في نهاية مقالٍ له نُشر قريبًا، عن الروائي الراحل جمال الغيطاني، يقول الكاتب نبيل عبد الفتاح، إنه أحد أكبر كُتّاب الرواية العربية، ومن هنا جاء احتفاء الغرب بأعماله وكتاباته، ونشرها في أكبر دور النشر الفرنسية علي وجه الخصوص، كدار سوي. جمال الغيطاني علامة مضيئة في خريطة الأدب المصري والعربي، وهو إنسان جميل لطيف المعشر، محب لمصر ولأصدقائه وللحياة. أما الكاتب الكبير علاء الديب فيقول، علي ظهر الغلاف الأخير للمجلد الأول من أعمال الغيطاني الكاملة، ويضم أربع مجموعات قصصية من بينها "أوراق شاب عاش منذ ألف عام. "اهتدي الغيطاني في أعقاب 67 إلي أسلوب مميز، فقد عاد بلغته وتركيب جمله إلي التاريخ، إلي ذاكرة الناس، وكذلك تلاقت كتابات الغيطاني مع أحاسيس الناس في تلك الفترة، ووضَعَه النقاد والقراء في مكان الصدارة".الديب يري أن أعمال الغيطاني قد توالت مؤكدة علي أنه كاتب متمكن، يتمتع بقدر كبير من الدأب والإصرار، ويضيف أيضًا أن أهم ما يميز أعمال الغيطاني من 1969 إلي 1980 هو الإصرار علي الإحساس بالمسئولية الاجتماعية للأدب، الإحساس بأن للأدب وظيفة لخدمة الناس ومناقشة ما يعانون منه من قضايا ومشكلات.ثم يُلخص الديب رأيه في كتابات الغيطاني فيقول إن الخلق والإبداع هو المجال الذي ينطلق إليه إصرار الغيطاني وعمله الدائم. شهادة ميلاد أما الغيطاني فيقول إنه اقترض 35 جنيهًا من يوسف القعيد، بهدف شارك بمثلها ليطبعا معًا مجموعة الغيطاني الأولي، ورواية القعيد الأولي كذلك.الغيطاني يري أن هذه المجموعة كتبت شهادة ميلاده ككاتب، إذ كتب عنها وقت صدورها كل من لويس عوض، علي الراعي، لطيفة الزيات، وكتابات هؤلاء كانت تُمثّل للغيطاني ختم النسر، ولهذا لم يتوقف عن الكتابة من يومها.الغيطاني يقول في مقدمته ل "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، المجموعة التي تمزج ما بين الماضي والحاضر، ويتحدث فيها عن نكسة يونيه، وعن المعتقل وحالة الفصام التي يعيشها السجّان الذي يقتل ويعذّب ويظلم كثيرين ظلمًا بيّنًا، ثم يروح فيصلي ويدعو الله أن يسامحه ويتوب عليه : "عثر علماؤنا علي هذه الأوراق أثناء عمليات تنقيب في المنطقة الواقعة شمال مصنع المرئيات رقم ستين، حيث قامت منذ ألف عام مدينة كبيرة يُحْتَمل أن يكون اسمها "المنيا" أو "أسيوط"، وتخص تلك الأوراق أحد سكان هذه المدينة.وقد كتبها أثناء الحرب التي نشبت في تلك الأحقاب البعيدة بين أجدادنا علي ضفاف النيل وبين دويلة صغيرة لم يصلنا غير معلومات ضئيلة عنها، وكانت تُسمَّي إسرائيل.لكن من المعروف أن هذه الدويلة قد اختفت تمامًا بعد ذلك وضاعت أخبارها نهائيًّا.ونري هنا مشاعر أحد أجدادنا في هذا العصر البعيد حيث يبدو أن وطنه كان يتعرض لبعض الأخطار، كما نلمس أيضًا إحساسات أبناء هذه الفترة المليئة بالتناقض قبل انتصار الاشتراكية في كوكب الأرض كله، كذلك أورد هذا الشاب مختارات من قراءاته ومن معالم العصر، وقدمنا هذه الأوراق كما هي، فيما عدا توضيحات بسيطة راعينا أن تكون في أضيق الحدود، إننا لا نعرف تفصيلات كثيرة عن كاتب هذه الأوراق، لكننا لا نملك إلا الإحساس بالاحترام لأحد المكافحين الأوائل المجهولين لنا، والذين مَهّدوا لحياتنا هذه". أوراق شاب عاش منذ ألف عام تضم خمس قصص قصيرة كتبها الغيطاني عقب الهزيمة التي لحقت بالجيش المصري في ما يُسمي بنكسة يونية عام 1967، وصدرت منها طبعات عديدة، بعدما لاقت نجاحًا كبيرًا وحققت صدًي واسعًا لدي النقاد والقراء علي حد سواء.