قراءاته للتاريخ ليست نوعا من الترف أو التسلية.. ولكنها قراءة كانت تبحث عن أصل مصر وشخصيتها وطبائعها كتب- شعبان يوسف:
لم تكن البداية سهلة على الإطلاق، ولم تكن مقصودة، ولم يخطط لها صاحبها وبطلها الكاتب والروائى الكبير جمال الغيطانى، بل كانت رحلة يسلم بعضها إلى بعض، وكأنها بالفعل مرسومة وفق برنامج مدروس بعناية فائقة، ولم تكن العشوائية والصدفة عنوانا بارزا لمسيرة جمال الغيطانى، فمنذ أن وعى جمال الغيطانى ذاته ككاتب، راح يضع نفسه فى مهب رياح عاتية، ليجاهد من أجل إتقان ما نذر نفسه له، أى الكتابة والسرد والحكى والاكتشاف، الكتابة التى يكتشف من خلالها ذاته، وذوات الآخرين، ويكتشف العوالم التى لم تطأ قدماه فيها قط. كانت المحطة الأول والمجهولة بالنسبة إلى بطلنا جمال الغيطانى، هى ميلاده الأول فى 9 مايو 1945 فى محافظة سوهاج مركز جهينة، وكان الميعاد غريبا ودالا ولافتا، فهو اليوم الذى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكفّت الحروب الدائرة فى كل مكان فى العالم، سكت العالم مؤقتا، لتبدأ حياة طفل سيصبح مع تقدم الزمن، من أهم كتّاب عصره، وأكثرهم ذيوعا وتأثيرا، بعد رحلة طويلة وشاقة من الجهاد مع الذات والمجتمع، جهاد أوصله إلى نتائج مذهلة، واكتشافات مبهرة. قبل أن يكمل عامه الثالث، ترك أبوه الصعيد، وخشونة الحياة، ليأتى إلى القاهرة، هذه الهجرة المعهودة، والتى يعرفها أى جنوبى، يريد أن يمارس نوعا آخر من الحياة، جاء الوالد الفقير جدا، والذى خلّد ابنه جمال أحمد الغيطانى سيرته فى كتاب من أجمل وأهم ما كتبه فى مسيرته، وهو «كتاب التجليات»، حكى فيه جمال عن أدق التفاصيل التى مرّ بها والده وأسرته، الرحلة فى المكان من جهينة إلى القاهرة، ورحلة فى الزمان منذ عام 1948 حتى عام الرحيل، سجّل فيه كل ما لم يستطع كتابته فى جنس أدبى آخر. جمال ينتمى إلى هؤلاء الذين يقولون إن كل حياة تختار أسلوبها وشخصياتها وأبطالها، وحياة والده احتاجت «التجليات»، ليكون الوالد بطلا أسطوريا، من أبطال الزمان والمكان، فلا فرق عند الغيطانى بين الزمان والمكان، فالزمان -حسب رؤيته- هو المكان السائل والمنساب والحر، والزمان هو الزمان المكثف والضيق والمختصر، وكان الوالد قادرا على مجاهدة الزمان والمكان، حتى يستطيع أن يليث بما يحلم به. كانت أحلام الوالد بسيطة ومشروعة جدا، تتلخص فى أن يكون مستورا هو وأسرته، وأن يكون قادرا على تعليم أبنائه، وبالفعل حصل على وظيفة بسيطة جدا فى وزارة الزراعة، وظيفة تكاد تنفق على الأسرة، وذاق الوالد شظف ومرارة الحياة، لكى تنعكس فى أولاد متعلمين ومثقفين، حسب المفهوم الشائع للمثقف فى ذلك الزمان. واستطاع الوالد عبر رحلة طويلة ومضنية أن يصل إلى بعض مبتغاه، التحق أولاده بالمدارس، والتحقوا بالجامعات، وتخرجوا فيها، ماعدا جمال الغيطانى، الذى درس الابتدائية فى مدرسة عبد الرحيم كتخذا، ثم مدرسة الحسينى الإعدادية، ثم بعدهما دخل مدرسة النسيج، وفى تلك المدرسة درس النسيج الفارسى الإيرانى، وأتقن معرفته، وكانت هذه الدراسة مدخلا لدراسة الخطوط والألوان والمنمنات ودقائق وتفاصيل الحياة كلها. جمال