كانت هزيمة 1967 كارثية بكل معنى الكلمة، ومهما حاولنا التخفيف من وقع كلمة الهزيمة، فإن أصداءها ونتائجها السلبية لا تزال باقية كالندوب التى لا تمحى آثارها فى نفوس جميع الذين عاشوها وأدمت قلوبهم. وأظن أن الكارثة المرتبطة بالهزيمة فى نفوس جيل الستينيات، كانت عميقة الأثر كالجرح الذى لم يندمل أو يبرأ، وهو الجرح الذى دفع أبناء هذا الجيل إلى أن يعيدوا النظر فى مسيرتهم أو مسيرة الأجيال التى كانت سابقة عليهم. وأعتقد أن أهم آثار هزيمة 1967 أنها أنضجت موهبة أبناء الستينيات الذين اتخذوا الأدب مسارا لهم، ودفعتهم إلى تكرار سؤال الهوية فى مقابل سؤال الآخر الذى كان يتكرر فى مصر بعد كل ثورة عظمى أو كارثة عظيمة الوقع. هكذا أخذ أدباء الستينيات يفكرون فى هويتهم الإبداعية والكيفية التى يتميزون بها عن آبائهم وأسلافهم، فمال بعضهم إلى وصف أنفسهم بأنهم «جيل بلا أساتذة»، بينما أعاد البعض الآخر - وهم الأكثرية - طرح سؤال الهوية من جديد، وذلك على نحو دفع إلى إعادة النظر فى ماضى الأنا من ناحية، وحاضر الآخر من ناحية مقابلة. هكذا كان التغريب إجابة عن السؤال عند البعض كما كانت العودة إلى التراث بوصفه الأصل مع الإفادة من كل ما هو متاح عند الآخر من إنجازات حضارية وإبداعية هو الحل عند البعض الثانى، وكان الحل الثانى يعنى الجمع بين الأصالة والمعاصرة. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يعود أمل دنقل إلى تراثه القومى بشخصياته القيادية لكى يستخدمها أقنعة فى قصائده التى تحولت إلى كنايات رمزية. وفى الوقت نفسه لم يكن غريبا عند شاعر ستينى آخر أن يعود إلى الماضى العروضى ليبعث القصيدة «المدورة» عروضا ومعنى من ناحية موازية. وكان من الطبيعى والأمر كذلك أن يمضى جمال الغيطانى فى ذلك الاتجاه، فيعود إلى الماضى المصرى الذى وصل إلى ذروة انكساراته مع تدهور الدولة المملوكية التى انتهت بالغزو العثمانى لمصر سنة 1517م. هكذا أصدر مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» سنة 1969م، وقد لفتت المجموعة انتباهى بلجوئها إلى التراث المملوكى فى الكتابة التاريخية، واستخدامها مفرادته ومسكوكاته اللغوية. وكان ذلك فى قصته القصيرة «هداية أهل الورى لبعض ما جرى فى المقشرة»، وكانت هذه القصة القصيرة أول ما قرأت لجمال الغيطانى فى مجموعته القصصية الأولى التى صدرت بعد ذلك سنة 1969، فأصبحت علامة وبداية فى آن واحد. أعنى علامة على ظهور موهبة شابة نادرة، وبداية لتيار جديد فى الكتابة اكتمل فى المجموعة الأولى بما يشبه قصة «هداية أهل الورى لبعض ما جرى فى المقشرة» فى الصياغة الأسلوبية واستخدام الصيغ والمسكوكات اللغوية التى كان يستخدمها مؤرخو العصر المملوكى من أمثال المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى وغيرهم من مؤرخى العصر. وتتكامل هذه القصة مع قصة أخرى بعنوان «كشف اللثام عن أخبار ابن سلام» التى تبدأ على النحو التالى: «يا رب يا ساتر