غسَّان الشّهابي على مدى العامين 2022 و2023، تشرَّفت بمشاركة مجموعة من الصّحافيّين والكتّاب البارزين العاملين فى الحقل الثَّقافي، منهم – مع حفظ الألقاب – عزّت القمحاوى (مصر)، وعبدالوهّاب العريِّض (السُّعودية)، وحسن عبدالموجود (مصر)، وعلى العمرى (الأردن)، فى وضع ما يمكن تسميته «دليلاً» أو مرشداً للصّحافيّين المبتدئين الرَّاغبين فى العمل فى الصّحافة الثَّقافية، وأقيمت ورشتان فى هذا الصدد فى مركز الملك عبدالعزيز الثَّقافى العالمى (إثراء) فى المنطقة الشَّرقية من المملكة العربية السُّعودية. احتوى الدَّليل على فنون كتابة الخبر الثَّقافي، والتَّقرير الثَّقافي، وعروض الكتب الأدبية، والتَّحقيق الثَّقافي، والبورتريه الثَّقافي، وواحد من فنون الصَّحافة التى درّبنا عليها الحاضرين، كان "فنّ الحوار الصَّحافى الثَّقافي"، ضاربين – فى كلّ واحد من هذه الفنون والأبواب – أمثلة، ونماذج جيّدة يمكن السَّير على هداها، والاستفادة منها. ورغم قلّة الحضور فى كلتا الورشتين، إلّا أنَّ الأمل كان يحدونا – كمدرّبين – أن نتمكَّن من خلق نواة لجيل صحافى ثقافى يختلف عن الجيل الذى ظهر فى العشرين سنة الأخيرة، الذى قد يقضى سحابة عمره المهنى من دون أن يخرج من مكتبه، وتختلط لديه صحافة المنوَّعات والفنون بالصَّحافة الثَّقافية. وكونى عضو هيئة تحرير مجلَّة "البحرين الثَّقافية" (صدر العدد الأوَّل منها سنة 1994)، منذ تسع سنين، تمرّ عليّ مواد حوارية من مختلف الدُّول العربية، من صحافيّين يعملون فى المجال الثَّقافي، أو من روائيّين، وكتّاباً، وربما مغامرين يودّون تجريب حظوظهم. الملاحظة العامَّة - التى يمكن الخروج بها من كثير جدّاً من الحوارات التى مرّت عليّ لكى أدلى برأيى فى مدى صلاحيّتها للنَّشر من عدمه – تتمثّل فى ضيق أفق المحاوِرين، وقبول مشبوه من المحاوَرين، والتَّواطؤ فى هذا النَّوع من التَّعاون الذى يرجو منه المحاوِر وضع المادَّة – حال نشرها – ضمن ملفَّات أعماله الشَّخصية، ووضع مبالغ المكافآت الشَّحيحة فى جيبه، ولا بأس فى ذلك على أيَّة حال... والأمر نفسه بالنّسبة للمحاوَرين الذين يودُّ البعض أن يحظى بالمزيد من الانتشار لو تمّ التَّعريف به، وبنتاجه الأدبى أو الفكرى أو النَّقدي، فى أكثر من بلد، ومن خلال أكثر من مطبوعة، فى خضمّ هذه الضَّوضاء العالية التى تسود وسائل الاتّصال الحديثة، وعلى رأسها الإعلام الاجتماعى بمنصَّاته المتعدّدة، والسَّريعة الخاطفة، إذ لا يمكن التَّغاضى عن شعور المنتجين الجادّين للأعمال الأدبية أو الفكرية، بالحسرة والغُبن وهم يرون اللمعان الباهر لمنتجى التَّفاهات على حساب إنتاجهم الذى قضوا الشُّهور الطّوال وهم يضعون لبناته، ويشيّدون عمائره، ويصقلون متونه، ويصنفرون أطرافه، ويشاورون فيه أهل الثّقة من خواصّهم قبل أن يتجرَّؤوا ويرسلونه إلى دُور النَّشر. لقد افتقدت أكثر هذه الحوارات إلى الجلوس المباشر وجهاً لوجه بين الطّرفين، وإلى توليد الأسئلة الجديدة من ثنايا الإجابات التى يطرحها الطَّرف المحاوَر، وافتقرت إلى "الحوار" نفسه، فما هى إلا أسئلة جاهزة تُرسل إلى الطَّرف