د. إبراهيم منصور كان الشاب الصغير جمال الغيطاني مشغولا بما يدور حوله في مصر عامة، وفي القاهرة خاصة، من وقائع وأحداث، حرب اليمن (1962- 1967) ثم هزيمة يونيو 1967، وبعد ذلك حرب الاستنزاف (1968- 1970) حيث أصبح الغيطاني مراسلا حربيا لجريدة «الأخبار» القاهرية منذ عام 1969. كذلك انشغل الكاتب الشاب بما يحيط به من ظروف اقتصادية خانقة فهو ابن الطبقة الوسطى الدنيا، يعاني في كسب لقمة العيش له ولمن يحيطون به من أهل وعشيرة، كما يشغل ذهنه ما يجري في الشارع والعمل من معاناة البسطاء من الناس. ذكر جمال الغيطانى (1945- 2015) أن أول قصة نشرت له فى يوليو من عام 1963 بعنوان «زيارة» معنى ذلك أنه بدأ الكتابة فى سن الثامنة عشرة، وقد استمر يكتب لمدى تجاوز الخمسين عاما، فلا عجب أن يترك هذا الإنتاج الواسع الرحيب، وقد مثل السرد الشطر الأعظم منه. إن الكاتب الروائى قد يحاول أن يجيب على أسئلة تتعلق بالأحداث التى تشغله، حينئذ قد يصبح ما يكتبه من «رأي» و «تحليل» مقالا أو بحثا على نحو يميل به بعيدا عن الفن. فالفكرة التى تشغل ذهن الكاتب لابد أن تتحول إلى «شكل» فنى، والكاتب ملزم بأن يصطنع شكلا لقصة، والقصة تحمل فى داخلها تلك الأفكار التى تشغل ذهنه، بل نستطيع أن نقول تضجُّ مضجعه، لذلك فالكاتب لا يبتعد عما يحيط به من معالم المستوى «الزمكاني» لسرده، إنه فى مدينة القاهرة، حيث انتقلت الأسرة من سوهاج فى الجنوب. الوقت صيف، الصحف والمجلات والتليفزيون والسينما معطيات فيها أخبار مثلما الشارع والبلكونة والفندق والمسجد والمنزل والمصنع، فهى أماكن يقيم فيها ويجول ويعمل، الكاتب / الرواى يشم الروائح ويذوق الطعوم ويسمع الأصوات، وكل هذا يحيط به ويشغل من رأسه مساحة واسعة، فماذا يبقى له لكى يصنع القصة؟ إن الأعمال السردية الأولى لجمال الغيطانى قد أعيد نشرأغلبها فى المجلدالأول من أعماله الكاملة (الأعمال القصصية ج1 الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1990، من ص 5 حتى ص 229) ونشر بعضها فى المجلد الثانى من الأعمال الكاملة للكاتب، هذه الأعمال هي: مجموعة قصص «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» ومجموعة «الحصار من ثلاث جهات» و«إتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان» ونشر تجمعيها بين عامى 1964 و1970م، لكن الناشر لم يعنَ بالترتيب الزمني للنشر فى وضع قصة «خراب الجسور» المنشورة عام 1972 قبل قصة «إتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان» المنشورة عام 1969. وأخيرا مجموعة «أرض.. أرض» وعلى أية حال فالأعمال الأولى لجمال الغيطانى كما أراها هى الأعمال التى نشرت فى عمر الكاتب بين سن العشرين والخامسة والعشرين. يصنع جمال الغيطانى فى أعماله الأولى مجازاً أو «أليجوريا» إنه ينسج دائماً خطين متقابلين الأول نرى فيه التخييل يستبق المستقبل لكى يكشف عن الحاضر، أما الخط الثانى فنرى فيه التخييل يعود للماضى لكى يجعل ابن إياس (852-922 هجرى) المؤرخ المصرى يرى بعين زمانه ما يجرى فى الحاضر أيضاً. هنا تظهر التيمة أو الفكرة المركزية التى تدور حولها القصص. تمثل «المفارقة الزمنية» سمة بارزة فى البناء السردى فى هذا الوقت المبكر من إنتاج الكاتب، كما تمثل «جهة النظر» السمة