الغيطانى أحد الكتّاب المولعين بالتفاصيل، تلك التفاصيل الممتعة، والتى لا غنى عنها فى رؤية الرؤى كاملة، فأى ظواهر كبيرة، لا بد أن تتكون من ظواهر صغيرة، فالفقر والجهل والرخاء والتقدم والحضارة وكل المعانى الكبرى فى الحياة، لا بد أن تكون مداخلها ضيقة وصغيرة، لذلك فهو لا يقول إنه جاء مع أسرته إلى القاهرة، ولكنه يتحدث عن أول اصطدام للذاكرة بمكان لا ينمحى أبدا فيكتب عن تلك الغرفة التى سكنها والده عند مجيئه من جهينة «غرفة فسيحة فوق سطح البيت رقم واحد، عطفة باجنيد، حارة درب الطبلاوى، شارع قصر الشوك كما ذكره المقريزى، أو قصر الشوق كما يسميه الناس الآن، أقدم صور ذاكرتى ترتبط بتلك الغرفة التى استأجرها والدى للأسرة بعد أن عاش زمنا بحارة حوش قدم كما يسمى الآن، أو خوش قدم كما يعرف فى الماضى أى قدم السعد». هذا المكان المعلوم الذى أدركه جمال الغيطانى فى بداياته الأولى، فعلى الرغم من أن مسقط رأسه كان فى الجنوب، فإنه يعتبر نفسه قاهرى النشأة والتكوين وربما الوجدان أيضا، رغم جنوبية الأب والأم التى كانت قائمة وفاعلة فى البيت، يقول فى كتابه «قاهريات مملوكية»: «تفتحت عيناى على الأفق المزروع بالمساجد والقباب وظلال الأزمنة المنقضية، السماء القاهرية حادة الضوء صيفا، الهادئة، والمقطبة شتاء، أتاحت لوعيى وخيالى الانطلاق عبر تطلعى من السطح الذى كان يمتد أمام مسكننا الصغير، أينما وليت وجهى فثمة مئذنة، قبة، مدخل مسجد، لوحة خط، زخارف، نواصى مثقلة بالحنين، وأنفاس العابرين». المكان عند جمال الغيطانى هو العمارة، هو موسيقى الأبنية التى تتحول لديه إلى حكايات وقصص وسرديات كبرى وصغرى، المكان تاريخ وأزمنة وأوقات، لا يوجد مكان مجردا عن الزمان، ولا يوجد زمان سرمدى خارج الأمكنة والشوارع والبنايات، هكذا تكونت ذاكرة جمال الغيطانى. تعرّف الغيطانى على القراءة عندما عندما حصل على كتاب «البؤساء» لفيكتور هيجو، اشتراه من أحد باعة الصحف من عيديته التى كان مقدارها خمسة قروش، دفعها كاملة فى الكتاب، وعاد إلى المنزل سعيدا، ليلتهم صفحات الرواية المشوقة التى ظل طوال حياته يتذكر صفحات كاملة منها، بعدها راح يتعرف على عوالم أخرى من مجلة «سندباد» التى كان يصدرها محمد سعيد العريان، وانطبعت فى ذاكرته رسومات بيكار الفنان العظيم، والتى كان يصممها ويضع رسوماتها، ثم كانت روايات كامل الكيلانى تالية لذلك. ولكنه لم يستمر فى ذلك كثيرا، إذ تعرّف على مكتبة الشيخ تهامى، وكانت بالنسبة له فتحا فى عالم القراءة، وكان الشيخ تهامى وزملاؤه يتاجرون فى الكتب القديمة من الروايات وكتب الفقه والتراث، وهناك تعرّف على قارئة كانت تتردد على مكتبة الشيخ تهامى، وكان اسمها "فرنسا"، وكانت تعشق روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعى ومحمد عبد الحليم عبد الله، بينما هو استغرقته روايات أرسين لوبين «هذا اللص الشريف الذى كان يسرق من الأغنياء ويعطى الفقراء، وقد تخيلته إلى درجة أننى رسمت له ملامح شخصية بخيالى، بحيث كنت أوشك أن أراه فى الطريق يسعى، ولأننى أعيش فى حارة يسكنها فقراء، ولأننى أنتمى إلى أسرة يعانى عائلها