عام هجرى جديد ادعو فيه ان تتجدد فى النفوس أمنيات الصفاء والتوازن، ويعلو الرجاء بأن يكون سلام النفس محطة للسكينة الداخلية والانطلاق الروحي، وأن نسترد لحظات هدوء فى زمن يعج بالصخب والتوتر. فرصة لتصفية الحساب مع النفس، واستعادة المعانى المفقودة فى زحام الحياة، لنحيا لحظات من النور الداخلى الذى يعيد ترتيب أولوياتنا، ويمنحنا طاقة جديدة لمواجهة ما هو قادم بإيمان أقوى، وانطلاقة نحو الاستقرار النفسى والسكينة الداخلية، وان نعيش لحظات تجعلنا أكثر توازنًا وقدرة على مواجهة مصاعب الحياة. ادعو الله ان نفتح صفحات بيضاء فى حياتنا، نستدرك ما فات ونصحح المسار نحو ما هو أنقى وأصلح، وما أحوجنا إلى أن نبدأه بأعظم ما يُمكن أن يُحقق السكينة للقلوب ويُعيد التوازن للمجتمعات: سلام النفس. الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال مكانى من مكة إلى المدينة، بل نقلة حضارية وإنسانية كبرى، بدأت بإصلاح الداخل، وسلام الروح ونقاء القلوب، قبل أن تبنى دولة وتنشئ حضارة، سلام النفس كان الوقود الحقيقى لهجرة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين تركوا المال والأهل والديار من أجل ما هو أعظم: الإيمان والتسامح والحق. وتدبر القرآن الكريم هو من أعظم وسائل تحقيق السلام الداخلي، فالقرآن ليس فقط كتابًا يُتلى، بل هو رسالة حياة ومصدر هداية ونبع للراحة النفسية العميقة، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه يورث المحبة والخشية والرجاء والرضا والتوكل، وهى حياة القلب وكماله». وقال الإمام الآجري: «القليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه أحب إلى من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه»، وصدق من قال: شرف العلم بشرف المعلوم، وليس أشرف من فهم كتاب الله وتذوق معانيه. النبى صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من عرفته البشرية، كان مثالًا حيًّا لسلام النفس، كان مطمئنا مبتسما هادئا، يعيش بانسجام داخلى رغم حجم الأعباء التى يحملها، وعلمنا أن الراحة الحقيقية لا تكون فى المال ولا المناصب، بل فى طمأنينة القلب وصفاء السريرة، وكان يداعب أصحابه ويعتنى بأسرته، ويمنح نفسه وقتًا للراحة، نموذجًا متكاملًا يُعلّمنا أن التوازن النفسى أساس النجاح فى الدنيا والآخرة. والإصلاح الحقيقى يبدأ من الصدق مع النفس، من دعاء خالص لله: اللهم طهر قلوبنا، واكشف كربنا واغفر ذنوبنا وأصلح أمرنا واهدنا لما تحب وترضى، والأمم لا تنهض بالصراخ، بل بالنفوس المؤمنة والأخلاق الرفيعة، والقلوب العامرة بالرحمة والصدق. دعونا لا نرفع شعارات لا نطبقها، ولا نحمل الدين على ألسنتنا فقط، بل نعيشه سلوكًا وأخلاقًا ورحمة فى تعاملاتنا، فكما يقول أهل التقوى: دعونا نرى الدين فى سلوككم، لا فى خطبكم، والأخلاق هى الرسالة الكبرى للإسلام، وبها وحدها يتحقق سلام النفس وسلام المجتمع..بسلام النفس تُبنى الأوطان.