محافظ المنوفية يتفقد انتظام سير العملية التعليمية بمدرسة حسين غراب الإعدادية    يمامة ضمن قائمة المعينين بمجلس الشيوخ    التنسيقية تهنئ أعضاءها المعينين في مجلس الشيوخ    سعر الفضة اليوم الأحد 12 أكتوبر 2025.. بكم عيار 925 الآن؟    الهلال الأحمر المصري يرفع درجة الاستعداد القصوى في العريش    حماس: لن نشارك بتاتا في المرحلة الانتقالية    باكستان تغلق حدودها مع أفغانستان عقب تبادل إطلاق نار عبر الحدود    موعد مباراة مصر وغينيا بيساو في تصفيات المونديال والقنوات الناقلة    محمد صبحي يفوز ببرونزية وزن 88 كجم ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالعاصمة الإدارية    مصرع مهندس زراعي في تصادم دراجة نارية بسيارة نقل بمنطقة مساكن طابا ببنها    انطلاق مؤتمر مهرجان القاهرة السينمائي بحضور نخبة من نجوم الفن.. فيديو    مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يعلن أفلام مسابقة الأفلام القصيرة في دورته ال46    خالد العناني في تصريحات خاصة ل«البوابة»: اليونسكو ستعود إلى جوهر رسالتها الإنسانية    مدير المستشفيات يتفقد مستشفيي قويسنا وبركة السبع لمتابعة انتظام العمل وجودة الخدمات الطبية    "صحة الدقهلية" تعلن إجراء 41 ألف جلسة علاج طبيعي وتشغيل عيادة الأطراف الصناعية    آلاف المتظاهرين يخرجون إلى شوارع العواصم الأوروبية دعمًا للشعب الفلسطينى    هانى العتال عن تعيينه فى مجلس الشيوخ: شرف كبير أنال ثقة الرئيس السيسي    حسين فهمى: مهرجان القاهرة يرمم 10 أفلام أبرزها خان الخليجى    نقابة المهن التمثيلية تهنئ خالد جلال وياسر جلال لتعيينهما بمجلس الشيوخ    5 أبراج لا تعتذر عن أخطائها.. برج الحمل يعتبر كلمة آسف ضعف    رام الله: مستوطنون يقتحمون خربة سمرة بالأغوار الشمالية    البنك الزراعي يعلن انضمام محمد سويسي لرئاسة مجموعة المنتجات والخدمات الإلكترونية    محافظ المنوفية يدشن فعاليات المبادرة الرئاسية للكشف عن فيروس سي    سبورت: برشلونة لن يجدد مع ليفاندوفسكي ويبحث عن البديل    بحصة سوقية 6%.. "مصر" الخامس عالميا في صادرات الخضروات والفواكه المحفوظة بالخل    قرار عاجل من محكمة جنايات دمنهور بشأن المتهمين بقتل تاجر الذهب برشيد    عفت السادات بعد تعيينه بالشيوخ: فخور بثقة الرئيس السيسي    الضرائب: الفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني شرط أساسي لإثبات التكاليف ورد ضريبة القيمة المضافة    وفاة طفل بأزمة قلبية خوفا من كلب فى أحد شوارع قرية كلاحين أبنود بقنا    المؤشر الرئيسي للبورصة يواصل تراجعه بمنتصف التعاملات بضغوط هبوط أسهم قيادية    بالأرقام.. جهود الداخلية خلال 24 ساعة لتحقيق الأمن ومواجهة الجريمة    أسعار الفاكهة اليوم 12-10-2025 في قنا    امير كرارة ومصطفى قمر وشيكابالا في العرض الخاص لفيلم «أوسكار عودة الماموث»    مي فاروق: «ألبومي الجديد تاريخي.. والتكريم الحقيقي حب الجمهور»    تعرف على مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم فى كفر الشيخ    «التضامن»: 121 زيارة رقابية لدور الرعاية وتحرير 8 محاضر ضبط قضائي خلال سبتمبر    هولندا في مواجهة قوية أمام فنلندا ضمن تصفيات المونديال    ضبط 106074 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    محافظ أسوان يتابع استكمال تشغيل المراكز الطبية ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    وزير الصحة يشهد حفل توزيع جائزة «فيركو» للصحة العامة في ألمانيا    رحيل فارس الحديث النبوى