كثيرا، كنت أحلم بإنشاء جماعة سرية، تسرق من الأغنياء، وترسل المساعدات إلى الفقراء». بالطبع لم يتوقف الغيطانى أمام أرسين لوبين طويلا، بل تجاوزه إلى كتابات وروايات مترجمة أخرى، كانت تصدر عن روايات الجيب، والتى كان يترجمها عمر عبد العزيز أمين، وكانت هذه الروايات تتميز بتلخيص الروايات العالمية لدوستوفيسكى ومكسيم جوركى وأنطون تشيخوف ورفائيل ساباتينى وغيرهم. كان الصبى جمال الغيطانى شغوفًا بالروايات الأجنبية المترجمة، وتعرّف عليها قبل أن يقرأ الروايات العربية، ولكنه سعى لكى يقرأ لنجيب محفوظ، لأنه كان توّاقا إلى التعرف على ما كان يكتبه محفوظ عن الأماكن التى يعرفها ويتجول فيها، مثل خان الخليلى وقصر الشوق والسكرية، وبعد قراءته لتلك الروايات، انتابت الغيطانى رغبة جارفة للتعرف على ذلك الكاتب المصرى الكبير، الذى لفت نظره، وأعاد معرفته بالأماكن التى يسكنها ويسير فى شوارعها وأزقتها ودروبها بشكل يومى، ومن خلال روايات محفوظ، كان يتعرّف عليها مرة أخرى. جمال الغيطانى كان نهما فى تلك السنوات، وكان مقبلا على القراءة بشكل جنونى، فعرف التراث الروائى العالمى، وقرأ بعضًا من التراث العربى، وعندما تخرج فى مدرسة النسيج، واشتغل فى مهنته التى عشقها واستفاد منها، حيث كانت دراسته للنسيج الفارسى، فرصة عظيمة لتدريب نفسه على الخطوط المتعددة، وتعرّف على الجماليات المختلفة فى اتجاهات النسيج، ليكن النسيج بالنسبة له مجرد مهنة يرتزق منها، بل كانت مجالا واسعا للتعامل مع عوامل مختلفة، ربما لن يصادفها فى أى مجال آخر، وعالم النسيج أدخله إلى عالم العمارة ودراسة المنمنمات، والعمارة والمنمنمات عند الغيطانى، ليست مجرد أبنية وأشكال وقوالب، ولكنها فلسفات ورؤى تنم عن مبدعيها، ومن يقرأ فيما بعد روايته الفاتنة «سفر البنيان»، سيدرك ولع جمال باكتشاف عادات وتقاليد وسمات الناس ووجدانهم الجمعى من خلال تفكيرهم. يقول الغيطانى عن عمله فى استطلاع أجرته مجلة «الطليعة» فى سبتمبر سنة 1969: «كنت أعمل فى الجمعية الصناعية لمنتجات خان الخليلى، وبرغم متاعبها الوظيفية، ومواعيد العمل التى كانت تجعل وقت قراءتى قاصرا على فترة معينة -ليلا- وعلى حساب ساعات من فترة نومى، غير أن هذا العمل أتاح لى فرصة معايشة ناس لا أعتقد أننى سوف ألتقى بهم فى مجال آخر، خصوصا أنه كان متصلا بالحرفيين وبالصناعات اليدوية التى نحمل فى طياتها تراثا شعبيا عريقا -صناعات خان الخليلى- وأنا شخصيا شديد الاهتمام بتاريخ المنطقة التى أعمل فيها، تتبع الأحداث، وتاريخ المبانى الأثرية، وتفاصيلها، ودراسة معمارها، أيضا تاريخ الحوارى والخطط والشوارع، وقد أتاح لى هذا جوا خصبا وغنيا جدا». جمال الغيطانى يستطيع أن يحوّل أى شىء إلى مجال للتأمل وللكتابة وللسرد، ومن يتذكر روايته «أيام الحصر»، التى كتبها إثر أزمة صحية تعرض لها، فسرد تفاصيلها المخيفة كاملة، ولكن فى سرد شائق، كذلك روايته «حكايات المؤسسة»، والتى سرد فيها وقائع جرائمية فى عالم الصحافة بطريقته الخاصة. جمال الغيطانى يسعى دوما لإبداع شكل عربى للرواية، وهو الذى اندهش من افتتان الناس بكتابات ماركيز، وقد