قصة جمال الغيطانى أدخلت البهجة إلى فؤادى، هذا هو الأدب الثورى الحق الذى نبع من النكبة المباشرة عندما أكون فى بيتى فإن مكتبتى هى ملاذى الأول وأيضًا الأخير، ولذلك وخلال الأسبوع الماضى عندما وجدت يدى تمتد إلى المجلد الثانى من الأعمال القصصية لصديق العُمر وتوأم الروح جمال الغيطانى «9 مايو 1945 - 18 أكتوبر 2015» توقفتُ أمام ما جرى. كان المجلد الثانى من مؤلفاته القصصية التى صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب دار النشر الكُبرى والأساسية فى مصر والوطن العربى التى يديرها الآن بكفاءة يُحسد عليها الدكتور أحمد بهى الدين. كان مكتوبًا على الغلاف الخلفى للكتاب كلامٌ قديم، ومع ذلك عندما قرأته اهتز وجدانى وقفز قلبى بين أضلعى وكأننى أقرأه لأول مرة. كانت كلمة كتبها الناقد الأدبى والصحفى المرحوم علاء الديب الذى كان يكتُب كتابات صحفية ونقدية مهمة جدًا. كتب المرحوم علاء الديب عن المرحوم جمال الغيطانى على غلاف المجلد الثانى مؤلفاته الكاملة ما يلى: اهتدى الغيطانى فى أعقاب 1967 إلى أسلوب مميز، فقد عاد بلغته وتركيب جمله إلى التاريخ، إلى ذاكرة الناس، تلاقت كتابات الغيطانى مع أحاسيس الناس فى تلك الفترة ووضعه النُقَّاد والقُرَّاء فى مكان الصدارة. وتوالت أعماله مؤكدة أنه كاتب متمكن يتمتع بقدر كبير من الدأب والإصرار، واختلفت الرؤيا فيما يلى ذلك من أعمال، وبدأت بذِكر ما جرى وقصة العُسرى، ثم نوبة حراسة، توجه الكاتب فى هذه الأعمال إلى ضمير الناس الاجتماعى، إلى المفارقة الكبيرة التى يخلقها الفقر والقهر، وحاول أن يقيم أعماله على التعبير عن التناقض وإيقاظ ما يُوحى به من دلالات وقطع بذلك مسافة طويلة من الذاكرة إلى الضمير. إن أهم ما يميز أعمال الغيطانى من سنة 1969 إلى سنة 1980 هو الإصرار على الإحساس بالمسئولية الاجتماعية للأدب. الإحساس بأن الأدب وظيفة لخدمة الناس، ومناقشة ما يُعانون منه من قضايا ومشاكل. الخلق والإبداع هو المجال الذى ينطلق إليه إصرار الغيطانى وعمله الدائم. هذا المجلد كانت فيه مجموعات قصصية لجمال عناوينها كالتالى: - أرض أرض، حكايات الغريب، ذِكر ما جرى، نفسة مصدور، شطف النار. وعلى الرغم من أنه كان المجلد الثانى إلا أن فى أوله كلمة بليغة كتبها المرحوم الدكتور على الراعى، وهو من هو فى دنيا النقد الأدبى فى مصر والوطن العربى والعالم. كلمته كان عنوانها: وقف الزمن. وجاء فيها: - وقف الزمن فى قصة جمال الغيطانى الأخاذة: أرض أرض، وقف عند التاسعة والنصف، نزل صاروخ صهيونى فأصاب آلة الزمن وأوقف العقارب عند التاسعة والنصف. ومع أن أحشاء الآلة قد خرجت، فقد ظل شىء ما بداخلها يتحرك ويتحرك، ثم يعود إلى الوقوف عند التاسعة والنصف. وأصاب الصاروخ آلة البشر أيضًا. أصاب أسرة مصطفى أبو القاسم مدرس التعليم الابتدائى بقرية كفر عامر محافظة السويس فأبادها ومات آخرون. وفقد الفلاح عبد المنعم أبو العطا السمع والنُطق. وجاوز الصاروخ الحد فأصاب هذا المجتمع القديم فى الصميم، مجتمع ما قبل 5 يونيو، وإذا كان بعض المجتمع لا يزال باقيًا، فهذا هو ظاهر الأمور فقط. أما باطنها فهو رغبة تتجمع، تحتشد، تحتج، تغلى، وتستعد لإزالة العفن والتواطؤ والتراخى وكل ما أدى إلى النكبة مما يقبع فى الناس وأعمال الناس ومنشآت الناس. قصة جمال الغيطانى أدخلت البهجة إلى فؤادى، هذا هو الأدب الثورى الحق الذى نبع من النكبة المباشرة، أدب واعٍ مُتزن، ما بالقصة من حُزن يكفى كى يخلق محيطًا. ولكن القصة - كالجوهرة النادرة - تختزنه كله فى محيطها الصغير وتتألق به وتُضىء كالماسة السوداء. حزنٌ دفين متكبر لأنه لا فائدة من البكاء، ولأنه يعرف طريقًا آخر أجدى من البكاء. وإلى جوار هذا الحُزن حبٌ دافق لأرض هذا البلد وناس هذا البلد، يتمثل فى الإشارات الكثيرة الدقيقة - التى تبدو عابرة لأحوال البسطاء وعاداتهم ورغباتهم وأفكارهم - وكلها تُبدى النقد وهى لا تدرى. كان من أسباب فرحى بهذه القصة ما تخلف لديَّ من إحساس عقب قراءتها بأن أيدى الشباب قد أخذت تصل إليها الرسالة الفنية أخيرًا. وأن هذه الأيدى لم تكتف بتسليم الرسالة، بل مضت بها خطوات فى سبيل تعبير الفن الناضج عن عالم هذا الشباب. باختصارٍ شديد أنا سعيد.