أحمد عمر هاشم.. مسيرة عطاء فى خدمة السنة النبوية    أسبوع الانتصارات    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 12اكتوبر 2025 فى المنيا    تعرف علي أسعار البنزين والسولار صباح اليوم الأحد 12 أكتوبر 2025 فى محطات الوقود    الرئيس السيسى : حماية المياه تمثل قضية مصيرية ولم تعد شأنا محليا أو إقليميا    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    لليوم الخامس .. فتح لجان تلقى أوراق طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب    وزارة التعليم تحدد 3 امتحانات بالفصل الدراسى الواحد .. اعرف المواعيد    بتهمة نشر أخبار كاذبة والإنضمام لجماعة إرهابية.. محاكمة 56 متهمًا اليوم    قيادي ب فتح يدعو حماس لإجراء مراجعة وإنهاء حكمهم في غزة.. ويطالب مصر باحتضان حوار فلسطيني-فلسطيني    العظمى في القاهرة 28 درجة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الأحد 12 أكتوبر 2025    من انقلاب السيارة حتى النقل إلى المشفى.. تفاصيل حادث الوفد القطري في شرم الشيخ قبل قمة السلام    «الكهرباء»: الهيئات النووية المصرية تمتلك كفاءات متراكمة نعمل على دعمها    «كفى ظلمًا».. حسام المندوه: أدخلنا للزمالك 800 مليون جنيه    تركيا تكتسح بلغاريا بسداسية مدوية وتواصل التألق في تصفيات كأس العالم الأوروبية    نجم الأهلي السابق: توروب سيعيد الانضباط للأحمر.. ومدافع الزمالك «جريء»    رئيس جامعة الأزهر يوضح الفرق بين العهد والوعد في حديث سيد الاستغفار    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 11-10-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سليم شوشة يكتب : تغريبة القافر: جماليات الغرائبى وفنتازيا الطبيعة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 21 - 05 - 2023

تؤكد رواية «تغريبة القافر» للروائى العُمانى زهران القاسمى التى بلغت القائمة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام حالة الازدهار الاستثنائى التى تعيشها الرواية العمانية، إذ يبدو واضحا أن هناك طفرة كبيرة فى الإبداع العمانى عموما فى السنوات الأخيرة، وفى الرواية بشكل خاص، والحقيقة أن التجربة السردية فى رواية «تغريبة القافر» لتبدو فى نظرنا قادرة على الكشف عن منابع هذا التميز فى الرواية العمانية عموما، إذ تمثل هذه التجربة مع ما فيها من قدرات سردية فردية لصاحبها مرآة لجوهر ما يتم الاستعانة به وما يتم توظيفه فى الرواية العمانية من محددات بيئية وثقافية خاصة هى فى الحقيقة جزء من منح عُمان لمبدعيها وعطاياها لهم، وهذه المنح أو العطايا هى بيئة عمان وجغرافيتها وجبالها وأفلاجها وأساطيرها وحكاياتها عن الجن والعفاريت وهذا الالتقاء السحرى والعجائبى بين الحقيقة والأسطورة. وفى مرآة هذه التجربة السردية وغيرها يبدو قدر ما لدى المبدع العمانى من الوعى بمزايا البيئة العمانية وخصوصية الثقافة ونوافذ ومنافذ السحرية والعجائبية والتى يمكن أن تكون مجالا مثاليا لاشتغال سردى ثرى وغنى وحافل بالتجريب والمغامرة، ويبدو قادرا فى الوقت نفسه على أن يعبِّر عن الآنى أو عن المتجدد من قضايا الإنسان وأسئلته ومشاكله.
لا أريد الإسهاب فى الحديث عن خصوصية البيئة العمانية بما يوحى بأن الإبداع مشاع وأنه متولد من البيئة والطبيعة والخصوصية الثقافية دون تميز فردى أو دون قدرات وموهبة وطاقات فردية، فهذا غير دقيق تماما، فالإبداع تجربة فردية ونموذج دال على العبقرية والانتخاب الطبيعى للأقوى تخييلا وتصويرا وتفكيرا ومقدرة سردية.