الآخر، ويجيب عنها كتابة، فيخرج الحوار كله بارداً وباهتاً، ويتميّز القارئ غيظاً من عدم التقاط الصّحافي/المحاوِر لإشارة ما ليعكسها فى سؤال، أو لتعميق نقطة ما، أو للذّهاب بها إلى ما هو أبعد... وأكثر ما يفضح هذه "المراسلة" – وليست المحاورة – البون الشَّاسع أحياناً ما بين السُّؤال (مبنىً ومعنىً) وإجابات المثقَّف... الأمر الذى يذكّرنى ببرنامج "ندوة الأسبوع" (ربما) الذى كان يُعرض على تلفزيون البحرين فى الثّمانينيات، حيث يُعدّ المذيع خمسة أو ستّة أسئلة، يلقيها على الضَّيف بالتَّتابع: (سين)، (جيم) بغضّ النَّظر عن عمق إجابة الضَّيف، أو غموضها، أو غناها. وما أن يملأ الكلام ساعة كاملة، حتى يلتفت المذيع إلى الكاميرا مبتسماً معلنا نهاية "الحوار"، على أمل اللقاء فى الأسبوع المقبل! لقد ربّى هؤلاء الإعلاميون الكسالى جيلاً من الصّحافيّين على أنَّ هذا هو الحوار، وهو مصفوفة أسئلة جاهزة، قد يطلبها الضَّيف غير الواثق من نفسه مسبقاً ليدبّج على إثرها جملة من الإجابات التى تُظهره متميّزاً ولامعاً. فلقد اعتاد الكمّ الأكبر من المحاوِرين – الذين رأيت محاوراتهم المكتوبة بحكم عملى فى المجلّة – على حمل أسئلة تشبه المفتاح الرَّئيسى الذى يفتح جميع الأقفال (Master Key) لأنّها تصلح – فى ظنّهم – لكلّ حوار ثقافى من قبيل: «هل تكتب النَّصَّ أمْ النَّصُّ الذى يكتبك؟» «ما هى أجواء الكتابة وطقوسها لديك؟» «ما إشكالية النّقد فى الوطن العربي؟» «هل هناك أزمة كتابة/قراءة فى الواقع؟» «ما أثر السّوشال ميدياً على الأدب؟» «هل أصبحت الرّواية اليوم ديوان العرب بعد أن كان الشّعر هو ديوانهم؟» «ما رأيك فى المسابقات الأدبية التى تجرى فى الوطن العربي؟» فالقلّة، بل النُّدرة، من المحاورين الذين يتعمّقون فى نتاج المحاوَر، ويقارنون بين ما سبق إنتاجه على مدى السنوات، أو معرفة إلى أى مدرسة فكرية ينتمى الضّيف، لذلك أبات – يوماً بعد يوم – أعذر النَّاقد البحرينى الرَّاحل الدُّكتور إبراهيم غلوم، الذى طلب من شخص أتى ليحاوره أن يعود ليقرأ نتاجه الفكرى والنَّقدي، قبل أن يبدأ الحوار معه، لأنّه لا يريد أن يضيع وقته فى الإجابة على السَّطحى من الأسئلة التى تذهب إلى التّعرّف على "الشَّخص" والتَّعريف به، بدلاً من النِّدّيّة فى الحوار كناضح لناضج، وليس كحوار طفل إلى ناضج، والنُّضج هنا ليس بعدد السّنين والحساب. لذا، لا عجب إن اجتذب البودكاست الجيّد (أكرّر: الجيّد) كثيراً من الجمهور العربي، الذى هو فى شوق وتعطُّش لمحاور يمثّله، أو ينوب عنه فى طرح أسئلة كانت تدور فى باله على الضَّيف، وأسئلة أخرى لم تخطر على باله تجعل المتابع يحار أيعجب بالسُّؤال أكثر أم بالجواب، لأنّ هناك مناجزة بين الطَّرفين تُظهر أجود ما لديهما من إمكانيات، وتقترب من فعل الصَّحافة المفترض والحقيقي. فإن كان لى أن أدعو – من خلال "أخبار الأدب" التى أكنّ لها المحبَّة والاحترام – فإنّنى أدعو جميع المجلّات والمنصّات بأشكالها المختلفة، أن تردّ الموادّ "البائتة"، الباردة، الكسولة، المترهّلة، إلى أصحابها، مع اعتذار عن عدم النَّشر، لأنَّ ليس فى الحوار... حوار!