكذلك الوضع بالنسبة لجزيرة إلفنتين. كما أطلق مصطلح اليد على خرطوم الفيل في مصر قديما. يذكر أن مصطلح اليد مناسب لخرطوم الأنواع الأفريقية أكثر من الأنواع الأسيوية، حيث أنه يوجد في نهاية خرطوم الأفيال الأفريقية جزءان ناتئان يطلق عليهما أصبعان فوق وتحت فتحتي الأنف. ونشاهد تحتمس الثالث، أعظم ملوك مصر المحاربين، يروى أنه قتل 120 فيلا أثناء حملاته في سوريا، بما في ذلك الفيل السوري المنقرض الآن. كما أن أحد ضباطه، نجا من هجوم فيل خلال رحلة صيد ملكية، وتمكن من قتله بقطع خرطومه — وهي قصة تعكس مهارة وشجاعة تخلدها النصوص الهيروغليفية. تخليدًا لهذه المخلوقات، ظهرت تماثيل صغيرة لفيَلة من الطين المحروق، و ُزيّنت أدوات منزلية، مثل القوارير والمصابيح، بشكل خرطوم الفيل الذي يعمل كصنبور. بل وصور بعض القادة ممتطين فيَلة مدججة.ونجد على عكس ما يُشاع، فإن العاج المستخرج من الفيلة كان نادر الاستخدام في مصر القديمة. كان المصريون يفضلون استخدام عاج فرس النهر، لأنه أكثر توفرا وأسهل نحتًا.أما عاج الفيلة، فكان يأتي غالبًا كجزء من الجزية من النوبة، أو يُجلب من بلاد بونت عبر البحر الأحمر وقد ظل العاج - أنياب الفيلة - سلعةً غاليةً جدًا، تُستخدم في صناعة الأمشاط، والتمائم، والصناديق الفاخرة. وكانت السفن القادمة من بلاد بونت، عبر البحر الأحمر، تحمل معها العاج وربما الفيلة الحية أحيانًا. وفي معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحري، نُقش مشهد يُظهر هذه الكنوز تُقدم لمصر: العاج، البخور، والفهود، وأحيانًا... فيل صغير! ◄ الفيل والثعبان.. صراع بين الخير والشر في التعاويذ الجنائزية رغم نُدرة الإشارات إلى الفيل في النصوص الدينية المصرية القديمة، فإن حضوره في بعض المشاهد والتعويذات يعكس مكانة رمزية عميقة ترتبط بفكرة الحماية والانتصار على الشر، لا سيما في عالم ما بعد الموت. توضحه لنا ما جاء في التعويذة رقم 379 من نصوص التوابيت نداء موجه للمتوفى: في هذا النص، يعبر المتوفى عن رغبته في أن يتحول إلى فيل، ليحظى بقدرة خارقة على رؤية الثعبان الشرير "ررك" خلال رحلته في العالم الآخر، كما فعل أوزير في أسطورة البعث؛ هذه الرغبة توضح إدراكًا عقائديًّا لقدرة الفيل على كسر حاجز الخوف من قوى الظلام وكشف الشر الخفي مما يضعه في قلب الطقوس الروحية المتعلقة برحلة البعث الأبدي. ◄ الفيل أول مدرعة حربية في التاريخ وتستطرد د. رانيا ممتاز مؤكدة أن الفيل في العصر البطلمي ظهر من جديد في مصر، لكن كأداة حرب بعد قرون، وتحديدًا في عهد البطالمة، عاد الفيل إلى مصر، لكن ليس كحيوان بري، بل كمحارب مدّرب. الملك بطليموس الثاني أنشأ مراكز جنوب مصر لتجميع وتدريب الفيلة الحربية، في مدينة قرب أسوان وكانت هذه الفيلة تُنقل من إثيوبيا والسودان عبر البحر الأحمر، إلى موانئ مثل ثيرون، ثم تُقاد نحو النيل. واستخدموا شبكة من القنوات والموانئ والسفن المتخصصة لنقل الِفيَلة إلى مصر، لتجد الحدائق الملكية في منف وطيبة تستضيفها وتُدرب فيها. لم تكن تلك فيلة معتادة،بل كانت تُنافس الفيلةالهندية التي استخدمهاالملوك السلوقيون في الشام.