المؤمن من العيوب.. يا كاشف الغيوب.. يا من أرشدت قوما من دون الخلق إليك. ثم وفقتهم للاعتماد فى كل أمر عليك.. اللهم صل وسلم على نبيك سيد البشر.. كاشف الحقيقة وحامى الصدق، العائم فوق البحور الغريقة.. وبعد، اعلم أنى سطرت هذه السطور.. لا لشيء إلا ابتغاء مرضاة ربى.. وكشفا لحقيقة إنسان عرفت أخباره عن قرب. قاسى ما لم يقاسه الأولون.. وذاق مرا وهجاجا لم يذقه الآخرون. وفى أيامنا تضاربت حوله التواريخ. فثمة من ينسب إليه سَويّ الفعال. وآخر يحمل سيرته بما لم يجر ولم يحدث وزعم آخرون أنه وَهْم لم يوجد. ومن يعلم؟ ربما جاء فى قادم العصور من يرغب فى معرفة طرف من أخباره. فيكون حديثى هذا هاديا ومرشدا». وواضح من هذا النص، الطبيعة الأسلوبية للكتابة فى العصر المملوكى، فهى تبدأ دائما بالدعاء ثم تخرج من الدعاء إلى جُمل قصيرة واضحة الوقع الموسيقى، وذلك من خلال التسجيع الدائم فى الجمل القصيرة التى تنتهى بنفس الأحرف التى تشبه أحرف القافية ولا تخلو من مسكوكات مكررة مثل: «ابتغاء مرضاة الرب» أو«ما لم يقاسيه الأولون» أو «ما لم يذقه الآخرون». يضاف إلى هذه المقابلات والمطابقات والعناوين الفرعية مثل «درة» أو «حاشية»، إبراز الكلمات الدالة على التعجب وإثارة العبرة والعظة، والدعوة الدائمة بالرغبة فى الهداية والدراية لمن يقرأ أو لمن لا ينتبه إلى ما ينطوى عليه الأسلوب من تورية أو سخرية مراوغة. وتمضى قصة « كشف اللثام عن أخبار ابن سلام» فى ذكر أصله ونسبه إلى موته، عندما ثارت فتنة ابن عثمان وجنده، وما فعلوه فى بر مصر من أعمال وحشية، ومنها قتل الشيخ الورع ابن سلام الذى قتلوه قتلة بشعة أمام بوابة زويلة. وتتكامل مع قصة هذا الشيخ الطيب القصة الأخرى «دمعة الباكى على طيبغا منصف الشاكى» التى تمضى مستخدمة المسكوكات اللفظية التى كان يستخدمها مؤرخو العصر المملوكى مثل: «إفحام أهل العناد بالرد على ابن الحداد»، أو بعنوان القصة التالية: «إتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان». الطريف أن هذه المجموعة الأولى لجمال الغيطانى ضمت عددا من القصص الواقعية التى لم يلتفت إليها أحد مثل: «نوبة حراسة»، و«أيام الرعب» وغيرهما، فقد كان أكثر ما يلفت الانتباه فى المجموعة هو استخدامها للغة التراثية وللكتابة فى لغة العصر المملوكى، ومحاكاة مؤرخى العصر المملوكى والعثمانى فى الكتابة السردية التى لم تعد تقرأ فى كتب التاريخ القديمة، وإنما تقرأ فى سرديات عصرية تصل الحاضر بالماضى، وتجعل من الماضى مرايا للحاضر نفسه. وكان هذا يعنى فى ذلك الوقت - تحويل اللغة نفسها إلى مرايا للعصر المملوكى فى إشارتها المباشرة إليه من حيث المعانى الأولى. وفى الوقت نفسه تحويلها إلى مرايا للحاضر الذى تعكسه فى الماضى الذى يتحول إلى تمثيلات له. هكذا لفت جمال الغيطانى الأنظار إليه وأخذت الجماعة الثقافية المصرية والعربية تتطلع لكتابته التى أصبحت بداية مبشرة بوعد سرعان ما تحققت بوادره واكتملت