مع ظهور التكنولوجيا الحديثة تصوّر الساذجون من أمثالى، أن الجواسيس صاروا كائنات منقرضة، لأن التطور العلمى جعل المعلومات متاحة، عبْر صور دقيقة وخرائط تفصيلية، لمواقع ظلت بعيدة عن العيون طوال أعوام مُلبدة بالغموض. قناعتى صارت أكثر رسوخا، استنادا إلى تطورٍ ذى دلالة، فبعض أهم أدوات الجاسوسية فى الماضى البعيد أصبحت متاحة لكل منّا. أبناء جيلى يتذكرون مثلا ساعات إثارة عشناها، ونحن نتابع مغامرة جمعة الشوان، سعيا للحصول على جهاز متطور، ينقل رسائل بالغة السرية فى ثوان دون إمكانية رصده. حبسْنا أنفاسنا مع مشاهد مسلسل «دموع فى عيون وقحة»، خوفا على البطل المصرى خلال رحلة الحصول على الجهاز الثمين، ثم ابتسمنا بعد سنوات عندما أصبح كل منا يحمل شبيها له.. هو الهاتف المحمول. هذه التطورات جعلتنى أعتقد أن أدب الجاسوسية بدوره قد انتهى، أو على الأقل صار جزءا من ماضٍ يتم استحضاره فى الروايات، من قبيل النوستالجيا فقط. خلال العامين الأخيرين تحديدا تغيّرتْ قناعاتى، فوحشية قصف الاحتلال وقنابله دمّرت مدنا فى غزة، وتسبّبت فى فناء عائلات كاملة، لكنه بقى قصفا عشوائيا، أو يستهدف فى بعض الأحوال مواقع مخططا لإبادتها بعناية، غير أن الأمر ظل مقصورا على ما يُمكن لأعين العدو وآلاته رصده، إلى أن بدأت ضرباته النوعية حصْد أرواح قياداتٍ فى غرف نومهم ومخابئهم، لأكتشف أن أعمال التجسس لا تزال حاضرة. الجاسوسية إذن سلاح لم تتم إحالته للتقاعد، بدليل الإعلان كل فترة عن ضبط شبكة داخل الكيان الصهيونى أو إيران، والأمر نفسه ينطبق على روسيا وأوكرانيا، حيث تشير دقة بعض العمليات فى الحرب بينهما، إلى وجود تسريبات تعتمد بشكل أساسى على العملاء. رغم تهديدات الذكاء الاصطناعى لمئات المهن المرشحة للانقراض، تُرجّح تطورات الأحداث أن الجاسوسية ستبقى مهنة مطلوبة، يحتكرها البشر بينما تظل التطبيقات الحديثة مجرد أداة مساعدة لهم. السبب بسيط، هو أن التكنولوجيا لا تزال بعيدة، عن دوائر تأثير النفس الأمارة بالسوء!