لقد دخل الفيل ساحة السياسة والحروب، ورغم الجهد الجبار، لم تكن الفيَلة الإفريقية قابلة للتدريب بسهولة مثل الفيَلة الهندية، حيث يبدو ان الفيل الأفريقي محبا للسلام ، لم تبدوا دائما محبة للقتال كالفيل الأسيوي . ◄ "إلفنتين" بوابة الفيلة جزيرة إلفنتين في أسوان لم تكن مجرد موقع ديني، بل كانت ميناءا حيويًا للفيلة والعاج. هنا كانت السفن تُفرغ حمولاتها، وهنا بدأ مسار العاج نحو الشمال — من النوبة، عبر النيل، إلى قلب الحضارة. ومن الأمور المثيرة للإهتمام أن اسم جزيرة "أبو" الواقعة قبالة أسوان، ظل موضع نقاش بين الباحثين والمؤرخين، خاصة وأن اليونانيين قد أطلقوا عليها لاحقًا اسم "إلفنتين " Elephantine، في إشارة مباشرة إلى الأفيال. وقد تباينت الآراء حول سبب هذه التسمية: 1. الشكل الطبيعي للجزيرة :يرى بعض الباحثين أن تضاريس الجزيرة وصخورها الضخمة تشبه في هيئتها الأفيال، وكأن الطبيعة نفسها نحتت تماثيلها في قلب النيل. 2. محطة تجارة العاج :يرى آخرون أن الجزيرة كانت نقطة رئيسية في تجارة العاج القادم من النوبة وإفريقيا، لذا ارتبط اسمها بمادة "أبو" التي تعني "العاج" في اللغة المصرية القديمة. 3. موطن لقطعان الأفيال: يعتقد أن الجزيرة ربما كانت مسكنًا حقيقيا لقطعان من الفيلة خلال عصور ما قبل التاريخ، قبل أن تنقرض من المنطقة. وفي دعم لهذه الرمزية، استخدم المصريون شكل الفيل كشعار رمزي يدل على الجزيرة، إذ كان يُنقش على صواري المراكب منذ عصور ما قبل الأسرات، كتعبير عن هوية ومكانة هذه الأرض الفريدة الواقعة عند بوابة الجنوب. في عام 2009، اكتُشفت أول حديقة حيوانات في التاريخ في مصر، وتحديدًا في هيراكونبوليس حيث أظهرت تحاليل معدة أحد الفيلة (ذكر عمره 10 سنوات) أنه تناول أغصان الأكاسيا ونباتات من بيئات متنوعة — مما يُشير إلى أنه كان يعيش في الأسر ويتم تغذيته من ِقبل البشر. وقد احتوت هذه المقبرة على مومياوات لحيوانات غريبة ومد ّجنة، منها فيلان دُفنا على حصر من القصب، وغ ّطتهما لفائف كتان. تم الدفن باحترام مهيب، وسط أثاث جنائزي را ٍق من أوا ٍن حجرية وسوار ذهبي. لم يكن هذا مجرد حيوان مد ّجن، بل رم ًزا لقوة زعيم محلي أو تمثيلا لسلطة روحية. فعلاً إن الفيل هو حالة خاصة: على الرغم من ان الفيلة لم تعد موجودة اليوم في مصر. اختفَت من بيئتها، لكنها بقيت في الفن، والأسطورة، والتاريخ. بقيت أنامل النقّاشين تحفرها على الحجر اختفى الفيل من أرض مصر، لكنه بقي محفورا في حجارتها، ومعروضا في متاحفها، وشاهدًا على زمن كانت فيه البراري تسكنها المهابة.، وبقيت أنيابها تروي قصص الترحال، والغزو، والتجارة، والثراء. ◄ الفيل في مصر.. حكاية حضارية لم يكن الفيل مجرد حيوان عابر في مصر القديمة، بل كان شاهدًا على تحول البيئة، ومادة نادرة من مواد الترف، وأداة سياسية في ساحات القتال، وكائنًا نال الاحترام والدفن كما لو كان من حاشية الملك. إنها قصة حيوان لم يعش فقط في الغابات، بل عبر الممالك، والحدود، والتاريخ... قصة الفيل المصري - الذي، رغم كل شيء، ظل حاضرا في الذاكرة.