ملامحه فى «الزينى بركات» التى صدرت 1974، فكانت الذروة الأولى من الذرى التى تتابعت بعد ذلك فى أعماله ابتداء من: «وقائع حارة الغيطانى» سنة 1976 و«خطط الغيطانى» سنة 1980، وهو عنوان يلفت الانتباه إلى محاكاته للعنوان الأصلى: «خطط المقريزى» الذى هو أحد كتب التأريخ للعصر الذى عاش فيه المقريزى. والحق أن العملين لم يضيفا جديدا جذريا إلى رواية «الزينى بركات» التى لا تزال تتلألأ بين الأعمال الأدبية لجمال الغيطانى. ومن اللافت للانتباه أن هذه الرواية التى كانت رواية المرحوم سعد مكاوى «الثائرون نياما» سنة 1963، أحد أصولها أو أحد أسباب انجذاب جمال الغيطانى إلى التاريخ المملوكى، سرعان ما جذبت إليها الانتباه النقدى، فكتب عنها الكثير من النقاد، خصوصا فى المغرب الذى صدر فيه أكثر من كتاب عنها، أهمهم فى تقديرى كتاب بشير القمرى، كما ترجمها فاروق عبد الوهاب إلى الإنجليزية. وكان أستاذا للأدب العربى فى جامعة شيكاغو، وتولى تقديم الترجمة بمقدمة بالغة الدلالة إدوارد سعيد الذى ظل يكنّ تقديرا خاصا لإبداع الغيطانى بوجه عام، وتميزه فى هذه الرواية بوجه خاص. وهو تقدير فى محله، فالوزن النوعى لجمال الغيطانى فى هذه الرواية لا يضعه فى الصف الأول من الروائيين العرب فحسب، بل بين كتّاب الصف الأول من أدباء العالم. هذا التقدير لجمال الغيطانى هو القيمة الإبداعية الخاصة التى تنطوى عليها أعماله. وما أعنيه بالقيمة فى هذا السياق - هو القدرة الإبداعية على تغيير المسار والإضافة الكيفية لا الكمية إلى الأساتذة الكبار أو حتى الكتّاب المجايلين من أبناء الجيل الذى لم يبق منهم إلا عدد لا يزيد على عدد أصابع كف واحدة. وقد تتلمذ جمال الغيطانى على نجيب محفوظ الذى أنزله منزلة شيخه، وجعل من نفسه مريدا بالغ الإخلاص للشيخ الذى تحول إلى قطب. ورغم ذلك عندما أمسك التلميذ بالقلم ليبدع، وعرفت يده السيطرة على هذا القلم، اختار طريقا فريدا كان أول الداخلين والماضين بجسارة فيه. وهو طريق الكتابة التى تتخذ من أحداث التراث المصرى ولغته الخاصة - خصوصا فى العصر المملوكى الذى انتهى بالغزو العثمانى - أقنعة ومرايا لرؤية أحداث الحاضر الذى كان لا بد أن ينتهى بهزيمة 1967، التى رآها موازية للغزو العثمانى لمصر الذى أنهى زمنا كاملا من محاولات الصعود التى كانت تنطوى على جرثومة فشلها، فانطوت فى داخلها على بذرة الفساد التى لم تتوقف عن النمو. وكان غوص جمال الغيطانى فى محلية تاريخه الوطنى واستعارة لغة أمثال المقريزى وابن تغرى بردى وغيرهما كثر، تقنية إبداعية تؤدى دورا رمزيا فى معالجة الماضى على أنه حاضر، أو الحاضر على أنه ماض، وذلك على نحو تنوس معه الكتابة بين الطرفين اللذين يبدوان أقرب إلى الذات والموضوع، لكن فى تحولاتها الدائمة التى تضع كل منهما مكان الآخر، فتقرأ أحداث الحاضر على أنه ماض، والماضى على أنه حاضر، وذلك فى لغة تحقق نوعا من التغريب الذى يتباعد بالقارئ عن التورط فى الموضوع، ويكبح حضور الانفعال الذاتى للكاتب، ويباعد ما بين القارئ وما يقرأ، بما يتيح له التأمل والقدرة النقدية على طرح الأسئلة التى لا تكف عن التولد، كى يعرف الكاتب والقارئ معا الإجابة عن الأسئلة الحائرة: كيف؟ ولم؟ ولماذا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولا يمكن أن ننسى أن اغتراب اللغة عن حاضر القارئ المعاصر، هو الذى أتاح لجمال الغيطانى صنع أليورياته السياسية على نحو ما فعل فى «وقائع حارة الزعفرانى» حيث تنضح الرواية بسخرية ماكرة من نظام الحكم الاستبدادى الذى لا يصيب المواطنين بالخرس أو الخوف فحسب، بل يقودهم إلى الإخصاء الجنسى بمعناه الرمزى الذى يحول بينهم وبين اكتمال الرجولة أو العجز الجنسى، ومن ثم تدمير الوجود الحيوى للكائن الإنسانى الذى لا تكتمل إنسانيته إلا بحريته وقدرته على التحقق الكامل فى الوجود وبالوجود. ولا يتباعد جمال الغيطانى فى ولعه بالتراث عن نبع التصوف الذى ظل ينهل منه، فتغدو لغة التصوف وأحواله وتحولات شطحاته، وبوارقه ولوامعه، أدوات بناء فى سرد تتحول فيه علاقات المكان والكائنات خصوصا بعد إلغاء حواجز المنطق، كى يغدو الشعور حرا كأحوال الصوفية، أو كالخيال الصوفى الذى لا يوقفه جدار من الجدران التى تحجز وعينا فى داخله، فتكون نتيجة ذلك «التجليات» التى تتجاور فيها شخصية «الأب» وشخصية «عبد الناصر»، فيتبادلان المكانة والموضع فى علاقة بالغة الثراء والتنوع يظل مدعاة لحيرة القارئ الذى ينوس خياله بين تنوع الأحوال وتلون اللمعات والبوارق واختلاف الأحوال الذى يمنح «التجليات» مكانتها الخاصة فى إبداع الغيطانى، والحق أنها رواية تكشف فى مستوى من مستوياتها عن هذا التضاد الغريب ambivalence)) الذى يجمع مثقفى الستينيات بعبد الناصر الذى أحبوه زعيما وطنيا وقائدا قوميا، لكنهم كرهوه مستبدا سياسيا وأدانوا سلطة الأمن والعسكرة فى حكمه الذى كان لا بد أن ينتهى إلى كارثة عظمى. والحق أن لغة الغيطانى فى رواياته، وآخرها «التجليات» تلفت الانتباه بعلاقاتها السردية وتشكيلها البنائى الذى يبدأ باستهلال وخاتمة، توجد أو تحذف أو تضمر، هى نوع من التخييل أو التغريب (بالمعنى الشكلاني) باعتماد السرد على مخطوط يتيح للباحثين معرفة ما كان يجرى فى مصر خلال الأزمان البعيدة، وذلك بواسطة حيل استخدام أساليب الدعاء التى تفتتح السرد القديم، ولوازم الإنشاء التى لا تخلو من الصلوات والتسليم على أشرف المرسلين، والدعاء بالغفران للكاتب، الراوى، المؤلف المضمر، فضلا عن المسكوكات اللغوية من التراكيب اللفظية التى لا يتقنها سوى جمال الغيطانى، فهى لغة «البصائر فى أهل المصائر». أضف إلى ذلك الوقف بين الفقرات واستخدام الدعاء: «رب يسر وأعن». والتشبيهات التى تكاد توقع التطابق بين المتشابهين، لا تقل حضورا عن الأوصاف التى تتحول بها الطبيعة والأشخاص إلى مرايا للشخوص والأحداث فى تجاوبات المكان والزمان، تماما كما تتجاوب الشخصيات القديمة المنتسبة إلى العصر