لعبت الأبقار دورًا جوهريًا في حياة المصري القديم، منذ بدايات الاستقرار البشري في وادي النيل، ليس فقط كحيوان اقتصادي، بل كرمز ثقافي وديني، ومرآة لتطور المعرفة الزراعية والبيطرية. في هذا التقرير، نفتح ملف الأبقار في مصر القديمة من منظور علمي، أثري، بيئي، واجتماعي، مستندين إلى الأدلة الأثرية، والتصوير الجداري، والنصوص الهيروغليفية، والدراسات الحديثة. وقد كشف عالم المصريات د. مصطفى وزيري خلال الحلقة الأولى من برنامج لغز الفراعنة المذاع على تليفزيون بوابة أخبار اليوم عن أصالة ومصرية سلالة أبقار الفريزيان التي عرفها المصري القديم ونحتها على جداريات المقابر والمعابد قديماً. اقرأ أيضًا | a href="https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4638542/1/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A7%D8%AA" title=""الخط السينائي" من جذور الأبجدية إلى صفحات التاريخ في "المتحف المصري" ""الخط السينائي" من جذور الأبجدية إلى صفحات التاريخ في "المتحف المصري" تنوع السلالات د. رانيا ممتاز دكتور الآثار الجزيئية والحفاظ على التراث كلية التكنولوجيا الحيوية واستشاري الميكروبيولوجيا الطبية وصحة الأغذية بكلية الطب البيطري جامعة القاهرة تكشف عن تنوع سلالات البقر موضحة أن ما وراء قرون البقر وألوان جلودها من عصر ما قبل الأسرات وحتى نهاية الدولة القديمة، وُجدت سلالات مختلفة من الأبقار في مصر، كان يتم التمييز بينها تقليديًا بناءًا على أشكال القرون: طويلة، قصيرة، أو عديمة. إلا أن هذه الطريقة لا تُعدّ دقيقة علميًا، إذ تختلف القرون حسب العمر والجنس والتغذية. لذا، تقترح الدراسات الحديثة تصنيف السلالات وفق عدة خصائص مورفولوجية: شكل الجمجمة، حجم الزائدة الجلدية (الرقبة)، وجود السنام، شكل الظهر والذيل، لون الجلد، ونمط الفراء. وتشير التحليلات إلى وجود ما يصل إلى 6 سلالات مختلفة، البعض محلي، يعود لأحفاد Aurochs بعضها الآخر مستورد من النوبة، ليبيا، أو المشرق، عبر التجارة أو الحملات العسكرية. الأبقار في اللغة والرموز الهيروغليفية تلعب الأبقار دورًا لغويًا ورمزيًا مهمًا في الكتابة المصرية القديمة، تتضمن قائمة "غاردينر" ما لا يقل عن 5 رموز كاملة لجسم البقرة و13 رمزًا لأجزاء منها، تُستخدم للإشارة إلى أكثر من 60 كلمة ذات علاقة مباشرة بالبقر. كما ظهرت الأبقار في أسماء الأقاليم مثل إقليم "أرض الأبقار" في واحة الفرافرة، و "رأس الأبقار" الذي ارتبط ب"بقرة مقدسة" كانت تُختار بعناية وتُحنّط بعد وفاتها. الأبقار والموت والخلود ورمزا للحماية دخلت الأبقار مجال الطقوس الجنائزية بقوة فجلودها، وأرجلها الأمامية، وقلوبها، دُفنت ضمن طقوس الجنائزية. كما زُيّنت جدران بعض المصاطب "مثل مصاطب الدولة الأولى في سقارة" بجماجم وأبواق الأبقار. وتم دفنها بشكل مستقل أو بصحبة أصحابها في مواقع مثل البداري ونبتا بلايا، في النوبة، استُخدمت قرون البقر لتزيين المقابر في العصر الأوسط، كرمز للثراء والحماية. في قلب الحياة اليومية: اقتصاد، زراعة، وحرف كانت الأبقار عنصرًا أساسيًا في الحياة الاقتصادية. استخدمت في