ولكن فى الإبداع كذلك جانبه الجماعى أو أصوله النابعة من الثقافة أو المحددات العامة، فكل إبداع فردى عظيم هو ابن بيئة وسياقات عامة، وكما يشير البنيويون التكوينيون إلى مصطلح العبقرية فى الدلالة على عملية الانتخاب الطبيعى التى تتم بشكل تلقائى فتؤدى لبزوغ نجم متفرد قادر للدلالة على العام، فهم يشيرون كذلك إلى الطبقات والسياقات العامة والأنساق الثقافية العامة التى تشكل الموهبة الفردية أو تنضجها.
اقرأ ايضاً| مجدى نصار يكتب: همس العقرب.. بين الحكاية وفلسفاتها وأساطيرها
وإذا كان الإبداع العمانى يبدو متشابها فى بعض ملامحه أو فى بعض أنساقه البنيوية العامة فهذا راجع للجزء المشترك أو للروابط المشتركة من الطبيعة أو البيئة والتاريخ الثقافى لسلطنة عمان وأساطيرها وسمات العقل الجمعى فى حقب معينة، ولكن يبقى دائما وراء هذه التشابهات والاشتباكات والسمات العامة مساحات هائلة بعد ذلك دالة على التميز الفردى واختلاف التجارب السردية وتنوعها من صوت روائى إلى آخر، فليس صحيحا أن السرد الروائى العمانى متشابك أو متكرر كما قد يظن أى مطالع أو قارئ من النظرة الأولى المتعجلة مهما كانت هناك من مشتركات، وإذا تقاربت فى كثير من الجوانب والملامح أصوات كل من بشرى خلفان وجوخة الحارثى وزهران القاسمى وهدى حمد فإن مساحات الاختلاف والتميز بعد ذلك هائلة، ويمكن أن تكون مجالا ثريا للبحث النقدى المدقق والمنهجى.
وفى رواية «تغريبة القافر» نحن أمام خطاب روائى مكثف هائل الثراء على المستوى الرمزى والتأويلى وهذه واحدة من أهم نواتج الخطاب الدالة على الاختلاف والتميز والتصرف الإبداعى العبقرى فى معطيات الثقافة والبيئة العمانية؛ إذ لم يكن الاشتغال على قضية المياه والأفلاج وتاريخ هذه الظواهر الطبيعية الحضارية فى الوقت نفسه اشتغالا سرديا يحصرها فى مسألة العيش والرزق والطعام وتبدل الحياة من الرخاء والخصب إلى النقيض من المحل والجدب والجوع والفقر، بل اتسعت دائرة الإيحاء والرمزية إلى أبعاد دلالية أخرى قد تكون هى الأهم فى تقديرنا لأنها ترتبط بقيم إنسانية كلية من صراع الإنسان نحو الحضارة والنور أو التنوير بمصادره المختلفة من العلم والدين أو بمنبعيه العلمى والروحى أو الأرضى والسماوي.
وفى تقديرنا أن القارئ فى مساحات كثيرة من الرواية سيشعر أنه أمام خطاب رمزى له من القدرات الإيحائية ما يحرض المتلقى على المجازفة التأويلية وسيكون هذا القارئ المجازف مؤهلا عقليا ووجدانيا لأن يستشعر أنه أمام سيرة أقرب لأن تكون سيرة نبوية أو قصة تاريخية لنبى عظيم وليس لمجرد قافر يدل الناس على الماء، فلن يكون بطل الرواية سالم بن عبد الله بن جميّل مجرد قروى يستعين بقدراته الخارقة ليدل الناس على الماء الذى تخبئه الطبيعة منهم فى بطون الجبال فيمنحهم الحياة والخصب والأمل من جديد.
بل سيبدو قريبا من نموذج فوقى يرتبط بالسماء أو بالماورائيات، وتتوافر له أسباب التفوق الغامض والقدرات الخارقة التى تجعله ناشرا للخير والحياة والحضارة، والحقيقة أن الخطاب الروائى على قدر كبير من العبقرية فى الإيحاء والتوظيف الرمزى لمكونات بعينها، بما يمنح أملا كبيرا فى الرواية العربية التى تجدد نفسها، ولن أكون مبالغا إذا قلت إن الرمز الدينى الذى كان لدى نجيب محفوظ فى أولاد حارتنا وملحمة الحرافيش اكتسب لدى زهران القاسمى أبعاد جديدة وملامح متجددة مختلفة تناسب سياقاتنا الراهنة بما لهذه السياقات من أبعاد جمالية وثقافية تؤثر حتما على التلقى وعمليات التأويل للنص الأدبي.