المملوكى، كأنها مملوكية من حيث هى دال، معاصرة من حيث هى مدلول، وذلك فى بناء سردى ينطوى على تتابعات العتمة والتحول والمفارقة. وأخيرا، الاستطراد بذكر المُلَح والنوادر، فضلا عن كثرة أساليب الإنشاء التى توازى كثرة المحسنات البديعية التى يناسب بها المقال المقام. ونضيف إلى ذلك كله تداخل الأزمنة والأمكنة وتحولاتها ضمن تحولات الوعى وومضات الذاكرة التى تنوس ما بين الأزمنة والأمكنة بالقدر نفسه الذى تتحول به الأمكنة والأزمنة كى تتداخل فى حضورها فى ذاكرة التجليات. ولا ينفصل عن ذلك كله تأثر لغة الغيطانى وأسلوبه بالمصادر الثقافية التى كانت تتحول بتحولات الموضوع، فالتراكيب اللغوية المملوكية مثلا كانت تتناسب وكتابة «نهاية الورى فيما جرى فى المقشرة». وبواده الحدس والكشف والإشراقات هى مناط البناء والسرد فى «التجليات». فإذا تركنا ذلك كله إلى الوعى العميق بالواقع المصرى بتحولاته المختلفة ما بين الهزيمة ومحاولة الخروج منها فى حرب الاستنزاف، أدركنا التحول اللغوى والانتقال إلى لغة الحياة اليومية المصرية فى سرديات «أرض.. أرض» وفى «الرفاعى» حيث يتحول عالم الواقع القاسى والمر إلى صنع أسطورة لهذا الواقع، عندما يبرز أعظم ما فيه من أمجاد الإنسان. هكذا نرى المقاتل العظيم إبراهيم الرفاعى الذى استشهد وهو يقود جنوده فى حرب الاستنزاف (7691-0791)، حيث يفيد الغيطانى كل الإفادة من كل التقارير التى كان يكتبها ويطالعها حين كان مراسلا عسكريا، فضلا عن معرفته الشخصية لعدد كبير من أبطال حرب الاستنزاف، فيكتب عن الأبطال المعروفين مثل إبراهيم الرفاعى قائد المجموعة الفدائية، أو غير المعروفين مثل: «الغريب» الذى يتحول من مراسل بسيط لجريدة الأخبار إلى شخصية أسطورية يرى فيها كل مهتم بحرب السويس ما يهيئه له خياله الفردى أو الجمعى. والحق أن تنوع الأسلوب وتجليات الغيطانى المختلفة فى الكتابة يجعل من عالمه عالما بالغ التنوع والثراء. ولا يقصره على مدرسة بعينها فى الكتابة، فهو عابر للتصنيفات المعتادة أو أشكال المدارس المألوفة، وإنما هو مثل أستاذه نجيب محفوظ، عابر للمدارس، متنوع فى تجلياته الإبداعية، قادر على الانتقال من السرديات التراثية المصرية فى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، أو «الزينى بركات» إلى «أرض..أرض» و«حكايات الغريب» و«الرفاعى» و «ذكر ما جرى»، وذلك بالقدر نفسه الذى تنتقل به رواياته من «الزينى بركات» إلى «وقائع حارة الزعفرانى» إلى «هاتف المغيب» المختلفة عن «التجليات» تماما، وذلك بقدر أكبر من الاختلاف الذى نراه ما بين «رسالة البصائر فى المصائر» أو «شطح المدينة» و«متون الأهرام». وتبقى روايته الفريدة «حكاية المؤسسة» عملا يلفت الانتباه بما فيه من عناصر ما بعد حداثية تجعل منه عملا فريدا، أقرب إلى أسلوب الواقعية السحرية بغرائبية المكان وعجائبية الشخصيات وميتامورفوزيات الكائنات والشخصيات فى تحولات المكان التى لا تنفصل عن تقلبات