الثانية التى عرف الكاتب كيف يوظفه لبناء القصة، حيث ينوع الكاتب فى أدوار الراوى، وأخيراً تأتى اللغة (المفردات وبناء الجملة) فى المرتبة الثالثة من البناء السردى. كما يتعدد زمن القصة فى هذه الأعمال الأولى لجمال الغيطانى،فإن الخطاب الروائى يصبح متعدد الزمن متغيره، ويمكن القول إن الزمن السردى يسير فى خطوط بعضها رأسى (صاعد وهابط) وبعضها دائرى ملتف. أما الزمن الخطى فيسير على النحو التالى: الخط الهابط (ابن إياس) – السرد أما الخط الصاعد (شاب من الحاضر) يعود من الماضى ليرقب (فتظهر بعد ألف عام مذكرات كتبها عن الحاضر) وأما الزمن الدائرى ففيه يكون الزمن نقطة مركزية ثابتة هو الزمن الحاضر، لكن السارد لا يحب هذا السكون، إنه راغب دائماً فى صنع المفارقة الزمنية وتنويعها، على النحو التالي: زمن الخطاب ثم زمن القصة ثم زمن الخطاب. يربط الراوى فى قصة «أرض.. أرض» بين الحدث الذى هو بؤرة القصة وصلب بنائها أى سقوط الصاروخ وبين الساعة التاسعة والنصف، زمن سقوط الصاروخ، ومع ذلك فإن السارد يأبى إلا أن يخرج عن هذه النقطة المركزية وهى زمن القص، فنجد مصطفى أبو القاسم يقول وهو يروى قصته وقصة صديقه الذى يدور به على المستشفيات والمسئولين، فى حركة محمومة لإعادة سمعه وبصره «ولو قلت لشخص بعد عشر سنوات أو خمسة أو سنة واحدة حتى، إن أمى ماتت وإخوتى السبعة الطالب منهم والمزارع وأختى الوحيدة كلهم ذهبوا لنظروا إليّ بشك وقالوا مجنون». فى قصة «زيارة» نجد الراوى يحكى القصة بالضمير الأول (أنا) وهناك الأم والأب، والأخت، كما نجد الوظيفة، التراب والديون، وأخيراً الحسين السيرة والحي. وفى نهاية القصة تتغير وجهة النظر فيحدثنا الراوى العليم قائلا «وازدادت خطوات عماد وهو يقترب من الباب الكبير الذى تزاحم أمامه الناس والباعة..» فى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» يصطنع الكاتب حيلة سردية هى «العثور على أوراق بها قصة مروية» ولأن الأوراق غير كاملة فإن القصة غير مترابطة، إنها شذرات من وقائع، لكننا سوف نرى أن الأحداث المروية هى عين الأحداث التى يعاصرها الكاتب، حيث حرب فيتنام، والقطيعة بين مصر والولايات المتحدةالأمريكية، ودويلة صغيرة مجاورة لمصر (حيث لا تعترف مصر بإسرائيل) وأفلام تُعرض فى السينما فيها نجوم مثل حسن يوسف ونجاة الصغيرة، والطائرات تغير على الداخل المصرى قبل بناء حائط الصواريخ.. إلخ أما قصة «أيام الرعب» ففيها يستخدم الكاتب تاريخ ميلاده الحقيقى 9/5/1945 ووظيفته الحقيقية «رسام بالمؤسسة العامة» ومحل الإقامة فى كفر الطماعين بحى السيدة زينب، القصة تروى معاناة شاب من الجنوب يطارده قاتل يبحث عنه للثأر منه، وقد كان يظن أنه بمأمن لأن الثأر كان على أبيه وأبوه قد مات، لكنه فجأة يتلقى خطاباً من جده يخبره فيه أن صاحب الثأر قد خرج من السجن، وأنه طالب رأسه لا محالة. فيعيش الشاب فى همّ وغمّ، بل فى رعب لا يُطاق انتظاراً لساعة المصير المحتوم حيث يطارده القاتل أينما وُجد. وفى قصة «هداية أهل الورى لبعض ما جرى فى المقشرة» يعود الكاتب لحيلته السردية التى جربها من قبل وهى «العثور على مخطوط به قصة» والمخطوط هذه المرة مكتمل متماسك، لكنه طريف جدا إذ يحتوى على مذكرات آمر (مدير) سجن «المقشرة» أيام