إن مشهد الصخرة تحديدا لواحد من المشاهد المكتنزة لطاقات إيحائية ورمزية هائلة وهو مشهد شاعرى ملهم، ويحيل إلى حديث نبوى يورده ابن كثير معروف بحديث الصخرة الصلدة فى غزوة الخندق، حين كان النبى يكسر الصخرة بمعوله ويقول هزمت فارس، ثم يكسر أخرى ويقول هزمت الروم، ومن بعدها لا يحال بين أمته وجيشه من نشر دينه وأفكاره، والأمر نفسه فى مشهد الصخرة فى الفلج وبلوغ الماء حين ينجح أهل القرية بقيادة سالم فى تفتيت الصخرة وتزول السدود بين الناس وبين الماء وتتدفق الحياة وتتجدد وتتبدل معيشتهم تماما من النقيض إلى النقيض.
ويعزز هذه السيرورة الرمزية ويدعم ذلك التأويل عدد من العلامات أو المسارات، أولها التردد بين الإيمان والكفر بقدرات سالم الخارقة فى التنبؤ بالماء ومعرفه أماكنه، واللحظات التى يلتحم فيها الجميع بما فيهم شيخ القرية الذى جار على الحق سابقا وكان كارها لسالم وغير مؤمن به لكنه يلتقى معه فى المصلحة فى لحظة معينة ويسخر كل قدراته لإزالة الصخرة وبلوغ الماء، وهو أشبه بحال أبى سفيان بن حرب وبعض سادة مكة الذين أنكروا الدعوة فى البداية ثم التحقوا بها ونصروها بعد ذلك، فكان أوج الانتصارات الإسلامية فى العصر الأموى وعلى يد معاوية بن أبى سفيان مثلا.
وفهناك دائما فريقان أحدهما يؤمن بسالم وقدراته وصلاحه وهناك فريق آخر يسخر منه فى البداية ويضحك من تصرفاته ودعواه ثم تدريجيا يكون اليقين أو الإيمان به. وهناك علامات كثيرة دالة داعمة لهذه السيرروة التأويلية والقدرات الرمزية والإيحائية للخطاب الروائى، والحقيقة أن هذه الغلالة الرمزية الشفيفة وغير المباشرة تمنح الحكاية تجذرا تاريخيا عميقا يجعل العالم الروائى فى تغريبة القافر مألوفا وعميقا ومصدّقا تماما من المتلقى لأن ملامح الحكاية مستمدة من الثوابت السلوكية لدى البشر فى التذبذب والتردد فى الإيمان بالخوف، واختلاف مساراتهم فى الاقتناع بكل ما هو جديد أو مراحل الإيمان بكل دعوة جديدة.
فمن العلامات الداعمة كذلك لهذا المسار الرمزى والتأويلى قدر ما لاقى سالم وأهله من المعاناة فى سبيل الحقيقة أو فى سبيل تقديم الخير للناس، ورمزية الماء هنا لا يمكن التغافل عنها لما تعادل من جوهر الحياة أو روحها وأسبابها ومقومات الحضارة والقدرة على تبديل حياة الناس تماما. والحقيقة أن هناك علامات دالة كثيرة وأحيانا تفصيلية وتتشكل فى دوائر صغيرة أحيانا مثل دلالة بعض الأسماء والتفاصيل كأن يولد سالم بهذه الكيفية يتيما وتربيه جدته أو عمة أمه وترضعه آسيا التى هى قريبة من ظلال آسيا زوج فرعون التى كانت بها نجاه موسى عليه السلام حين أوكلت رضاعته لأمه، وكذلك الهجرة أو الارتحال الأول عبر البحر بما يشبه الهجرة الأولى التى كانت فى مرحلة الدعوة النبوية الأولى السرية فى مكة.