الحراثة، نقل الأحمال، إنتاج الألبان، الجلد، العظام، والروث "كوقود". تم تسجيل نحو 30 قطعة لحم مختلفة، وكان الكتف الأمامي "خِبِش" يُعد من أرقى القطع المقدمة للآلهة. تم الاحتفاظ بالأبقار في الحقول، وتُربى بعناية، وتُحلب بهدوء وفق قواعد محددة. اللبن صُنع منه الزبد "بات"، القشدة "لبنة"، الجبن والزبادي. وكانت عملية الحلب تتم في جو من السكينة لتأمين رضا الحيوان وضمان جودة الإنتاج. البقر كرمز ديني وملكي اعتُبر الثور رمزًا للقوة، الرجولة، والشجاعة، وارتبط بالملوك والنتر على حد سواء. ظهرت عبارة "الثور القوي" كلقب ملكي وديني، وتم اختيار ثيران مقدسة من قطعان حية لعبادتها في طقوس ال "أبيس"، و"منيفيس"، و"بوخيس"، وتُحنط وتُدفن مثل الملوك. وكانت قرون الثور تُعلّق على جدران المعابد وتُستخدم في حماية المقابر. ظهر على هيئة نتر حتحور، إيسيس، بسّت، نوت، وغيرهن. وتُصوَّر "حتحور" كثيرًا وهي تُرضع الفرعون، كرمز للخصوبة والحماية. وارتبطت البقرة "حسات" بالحليب المقدس الذي يغذي الملوك ويعيد الأموات للحياة. تربية الأبقار والوعي البيطري تؤكد د. رانيا ممتاز أن الرعاة في مصر القديمة أظهروا وعيًا بيطريًا مذهلًا، حيث كانوا يربّون الأبقار بعناية، يطعمونها باليد، ويعالجونها بالأدوية، ويشرفون على ولاداتها، وكانوا يُطلقون على أبقارهم أسماء مثل: "الفيض الطيب"، "الذهبية"، "نيفر" "جميلة"، "النصيحة الطيبة"، و"إشراق" عرف المصري القديم السلالات المختلفة فنجد منها العديد المصور في الحضارة المصرية القديمة والذي تظهر فيه جليا سلالات مرقطة باللونين الأسود والأبيض واستخدمت في الحرث والزراعة وماهو بني وابيض والحمراء والسوداء والبنية. تعريف "السلالة" في هذا السياق لا يعني تنوعًا عشوائيًا، بل مجموعة من الأبقار تم تهجينها وانتخابها عبر أجيال وفقًا لحاجات الإنسان، مثل قوة التحمل أو إنتاج الحليب أو التكيف مع مناخ معين. تضيف د. رانيا ممتاز أنه من المرجّح أن المصريين القدامى لم يتركوا عملية التهجين للمصادفة، بل نفذوا برامج تربية واعية لإنتاج أبقار ذات خصائص تخدم الزراعة، والنقل، وحتى الطقوس الدينية! كما ظهر ذلك في العديد من الأدلة في الدراسات الحديثة، النقوش والنصوص توفر قاعدة بيانات بيولوجية واجتماعية فريدة عن التربية والطقوس كما تكشف وعيًا مبكرًا بفسيولوجيا الحيوان وصحته. بينما كانت الأبقار رمزًا للحياة والقوة، تواجه اليوم انحسارًا في السلالات المحلية. تنادي الأبحاث الحديثة بحفظ هذا التراث الجيني والثقافي من خلال برامج التوثيق والتربية المستدامة، خاصة في ظل التغير المناخي والتطورات الزراعية. كما نادت بعض المستشفيات البيطرية وكليات الطب البيطري والتكنولوجيا الحيوية بالتعاون لعمل خريطة جينية لسلالات الحيوانات المصرية قديما وحديثا والوقوف على أهم خصائصها والأنواع المنقرضة والمهددة وأسباب ذلك للحفاظ على واحد من أهم مكونات إرثنا الثقافي المادي. ليست الأبقار في مصر القديمة مجرّد صفحة من صفحات التاريخ، بل نافذة نطل منها على علاقة الإنسان بالحيوان والطبيعة، وعلى قيم الاحترام، التقدير، والعلم الذي نحتاج لإحيائه اليوم.