ارتبط الجاموس تاريخيًا بعلاقة وطيدة مع الفلاح المصرى، فكان بمثابة الظهر والسند له، لا يتخلى عنه فى أزماته ويشاركه فى كفاحه اليومي، لطالما ساعدته الجاموسة فى تربية الأبناء وزواجهم وحتى بناء البيوت، فمع شروق الشمس يشق خوارها الآذان فتسارع ربة البيت بحلب ضرعها وملء الأوانى بلبنها، فخيرها وفير ولحمها لذيذ، ولونها الرمادى الزاهى يشبه طين الأرض العفية، كما تمتاز بطبعها الهادئ ونفسها الطويل، تلين بسهولة لربتها فتمنحها الثقة والخضوع حتى تستطيع حلب ضرعها دون أذى، وكما يقول المثل الشعبى «الجاموسة اللى فى الزريبة تغنى عن مية غريبة». ◄ اللحم البقري يغزو محلات الجزارة بالمدن.. والجاموسى ينتشر بالقرى ◄ البقرة تستهلك مياها في السنة تكفي لرى فدان أرض إذا أصاب الجاموسة مرض أو وهن يدب فى قلوب أصحابها القلق والخوف، لا ينامون ليلهم وتنقلب مضاجعهم نارا، كأنها أحد الأبناء، وبموتها تتشح البيوت بالسواد ويشق صراخ السيدات عنان السماء، وتفتح البيوت لتلقى العزاء ومساندة صاحبها فى هذا الحدث الجلل. ومع إقبال الكثيرين على تربية الأبقار بأنواعها المختلفة ظهرت آراء علمية معارضة لذلك وعلى رأسها الدكتور نادر نور الدين أستاذ الأراضى والمياه بكلية الزراعة الذى يرى أن تربيتها مكلفة وتهدد أمننا المائى ومساحة أراضينا الزراعية. ◄ نادر نورالدين: مناخ مصر الحار لا يلائم تربية الأبقار ◄ تحديات شرسة يقول أستاذ الاقتصاد الزراعي وأستاذ المياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة الدكتور نادر نور الدين: تعد تربية الأبقار دخيلة على عاداتنا المصرية حيث ارتبط الفلاح منذ القدم بالجاموس وتآلفا سويا، فالجاموس الموجود لدينا من أفضل الأنواع ويستطيع التأقلم مع درجة الحرارة العالية والتغلب على الأمراض، أما الأبقار فتكبد اقتصادنا خسائر كبيرة، إذ تتطلب زراعة الأعلاف مثل البرسيم بالرى، وبالطبع لأنه محصول شتوى مثله مثل القمح فإن الكثير من الفلاحين يفضلون زراعته عن القمح، مشيرًا إلى أن تربية رأس الماشية لمدة ثلاث أو أربع سنوات تستهلك 5 آلاف متر مكعب من الماء وهى تساوى كمية المياه اللازمة لرى فدان في السنة. ويرى نورالدين أن مناخ مصر الحار لا يلائم تربية الأبقار مقارنة بمناخ أوربا البارد، خاصة أننا نفتقد نزول الأمطار طوال العام، بالتالى لا نمتلك مراعى ومروجا خضراء تتربى عليها الأبقار، لافتًا إلى أن مناخنا هو مناخ تربية الجاموس وبالرعاية والاهتمام قد يتضاعف وزنه ليصل ل1200 كجم أى ضعف وزن البقرة. ويشير إلى أن ذلك لا ينفى عدم تربية الأبقار بشكل نهائى بل الاحتفاظ بما هو موجود منها حاليا مع ضرورة التوسع الزراعى وزيادة الأراضى المستصلحة. ◄ ميزات وعيوب يقول أشرف بدار، صاحب مزرعة لتربية المواشي: تختلف تربية الأبقار عن الجاموس، فلكلٍ منهما ميزات وعيوب فأغلب الفلاحين كانوا يعتمدون بشكل أساسى على الجاموسة الحلابى وعجولها فى