قالوا عنها «الواقعية السحرية»، وقال بأن المتصوفة هم الآباء الحقيقيون لذلك النوع من الكتابة، فذلك الصوفى القديم الذى كان يقول بأنه صلّى صلاة الظهر فى مكة، ثم صلاة العصر فى القدس، وبعدها طار إلى مسجد فى قرطبة ليلحق بصلاة المغرب، أليس ذلك واقعية سحرية ،كانت تعيش بيننا مئات السنين، ونحن لم ندركها إلا عندما جاءتنا من الخارج. بعد القراءات العديدة التى كوّنت الصبى الذى صار فتى يافعا، فاقتحمته الكتابة عام 1959، وكان يعيد إنتاج حكايات الوالد ويكتبها فى قصص، وبالفعل كتب قصة "السكير"، وبالطبع لم ينشرها، ولكنه نشر بعض قصصه فى جريدة «المحرر»، التى كان يصدرها غسان كنفانى فى بيروت، وجمع بعضا من القصص، وأرسلها إلى دار الكتاب للتأليف والنشر الحكومية، وهناك كانت السيدة شفيقة جبر مدير عام النشر، هى التى تقرر الكتب التى تنشر، فأرسلت له فورا، وذهب إليها، وتناقشت معه، وقالت له بأنه موهوب جدا، ولكن المجموعة كانت تحتاج إلى إصلاحات نحوية ولغوية، وقالت له إنها تريد دعوته إلى المنزل، ليتعرف على ابنها الشاب أحمد الخميسى، الذى يكتب قصة مثله، وكذلك تريده أن يناقش زوجها عبد الرحمن الخميسى، وسألها الغيطانى: «هل هو مؤلف ألف ليلة وليلة الجديدة»، فردت عليه بالإيجاب، وبالفعل ذهب جمال إلى بيت الخميسى، حيث تعرّف هناك على مجموعة من الكتاب الشباب، منهم صلاح عيسى وصبرى حافظ وسيد حجاب وآخرون، ومن خلال صلاح عيسى تعرّف على الفكر الاشتراكى، والاهتمام بالتاريخ، وانفتح جمال على تجربة اليسار بكل تفاصيلها. كان ذلك فى الأعوام الأولى من الستينيات، وتكونت مجموعة من المثقفين والمبدعين اليساريين، إبراهيم فتحى وغالب هلسا ومحمد عبد الرسول وجلال السيد ويحيي الطاهر عبدالله وسيد خميس وآخرين، ونشرت مجلة القصة فى عدد خاص عن القصة القصيرة، قصة «أحراش المدينة»، وكتب عنها د.على الراعى تعليقا نقديا، وكان ذلك أول كتابة نقدية تناقش عملا إبداعيا للغيطانى، ورغم اقتناع على الراعى بموهبة الغيطانى، فإنه أخذ عليه تأثره الشديد بنجيب محفوظ، وهذا التعليق لم يرض الغيطانى، وكان لم يبلغ العشرين من عمره، فكتب نصا نقديا مطولا نشرته المجلة فى العدد التالى، ومن الطريف أن يكون على الراعى كاتب المقدمة النقدية لمجموعته القصصية «أرض ..أرض» التى صدرت عام 1972. بدأ اسم الغيطانى ينتشر ككاتب للقصة القصيرة، وكان كما قال فيما بعد بأن العمل كان قاسيا، ولكنه كان يجتمع بمجموعة اليسار التى بدأ يعلو صوتها رويدا رويدا، وكتب غالب هلسا ثلاث مقالات فى جريدة الحرية اللبنانية، وبعد نشر تلك المقالات تم القبض على كل من يعرفون غالب هلسا، وكان الغيطانى أحدهم، وكان ذلك فى أكتوبر عام 1966، كان مع الغيطانى معظم الأسماء التى ذكرنا من قبل، ونال هؤلاء الشباب دفعات من التهذيب والإهانات البالغة والتى تركت أثرا كبيرا فى نفوس هؤلاء الشباب، وبعد خروجهم من الاعتقال فى مارس 1967، راح جمال يعبّر عن نفسه فى الفن، والكتابة القصصية، ويبحث عن وسائل جديدة للتعبير عن مراراته، وكان قد التقى بالتاريخ، هذا التاريخ الذى أرشده إليه صلاح عيسى، فقرأ «بدائع الزهور فى وقائع