المماليك، وقد جاء فيها «اعلم – غفر الله لنا جميعا- أن السجن الذى أنا آمره يقع بجوار باب الفتوح، فيما بينه وبين جامع الحاكم بأمر الله، وسمى بالمقشرة، لأنه أقيم فى موضع كان يقشّر فيه القمح. والعامة والسوقة والمشايخ وجميع أهل مصر يقولون أنه من أبشع السجون وأشدها هولاً» وأما قصة «اتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان» (نشرت 1969) فهى قصة تراثية، و«جلبى السلطان» هو حلاقه الخصوصى،وهو فتى فقير يتيم اسمه عبدالرازق، عاش فى زمن السلطان قانصوة الغورى (1446-1516م) لكن الحظ ابتسم له حين رُشح لكى يحلق ذقن السلطان فرضى عنه وجعله «جلبى السلطان» يعيش فى معيته ويتمتع بشهى الطعام وفاخر الثياب. يتناوب الرواة حكاية قصة عبد الرازق فأستاذه فى حرفة الحلاقة يحكى طرفاً من القصة، وعبد الرازق نفسه يحكى طرفاً، ثم يقوم الراوى العليم على جانب من القصة. حيث تنتهى حكاية جلبى السلطان المُعدم الفقير بأن يصبح فى أخطر منصب فى زمنه وهو «محتسب القاهرة» بعد أن نجح فى حبك مؤامرة وخداع الجميع بما فيهم أهل الحارة التى نشأ فيها، ثم الإيقاع بالخصوم وتولى المنصب الخطير. وفى نهاية هذه المرحلة نشر جمال الغيطانى قصة «أرض.. أرض» ( نشرت فى ديسمبر 1970) والقصة يرويها مصطفى أبو القاسم المدرس بالمدارس الابتدائية، فقد أمه وإخوته السبعة إثر انفجار صاروخ فى مدينة السويس، صاروخ أرض أرض، ضربته إسرائيل على المدنيين، كما كانت تفعل فى فترة حرب الاستنزاف، ومصطفى الذى أفنى الصارخ أسرته وتوقع الناس من حوله أن يفقد التركيز وأن يذهب عقله، بقى يقاوم ومقاومته كانت بالدفاع عن عبد المنعم أبو العطا الذى أصابه الصاروخ، حين سقط، بالعمى والصمم، وقد شخّص الطبيب الممارس حالته بأنها قد تكون مؤقتة، لكن الأمر يتطلب سفراً للقاهرة حيث يكون العلاج المناسب، وتكون قضية ممصطفى أبو القاسم هى كيف يعيد لعبد المنعم أبو العطا سمعه وبصره طالما أن ذلك ممكن. بعد أن نُشرت قصة «أرض ..أرض» كتب الدكتور على الراعى (1920- 1999) مقالاً نشره فى يناير 1970فى صحيفة «روز اليوسف» يحلل فيه القصة ويشيد بكاتبها ضمن كتّاب القصة الجدد، وقد أنهى مقاله هاتفاً «باختصار.. أنا سعيد» وقد أصبحت هذه اللمسة المشجعة نبوءة بميلاد كاتب متفرد. إن القصص الأولى التى نشرها جمال الغيطانى قبل أن يبلغ سن الخامسة والعشرين، تمثل نموذجاً للكاتب الذى اختار طريقه منذ بداية إمساكه بالقلم واختياره النوع السردى ليبدع فى قالبه، أو فى قوالبه، فيقوم باختيار الأساليب السردية التى تميزه عمن سواه، وقد اختار الكاتب أن يجعل اللغة المصرية المأثورة عن مؤرخى عصر المماليك بمعجمها وتراكيبها مرجعا له، كما اختار أن يجعل من سواد الناس الذين كان المؤرخون يسمونهم «العامة» أبطالاً لقصصه، ولكنه جعل حياة «العامة» كاشفة لما تعانى منه المجتمعات من ظلم وتحيز وأحياناً بطش وتجبر، وأحياناً انقلابات مصيرية غير مفهومة، كما عالج السرد مسائل الحرب والمقاومة، وجعل أسطورة الشعب المصرى فى إيمانه بالغيب والمقدسات والأولياء تيمة محفورة فى قلب السرد. إن سرد جمال الغيطانى منذ تلك البدايات الأولى قد صوّر فى قوة الصراع مع الفقر، والصراع مع السلطة، والصراع مع العدو الخارجى ممثلاً فى إسرائيل خاصة.