التسمين، لميزاتها العديدة، فهى لا تحتاج لتحصينات كبيرة مثل البقر، حيث إن لها قدرة على مقاومة التغيرات الجوية والحرارة العالية، كما أنها تأكل المتاح سواء أكانت أعشابا نباتية أو كسب التبن والشعير والخبز المدشوش، ما يجعل تكاليف أكلها قليلة مقارنة بالبقر، مشيرًا إلى أن البقر يعتمد على النباتات بشكل أساسى كالبرسيم وأعواد الذرة الخضراء ولعل ذلك يفسر ارتفاع أسعار البرسيم من آن لآخر. فيما يقول فلاح آخر من محافظة الشرقية يدعى عبدالعزيز شندى: مع هجوم فصل الشتاء ينتابنا القلق والخوف لزيادة تعرض الماشية للأمراض المختلفة ومنها الحمى القلاعية، وبالطبع فإن نفوق الأبقار يكون أكثر نظرا لقدرة الجاموس على مقاومة المرض والتغلب عليه، كما أن قوة الجاموس البدنية تجعله ينمو أسرع ويعطى وزنا كبيرا فى حال تسمينه شريطة الاهتمام بتغذيته جيدًا. مضيفًا أن الجاموسة الحلابي تنتج كميات كبيرة من الألبان يوميًا تتراوح بين 10 و12 لترًا على عكس البقرة فلا يزيد إنتاجها اليومى على 8 لترات.. ويرى رشدى أن أغلب المستهلكين يفضلون اللحم الجاموسى عن البقري لدسمه القليل وسهولة هضمه، كما أن طعمه أخف على المعدة وله نكهة مميزة، لكن محلات الجزارة بالمدن يعتمد أغلبها على اللحم البقرى فقط، مشيرًا إلى أن محلات الجزارة بالقرى هى الأكثر بيعا له. ◄ ألبان ولحوم مع خيوط الصباح الأولى تسارع ربة بيت ريفية تدعى «تحية» لتفقد ماشيتها من البقر والجاموس وتتلمس ضرعيهما لتمنى نفسها بوجبة دسمة من الألبان، كى تقوم بعملية «الخض» التى يتم فيها استخلاص القشدة من اللبن لصناعة الزبدة، ومن ثم بيعها فى سوق المدينة البعيد. لا تتوقف تحية عن إطعام البقرة والجاموسة وإمدادهما ب»الكُسب» والأعلاف، لتزيد من حصة اللبن. ترفض بقرتها أكل كسب التبن المستخلص من القمح فتضطر لتزويدها بالبرسيم والعلف، تمصمص تحية شفتيها وتقول ساخرة: «بقر هولندى مش عارف قيمة النعمة». أما جاموستها التى أطلق عليها أحفادها «أم الخير» فتناولت وجبتها من التبن والخبز المدشوش برضا ولم تتوقف عن شرب لترات عديدة من الماء، فالماء سر زيادة اللبن، فيما يحرص زوج تحية على تزويد الماشية بالألياف والمركزات بين وقت وآخر وهى الأملاح المعدنية كالفوسفور والكالسيوم، لكنه يجد صعوبة فى توفيرها ببعض الأحيان خاصة أن البقر يحتاج إلى مركزات أعلى لتساعده على ترطيب جسده ومقاومة الحرارة. يفضل زبائن تحية الزبدة الجاموسى لدسمها العالى ونسبة بروتيناتها الحيوانية التى لا تتوافر فى الزبدة البقرى، كما أن اللبن الجاموسى له مذاق سكرى ونسبة قشدة كبيرة قلما توجد فى ألبان أخرى، مما يجعله الاختيار الأمثل لربات المنازل لصناعة الزبادى وكريمات الطبخ والحلويات، لكن البعض الآخر منهن يطلب اللبن البقرى خصيصًا لسهولة هضمه واعتدال مذاقه مما يجعله الأفضل للباحثات عن الرشاقة. فيما تقول ربة منزل تُدعى خيرية: يعتمد الكثير من ربات البيوت