أما موسوعة ويكيبيديا فتقول عن هذه المجموعة إنها مجموعة قصصية رائدة من حيث إحيائها للتراث المصري الإسلامي، وقد حملت بذور ما سيكتب جمال الغيطاني طوال مسيرته اللاحقة، كما ارتبطت في الأذهان بحدة نبرتها السياسية، إذ إن كل القصص التي تضمها المجموعة ذات مضمون سياسي معاصر، رغم تناولها أحداثًا موغلة في القدم، إذ تناولت مثلا قصة "هداية أهل الوري لبعض ما جري في المقشرة " موضوع التعذيب في السجون واعتباطية ممارسة السلطة وتحدثت قصة " أوراق شاب عاش منذ ألف عام " عن هزيمة 1967 من منظور مواطن عادي. هذه المجموعة المهمة نشرها أول مرة الروائي والمترجم سمير ندا في مطبعة صغيرة كانت تقع في شارع الترعة البولاقية بشبرا، وكان اسمها مطبعة الجبلاوي. يوسف القعيد، الذي نشر له سمير ندا أيضًا روايته الأولي، يقول إنه لولا سمير ندا المثقف الموهوب ما طُبعت أوراق شاب ولا روايته هو، كما يذكر أن الغيطاني قدّم الرواية للمطبعة تحت اسم أيام الرعب، لكنه أشار عليه بأن يجعل اسمها أوراق شاب عاش منذ ألف عام، فهو أفضل وأكثر دلالة. كتابة استثنائية أما نبيل عبد الفتاح فيقول في مقال نشرته له الأهرام عن كتابة الغيطاني إنها كتابة خاصة واستثنائية تلك التي فتح بها جمال الغيطاني مساره السردي والروائي الجديد منذ مفتتح عمله الأول أوراق شاب عاش منذ ألف عام، مروراً بمنجزه الروائي المتميز في الفضاءات السردية العربية، الزيني بركات وحارة الزعفراني، والتجليات، ونصوصه المتفردة حول المدينة الأثيرة القاهرة المحروسة وأسرارها في التاريخ، ومكنوناتها في البشر وحركة الحياة والمعمار وموسيقاه التي تنساب عندما يقترب منه العشاق المتيمون سيمفونيات الحجر ومتتالياته وبنياته وتشكيلاته، وبالعقل المعماري وجماليات الأيادي الخشنة التي تبدع جمالها وروحها الوثابة المتحضرة في عملية البناء...كتابة ملهوفة دائمًا بالإنسان المصري وعمق أعماقه فيما وراء التاريخ المكتوب وما بعده، وتحاول أن تستنطق عبقريته في الزمان، وفي البناء.كذلك يقول عبد الفتاح، متحدثًا عن لغة الغيطاني إنها لغة كاتب مقتدر غاص في بحور الشعر العربي وكبار شعرائه، وعصوره ومدارسه، وفي نثره وسرديات التاريخ المصري في جميع مراحله، ومن هنا سر ولعه بلغة المقريزي والجبرتي وسواهما، واستعارته لها في يوميات شاب عاش منذ ألف عام، عمله الأول الذي كان مفاجأة للحركة الأدبية والنقدية، وحمل لغة خاصة ومعها عوالمها التاريخية ليكتب عن عصره وحالاته.كذلك يستمد الغيطاني من تاريخ مصر العربي الإسلامي صورًا حية تشير إلي ما حدث من تحولات في ذاك العصر الذي يُطلق عليه العصر الزئبقي، وتتيح للحاضر أن يمتد داخل الماضي.الغيطاني يقول في أحد حواراته إن محمود أمين العالم قال عنه بعد صدور أوراق شاب عاش منذ ألف عام، إنه اخترع شكلًا جديدًا من القص، هو قصّ التاريخ، وبهذا نبّه العالِمُ الغيطاني إلي طريقة السرد التي يكتب بها، وهي أساس توجهه إلي الواقع.الغيطاني يري أن الدافع للكتابة عنده هو مقاومة العدم. لم يكتشفني أحد الغيطاني يذكر أيضًا أنه كان قد كتب ثلاث روايات قبل أوراق شاب عاش منذ ألف عام، ونشر ما يقرب من سبعين قصة.وفي نهاية مقالي هذا أذكر ما قاله الغيطاني عن نفسه ذات حوار: » لم يكتشفني أحد، والدي كان رجلًا فقيرًا وعاملًا كادحًا، وأنا مولود في قرية بعيدة في الجنوب في حارة سد، هذه الصورة التي أمام مكتبي معلقة علي الحائط، حارة منذ 100 سنة.سأحكي يومًا ما تفاصيل هذه الرحلة بدقة..تعتبر معجزة، الله خلقني كاتبًا عدا ذلك مكملات « .وها هو جمال الغيطاني يرحل بجسده عن دنيانا، لكن تظل أعماله الرائعة، وبصمته الخاصة في عالم الكتابة عمومًا، باقية إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، ينهل منها كل مريد، ويستفيد منها من أراد أن يتتلمذ علي يد أستاذ كبير في عالم الرواية...