ولكن من المهم جدا أن نؤكد على أن هذه الملامح الرمزية ليست مباشرة ولا تعنى أبدا أن الرواية مجرد إسقاط دينى سطحي، بل هى أبعد ما تكون إلى ذلك، بل هى سيرورة تأويلية تنبع من الأعماق عبر تلميح وتشكيل دلالة خافتة، يفيد منها الخطاب فى تعديد مستويات قراءته، بل تبدو داعمة للأبعاد الواقعية والحقيقية التى تصورها الرواية ولعالمها اليومى أو الآنى أو للحكاية المعاصرة، فى نوع من التأرجح الناعم فى هذا العزف السردى بين الوترين الرمزى والواقعى بما يسهم فى بلورة خطاب سردى متعدد الجوانب ويتسم بالكثافة ويستمد لنفسه من روح الحياة والتاريخ جذورا وظلالا تعجله شبيها بالحياة فى تكرارها أو دفقاتها التاريخية المتشابهة والمتكررة.
فى الرواية قيم جمالية كثيرة تتجاوز النواتج الدلالية، إذ فيها الاستثمار العجائبى الأمثل للطبيعة العمانية، من توظيف عوامل البيئة من جبال وأفلاج وطبيعة صخرية ورمال وصحراء وزروع ونباتات وطقس وأمطار وسحب وغيرها من سيمياء الطبيعة وعلاماتها، ليكون هناك شكل عبقرى ومتفرد من الالتحام بين الطبيعة والإنسان، فيمكن أن يكون الإنسان فى مرآة سرد هذه الرواية متشكلا بصورة النموذج البطل الأسطورى المعاند للطبيعة أو المحارب لصعوباتها ومشاكلها، فيبدو قريبا من نموذج المكافح ضدها أو ضد تحدياتها المميتة، فيتشكل عن ذلك عالم ثرى وحافل بالتوتر والقلق وتبدل المصائر من الخير إلى الشر أو من الخصب والنماء والخير والشبع إلى النقيض من أن يصبح الإنسان فى بعض الأحيان عاجزا مهزوما أو أسيرا للطبيعة التى تحاصره بالفقر والجدب والجفاف والعطش وقلة الحيلة وتحاول التغلب عليه بصخورها وغموضها وأسرارها وجبالها التى تخفى كنوز الماء فى باطنها، ومن هذا الصراع الأزلى بين الإنسان والطبيعة يتشكل عالم حافل بالتوتر والقلق والأحوال المتبدلة أو التقلب بين قيم الحياة ومعانيها المتناقضة.
وفى الرواية تجسيد متفرد ومختلف عن السائد فيما يتصل باستثمار الأمراض وسيميائها وربطها بالماورائيات أو القوى الغيبية، ويبدو ذلك واضحا بشكل خاص مع مريم والدة سالم بطل الرواية أو الشخصية الرئيسة فيها، وكذلك حال الوعري، والحقيقة أن هذه التفسيرات الماورائيات لكثير من الأمراض والحالات الغريبة وتفسيرات ترتبط بالأساطير والجن، تجعلنا أمام عالم روائى له نسيجه الوجودى الكثيف والمتنوع بين المادى والروحي، المحسوس أو المدرك بالحواس، وتلك العوالم الخفية الغامضة فى كائنات وموجودات أخرى تشاركهم العالم أو آمن العقل الجمعى بوجودها، والحقيقة أن هذه الوضعية السردية فى تصوير المرض وتوظيفه دراميا تفيد فى جانب آخر مهم وهو تغذية حال الصراع، إذ يبدو الإنسان مواجها لقوى خفية كثيرة ليست مرتبطة بالطبيعة والأمطار والجفاف وقوانين هذه الطبيعة فى منح الماء والزرع وتحولاتها المتناقضة فقط.
ولكن كذلك فى هذه الحالات من الصراع مع الأسقام أو الأوجاع الغامضة التى يتصارع عليها دائما تفسيران، أحدهما هو الأقوى والأكثر هيمنة والأثقل ظلالا وحضورا وهو التفسير الأسطورى وتفسيرات الجن والعفاريت والأرواح السفلية والمسّ، وهو ما ينتج ضفيرة أخرى تتمثل فى غذاء هؤلاء البشر على الحكايات والقول والقيل الذى يبدو نمطا سلوكيا فاعلا فى البنية الدرامية بما يدفع الأحداث أو يحركها من الأساس مثل حالات الهجر والعزلة والسفر أو الانزواء وانعكاس ذلك على بعض الشخصيات التى لا تبدو مضطرة لأن تكون منبوذة أو مستبعدة، وتبدو هذه العوالم والبنية الاجتماعية المصورة فى خطاب الرواية دائما تقوم على حالات من النبذ والإقصاء الجبرى أو الاضطرارى وهو فى النهاية ما يجعل المتلقى أمام حالات ثرية من الفعل ورد الفعل وحالات من الظلم أو الحراك الإنسانى المؤسس على الغرائز المتضافرة مع المعتقد أو المتخيل الأسطورى الذى ترسخ فى المجتمع وأصبح بنية صلبة حاكمة للعقل، فالرواية تجسد هذا التكوين الأسطورى والخرافى بشكل ناعم وتستثمره لإنتاج التشويق وإنتاج عالم يتسم بالديناميكية والصراع المستمر أو شبه الأزلى.