على اللحم البقرى فى مطابخهن فهو الأكثر انتشارًا فى محلات الجزارة بالقاهرة والمدن الكبيرة لسعره القليل وسرعة طهوه، فضلًا على أن مطاعم شهيرة تعتمد عليه فى قوائمها الرئيسية. مشيرة إلى أنها تفضل طهو لحم العجل الجاموسى، لكنها لا تجده بسهولة وتضطر لشرائه من أحد محلات الجزارة بمنطقة المنصورية. وتضيف: الزبدة الجاموسى لها طعم غنى ومميز لدسمها العالى وقوامها الكريمى مما يجعلنى أعتمد عليها فى طبخ الحلويات والأكلات المميزة فى العزائم، وهذا يفسر سعرها المرتفع. ◄ خصائص فريدة وعن خصائص الجاموس، يقول الدكتور كميل متياس وكيل مركز البحوث الزراعية الأسبق: يتمتع الجاموس المصرى بعلاقة فريدة مع الفلاح منذ قديم العصور حتى أن البرديات والمعابد الفرعونية احتضنت تلك العلاقة وكانت شاهدة عليها، فقد اعتمد الفلاح عليها فى أعمال الحقل وحتى فى الاحتفالات الدينية، فضلًا عن الخصائص البدنية للجاموسة التى تتفوق فيها على غيرها من سلالات الماشية الأخرى، وكذلك قدرتها على مقاومة الأمراض الصعبة التى تهاجم الأجواء المصرية خاصة فى فصل الشتاء وبداية الربيع، مشيرًا إلى أن للجاموس دورا مهما فى الاقتصاد الزراعى المصرى حيث يلبى حاجة السوق من اللحوم والألبان. وفيما يخص أبرز سلالاته يقول: تنقسم سلالاته إلى ثلاثة أنواع وهى الجاموس المنوفى المنتشر فى الدلتا ومعروف بلونه الرمادى الداكن والأسود وله شهرة عالية فى إنتاج اللبن. أما جاموس الصعيد فهو أصغر حجمًا ولونه أسود ويمكن ملاحظة وجود بقع بيضاء على جسده، كذلك الجاموس البحيرى فلونه رمادى داكن وملمس جلده ناعم وينتج كميات جيدة من اللبن. لافتًا إلى أن ألبان الجاموس تمتاز بارتفاع نسبة اللاكتوز بها مما يجعل مذاقها مسكرًا، كما أن دهونها العالية ليس لها أى أخطار على الصحة. ◄ مزايا متعددة وعن ميزاته الأخرى يقول: يحتوى على نسبة عالية من البروتين أعلى من أى ألبان أخرى، أما نسبة الدسم به فتتراوح بين 7% إلى 9% على عكس باقى الأنواع الأخرى فلا تزيد على 4%، مما يجعلها تدخل فى تصنيع العديد من المنتجات، مشيرًا إلى أن الكثير من المستهلكين باتوا يعتمدون على ألبان البقر لرخص سعرها وسهولة هضمه. ويضيف متياس: أما اللحم الجاموسي فيتمتع بنسبة قليلة من الدهون والكوليسترول، وهو الأفضل لمرضى القلب وضغط الدم المرتفع، كما أنه يحتوى على نسبة بروتينات عالية تساعد على بناء العضلات وتقوية الجسم، ناهيك عن طعمه المقبول، أما لحم الأبقار فيتمتع بنسبة كبيرة من الزنك والحديد، كما أن سعره رخيص وهو ما يفسر انتشاره فى محلات الجزارة بشكل كبير. ويتابع: منذ عدة سنوات لم يكن هناك اهتمام بتحسين جودة السلالات أو عمل دراسات مهمة يعتمد عليها صغار المستثمرين، لكن مؤخرًا تغيّرت الأوضاع وأصبح هناك اهتمام كبير بزيادة الإنتاجية، وظهرت دراسات علمية من بعض المراكز البحثية نجحت فى رفع إنتاجية الجاموس ليصل إلى 15 كجم من اللبن.