يغرّد الروائي الكبير عادل عصمت خارج السرب، ما بين طنطا وقريته في محافظة الغربية. فهو لم ينتقل للإقامة بالقاهرة كأغلب الكتّاب الطامحين إلى مركزية العاصمة، بل اختار البقاء في محيطه الذي خرجت من تفاصيله أعماله الأدبية، واختار الإخلاص للكتابة المكتفية بذاتها، واقتحم بها الواقع الثقافي بعد سنوات طويلة من بناء مشروع له سمات خاصة. ففازت روايته "أيام النوافذ الزرقاء" بجائزة الدولة التشجيعية عام 2011، وحصلت روايته "حكايات يوسف تادرس" على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية عام 2016، ووصلت روايته "الوصايا" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2019. في روايته الأخيرة "في نهاية الزمان"، التي صدرت حديثًا عن دار كتب خان، المكان هو البطل: قرية "نخطاي" المتخيلة، رغم تحديد موقعها بالقرب من مدينة طنطا، حيث تدور معظم أعمال عادل عصمت. أما الشخصيات فهي عابرة، تتبدل من فصل إلى آخر، وتكمل حكايات بعضها البعض بلا ترتيب، كأنها ترسم تاريخ تلك القرية. في حوارنا معه، يعلّق قائلًا: "من زمان، ربما منذ عام 2010، في قراءتي وأخيلتي، كنت أحاول تخمين شكل حياة الناس في قرية مصرية عبر تاريخ مصر الموغل في القدم، وساعدتني أساطير وحكايات قريتي في رسم صورة تخطيطية، ظلت تتطور مع مرور الوقت، وخاصة عندما بدأت أفكر أنني لا أكتب تاريخًا، بل حكايات مثل حكايات ألف ليلة وليلة." ◄ الأسطورة حاضرة بأشكال مختلفة؛ هل يمكن اعتبار الأسطورة حلقة من حلقات تفسير الحوادث على أرض نخطاي؟ صحيح، الأسطورة مثل أي شكل من أشكال الحكاية، هي محاولة لفهم العالم وجعله معقولًا من أجل العيش فيه. فكل ما لا يفهمه الإنسان يحوّله إلى حكاية. ففي فصل "رنين معدني في الفضاء"، يثير هذا الرنين الهواجس القديمة عن اقتراب يوم القيامة، حتى تُجري المعاينة التي تنقل الحقيقة الواقعية: أن السلطة تشق خط سكة حديد. عندها يتوقف الميل إلى تشكيل أسطورة، لكنه يبقى كامنًا حتى يصطدم بعقدة أخرى غامضة تستدعي بناء أسطورة، مثلما حدث في سكن الشباب في بيت آل راضي، وترجمه الناس إلى "قيامة أهل الجب من موتهم الناقص لكي ينتشروا في البلد". الأسطورة لا تزال لها سطوة في حياتنا. ◄ اقرأ أيضًا | رواية «شرفة الرمال».. إرادة الحياة تتحدى الألم ◄ الزمان وتحولاته هو لبّ الحكاية في روايتك الأخيرة، كيف يمكن أن نصف الكيفية التي يتبدل بها الزمن في قرية "نخطاي" المتخيلة؟ يساعدنا في وصف كيفية تغير الزمن في نخطاي ما طرأ على حياة الناس من وسائل وأدوات حديثة، مثل شقّ خط السكة الحديد الموصل إلى البراري، الذي كان عاملًا أساسيًّا في معرفة أهل نخطاي لحدود بلدتهم، التي كانوا يعتبرونها آخر بلدة في البر. وكذلك دخول الكهرباء، ووسائل الاتصال الحديثة مثل الراديو والتليفزيون، ثم بعد ذلك الموبايل والنت. أشكال التحديث هذه تتعارض مع التصورات الأسطورية لأهل البلد، وتقربهم من فهم صورة أكثر واقعية لعالمهم، لكن كل شكل من أشكال التحديث سوف يثير مشاكل في تصوراتهم عن العالم، ويحاولون فهم الأمر، كما حدث في موضوع التليفزيون، الذي فسّروه بطريقتهم في فهم الأمور، وفسّره الشيخ محمد المهدي تفسيرًا خرافيًّا رغم انفتاحه ومعرفته. على ما يبدو أن العقلية ليست جاهزة للتعامل مع منتجات الحياة الحديثة. ◄ تنشغل بفكرة الكتابة ذاتها في الرواية، وكان آخر كتبك نصًّا سرديًّا عن الكتابة بعنوان "كتابة القصص وبناء الأعشاش"، كيف ترى ذلك الامتداد بين كتابك السردي وبين الرواية؟ الرواية والكتاب يأتيان من نفس المنبع، من نفس الحيرة: كيف يمكن للأشكال السردية أن تساعدنا في فهم تعقيد الحياة؟ وكيف أن تصوراتنا عن الكتابة وعن الحياة تحجب عنا جوهر خبرتنا وتدفعنا إلى تكرار تجارب سردية سابقة؟ سوف تجدين مدخلًا للإجابة على هذا السؤال في الفصل الخاص بلوعة بنت الخال، حيث يحاول أحد الأبطال، "سامي العفيفي"، أن يشكّل مأساة بنت خاله في قصيدة شعر، لكن العادات السردية والتصورات الشعرية تخالف واقع التجربة، وتحاول أن تقولبها في تصور جمالي. لو استسلم له الشاعر، لكتب قصيدة جيدة، لكنها لا تنقل كثافة وتعقيد الخبرة. ◄ كيف ترى تفكيك فكرة الهيمنة التي تمثّلت في شخصية نفيسة وتاريخ عائلتها، والسلطة البديلة التي أتت لتحجّم نفوذ سيدة نخطاي في الرواية؟ أي هيمنة، ولو كانت إمبراطورية، لها مراحل صعودها وانهيارها، مثل الإنسان الذي يتعرض للهِرم والفناء مهما طال بقاؤه. وفي مرحلة الهبوط، تبدو الهيمنة وكأنها فقدت ما يجعل منها قوة. تبدو غلبانة، وقد يؤدي هذا إلى وهم بأنها لم تمارس الظلم والتحكم في مصائر الناس ذات يوم. وقد ينظر البعض إلى النفوذ في لحظة انهياره بإشفاق، كما نظر الكثير من أهل مصر إلى طرد الملك فاروق، على سبيل المثال، أو إلى سقوط مبارك، فقد كان مشهورًا وقتها هذا التعبير: "اعتبره أبوك يا أخي". في رواية في نهاية الزمان، القوة الجديدة في الغالب هي امتداد للقديمة، تستخدم نفس أدوات القمع، وربما تطوّر بعضها، وتبتكر أشكالًا جديدة للسيطرة، حتى لو كانت تبدو – في البداية – كأنها تمنح الناس العطايا. الحاجة نفيسة تفهم الأمر على نحو صحيح عندما تقول: "إن الحِداية لا تمنح كتاكيت"، لكن الهيمنة الجديدة مثلها مثل القديمة، سوف تمر بنفس المراحل.