الدهور»،ويكاد يكون حفظه. كانت قراءاته للتاريخ ليست نوعا من الترف أو التسلية، ولكنها قراءة كانت تبحث عن أصل مصر، وشخصيتها وطبائعها ونقاليدها، فاتجه فى كتابته إلى محاكاة التاريخ، ليست محاكاة للهروب من التعبير المباشر، ولكنها حيلة فنية لاكتشاف هوية مصر. كان جمال يستدعى التاريخ ولكن عينه على الواقع، فكتب مجموعته الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، وتضمنت تلك المجموعة الأولى خمسا من القصص، وهى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام، والمقتبس من عودة ابن إياس إلى زماننا، وأيام الرعب، وهداية الورى لبعض ما جرى فى المقشرة، وكشف اللثام عن ابن سلام»، وكوّن مع زميليه محمد يوسف القعيد وسمير ندا، سلسلة أو جماعة ليصدروا نصوصهم تحت عنوان "كتاب الطليعة"، ودفع كل واحد من الثلاثة مبلغ عشرين جنيها، وصدر العدد الأول، وهو مجموعة «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، وكان ذلك فى أواخر عام 1969. وجاءت الكلمة البيان لتعبر عن صوت الجماعة ،تقول الكلمة :"بصدور هذا الكتاب ،تبدأ سلسلة جديدة تحتضن التجارب الواعدة ،لأدبائنا الشباب ،لتساهم ما وسعها فى حل مشكلة النشر بالنسبة لهم ،مقدمة لهم زادا من الخبرة المدعمة بالإخلاص والصدق ،إيمانا منها بما يمكن أن تقوم به الكلمة الملتزمة فى حياة الشعوب ..إن هذه المحاولة مجال مفتوح لكل تجربة طليعية مصرية أصيلة ،لا تصد عن المغامرات الفنية ،ولا تلتزم إلا بالصدق مع الفن ومع الجماهير ،فى هذه المرحلة من تاريخ النضال المصرى والعربى "وجاء التوقيق "أدباء الطليعة"، وجاء فى ذيل الكلمة "مدير التحرير :ابراهين فتحى .الناشر والمحرر المسئول :سمير أحمد ندا". بعد صدور المجموعة القصصية ،قوبلت بحفاوة منقطعة النظير ،لم يكن جمال قد بلغ الرابعة والعشرين من همره ،فكتب عنه فى صحيفة الأخبار الناقد الكبير محمود أمين العالم ،وكتب محمد عودة وعلاء الديب وعبد الرحمن أبو عوف ،وغيرهم ،وفوجئ الشاب جمال الغيطانى بهذه الحفاوة ،بعدها استدعاه محمود مين العالم وألحقه بجريدة الأخبار ليعمل صحفيا ،وفى ذات التى كتبها فى سبتمبر 1969 كتب يقول : «منذ شهور تغير عملى إذ انتقلت إلى جريدة الأخبار للعمل بها ،وقد أتاح لى العمل الجديد فرصة أوسع للقراءة ،ولشمولية الرؤية». وانخرط الغيطانى سريعا فى العمل الصحفى، حتى تختاره إدارة الصحيفة ليذهب إلى الجبهة، حتى يغطى أحداث حرب الاستنزاف، ويكتب كتابا فى غاية الأهمية وهو كتاب "المصريون والحرب"، وهو من أهم الكتب التى تعتبر المرجع الأساسى لحكايات الجبهة فى تلك الفترة، وكذلك يكتب قصصه «أرض ..أرض، وحكايات الغريب، والرفاعى، والزويل والحصار من ثلاث جهات»، وتعتبر هذه المرحلة التى كتبنا عنها، هى مقدمة طبيعية ومهمة وحافلة بالأحداث، تختلف تماما عن المرحلة التى أتت بعد ذلك، والتى أبدع فيها رواياته الأهم مثل «الزينى بركات ووقائع حارة الزعفرانى وهاتف المغيب وشطح المدينة»، وغيرها من روايات ، ولكن المرحلتين تتشابكان وتتقاطعان بقوة، لتعطينا واحدا من أهم الروائيين فى عالمنا المصرى والعربى والإنسانى المعاصر.