تصور الرواية عالم إنسانيا ذا نسيج متشعب ومتنوع، فى تمثيل لقيم الاختلاف والتنوع الموجودة فى الحياة، مما يجعلنا أمام حال سردية أكثر فاعلية على مستوى الإيهام بحقيقة هذا العالم أو جعل المتلقى متماهيا معه ومصدقا لكل تفاصيله، فهناك اختلافات كثيرة بين الأنماط الإنسانية المطروحة بين الخير والشر والقوة والضعف والعلم والجهل والرضا والطمع وغيرها من الحالات النفسية والإنسانية الطبيعية أو التى تجعلنا أمام عالم روائى أقرب للقوانين الطبيعة وأبعد من الصنعة والاختراع.
ومن نقاط القوة كذلك فى هذه الرواية ما يجرى فيها من استثمار للأحلام عبر أكثر من دور وظيفى مهم فى الاستراتيجية السردية للخطاب الروائي، بأن تمثل الأحلام فى بعض الأحيان دور النبوءة أو تؤدى وظيفة الاستباق أو الاستراق الحسى على المستقبل، فى نوع من التحفيز لقدرات المتلقى على التوقع أو أن يكون فى أقصى درجات التفاعل مع مصير الشخصية والمراقبة لهواجسها وأحلامها محاولا أن يكون ذا دور فى التخييل أو تفسير الحلم وربطه دلاليا بالبنية الواقعية أو شَبْكِه بعالم الشهادة أو الحضور.
ولكن الدور الأبرز سرديا للحلم فى تقديرنا ربما يكون فى تدعيم هذا التمديد الماورائى أو الغيبى لعالم الرواية وجعل ثنائية الواقع والغيب أو الوجود وما ورائه مهيمنة أو ممتدة بما يجعلها تستوعب كل شيء، وهكذا تسهم الأحلام أحيانا فى سبر الأغوار النفسية للشخصية ومنحها الكمال من حيث أبعاد تكوينها أو تشكيلها الإنسانى وجعلها أكثر عمقا وأقرب إلى نموذج الإنسان الحقيقى، وخاصة وأن لغة هذه الأحلام تتضافر مع نسيج اللغة السردية فى الطاقات الإيحائية والتصويرية ومقاربة الهواجس والرؤى المخيفة وتتشابك فى تفاصيلها مع الواقع بمفرداته وأشيائه وقضاياه أو أزماته، فهناك أحلام عن المياه والجفاف أو العكس وأحلام عن المرض والموت والفقد والغياب وهناك أحلام ترتبط بالأبناء وأمراضهم وفقدهم، والحقيقة أن هذا النسق المتمثل فى الأبناء أو فكرة الامتداد والخوف على هذه الامتدادات يشكل حالا متسقة دالة على نسق ثقافى حاكم للعقل الجمعى الذى يمثل الولد فيه ظلا وزادا حقيقا وذاتا موازية يتم استثمارها فى البناء الدرامى بما يحرك هذا العالم ويشكل الدوافع الأعمق للفعل فيه.
وتمثل خاتمة الرواية نموذجا رمزيا ثريا للتعبير عن حال الانحباس بمعناها العام وصراع الإنسان للبقاء أو تجسيد غريزة البقاء لديه، وهى دالة على كافة أشكال الصراع، ولكن تصويرها بمفرداتها الواقعية هى الأكثر تشويقا وقدرة على إنتاج الجمال الأدبى المختلف وتجعلنا أمام عمل أدبى مرشح لأن يعيش طويلا فى وجدان قرائه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.