الزمان. وظنى أن هذه الرواية ما بعد الحداثية بامتياز- لم تجد بعد من النقاد ما يفيها حقها من التفكيك والكشف الثاقب عن أسرار الدلالة والألغاز المتعمد للحكايات العجائبية التى تنبنى عليها تحولات الباطن والظاهر من فصولها. إن «حكايات المؤسسة» عمل لا نظير له فى إنتاج جمال الغيطانى الغزير والمتنوع والمتميز كميا وكيفيا، بما يجعل منه واحدا من أبرز وأنصع كتّاب الستينيات وأكثرهم تميزا. ولا غرابة فى أن يكون أكثرهم ترجمة إلى اللغات الأجنبية التى يعرف نقادها قدره وقيمته فى آن. ولقد كان جمال الغيطانى كاتبا جسورا، ليس فى مواجهة موضوعات الكتابة أو تقنياتها أو تغير أساليبها فحسب، وإنما كان جسورا فى مواجهة مرضه الذى جعله فى حالة مواجهة دائمة للموت بأنواعه: الموت غدرا، أو بواسطة سلطة غاشمة أو بواسطة مرض القلب الذى ظل يعانى منه. فواجهه المرة الأولى الحاسمة بكتابه «يوميات القلب المفتوح»، كما واجهه المرة الثانية بكتاب آخر أهداه لى رحمه الله -، وفى هذين العملين يواجه الغيطانى المرض بجسارة، فيكتب الأول عن «يوميات القلب المفتوح» التى عاناها أثناء ذهابه إلى العلاج للمرة الأولى فى الولاياتالمتحدة، وهو الأمر الذى فعله فى الكتاب الثانى عندما واجه الأمر نفسه فى الولاياتالمتحدة. وفى كلا الكتابين مواجهة شجاعة للمرض الذى هزمه فى المرة الثالثة فى القاهرة، فتركه وحيدا مع الواحد الأحد فى حضرة الموت الذى لبى فيه نداء «هاتف المغيب» كى ينهى «ثمار الوقت»، لكن لا لكى يخبرنا عن «أسفار المشتاق» أو حتى «نثار المحو». فالقلب قد استسلم ولم يعد صاحبه قادرا على «إتحاف الزمان» ب «هاتف المغيب» أو حتى «أحراش المدينة»، فلم يعد أمامه سوى الموت ونهاية طريق الإبداع فى مرضه، الذى أخذه إلى الموت تاركا إيانا فى عالم الحزن عليه وتذكرنا له بإبداعاته التى صنعت له مكانة خالدة بين كتاب الرواية العربية فى المسار الذى راده أستاذه نجيب محفوظ، فبكيناه بكاء مرا، آسفين على وفاته التى تركت جرحا غائرا فى أعماق نفوس قراءه ومحبيه. ولم يكن من الغريب أن يموت جمال الغيطانى فى الثامن عشر من أكتوبر 2015، رئيسا لتحرير «أخبار الأدب» التى جعل منها أهم صحيفة أدبية على امتداد العالم العربى كله، تاركا لنا ذكراه وذكريات حياته، ابتداء من الطفل الذى خطا أولى خطواته فى الحياة فى منطقة الجمالية فى القاهرة القديمة، وانتهت حياته وهو يجاهد الموت فى إحدى مستشفيات القوات المسلحة المصرية التى أحبها وكتب عنها منذ أن كان محررا عسكريا لجريدة «الأخبار» اليومية، فشهد حرب الاستنزاف (1967-1970) وحرب أكتوبر سنة 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، ويشاء القدر أن يموت فى أحد مستشفيات الجيش المصرى الذى أحبه وكتب عن أبطاله واحتضنه هذا الجيش فى نوبة الوداع الأخير لنا وللدنيا كلها، تاركا تراثا أدبيا يؤكد حضوره وتميزه وتفرده فى آن واحد - رحمة الله عليه - فقد كان مبدعا عظيما وصديقا عزيزا.