لا شىء يُخيفهم، لا الزواحف السامة، ولا الصحراء التى تبتلع مَن لا يعرف دروبها، وجوه سمراء لفحتها الشمس، وعيون اعتادت النظر فى أعين الكوبرا والثعالب دون أن ترف، يخرجون كل موسم إلى معركة غير متكافئة، لكنهم دائمًا المنتصرون، صيادو الصحارى والجبال، مَن يلاحقون الموت بأيديهم، ويحوّلون ما يُرعب الآخرين إلى مصدر رزق بالدولار. الأبراص، الطريشة، الثعابين، الثعلب الفانكى، والسلحفاة النادرة.. كلها كائنات يصطادها هؤلاء الرجال ويبيعونها لتدخل فى صناعاتٍ طبية أو يتم تصديرها لدول الخليج وأوروبا، كل رحلة تبدأ بتصريح من وزارة الزراعة، وتنتهى إما بغنيمة ثمينة أو بندبة جديدة على أجساد لا تعرف الراحة. والأسئلة التى تطرح نفسها: هل هى هواية مُتوارثة أم مغامرة محسوبة؟ وما الدافع وراء المجازفة اليومية؟ وكيف يتعاملون مع الأخطار المحيطة؟ والأهم: ماذا تبقى من الحياة عندما تكون الغنيمة ثعبانًا سامًّا؟، "الأخبار" تنفرد بالغوص داخل هذا العالم الغريب، تنقله بالصورة والقلم، وتحكى عمن اختاروا أن يكتبوا قصصهم على رمال الصحراء لا على ورقٍ ناعم. «الشرقاوي» ورفاق البرية.. حفيد الثوار يروّض الذئاب تحت ظلال النخيل فى قلب صعيد مصر، حيث تتوارث العائلات المجد والكرامة، يعيش محمد أبو الوفا الشرقاوى، صعيدى الروح، وحفيد أحد رموز ثورة 1919، الشيخ أبو الوفا الشرقاوى، أحد أبرز زعماء النضال والصوفية فى جنوب البلاد. لكن الشرقاوى لم يختر حمل الراية السياسية أو الدينية فقط، بل أمسك بزمام طريق آخر تمامًا، طريق يسير فيه جنبًا إلى جنب مع «الذئاب والثعابين» ليس صائدًا، بل مربٍّ وعاشقٍ وكائن من طراز فريد، يرى فى هذه الحيوانات البرية المفترسة كائناتٍ تستحق الرعاية والرحمة، لا الخوف والقتل. «أنا بحبهم.. وبعطف عليهم».. بهذه الكلمات البسيطة التى لا تخلو من صدق داخلى، يصف الشرقاوى علاقته مع الذئاب، لا يراها كائنات شرسة كما يعتقد أغلب الناس، بل يعتبرها «جبانة وانطوائية»، لا تهاجم إلا من يبادر بالعداء، ولا تؤذى إلا من يظن أنه الأقوى. ويعود شغفه إلى يوم 5 أبريل 2020، عندما صادف أول ذئب فى حياته، ومنذ ذلك اليوم تغيّر كل شيء، تعرّف على مجموعة من الصيادين فى الصحراء الشرقية ممن يصطادون الذئاب، وبعد انتهاء مهامهم كانوا يُحضرون له الذئاب الصغيرة التى يصعب عليها النجاة وحدها، ليعتنى بها ويُؤمن لها حياة جديدة. حكاية الشرقاوى ليست قصة رجل يُهوى تربية الحيوانات فقط، بل هى مثال نادر على كيف يمكن للرحمة أن تُخضع الوحش، ويشرح بنبرة لا تخلو من حنان قائلاً: «الذئاب لا تخيفنى، بل تبهجنى، أراها أضعف من الكلاب... وأحنّ عليها كما يُحنّ على طفل يتيم». يُطعمها أرجل الدجاج وبواقى الطيور، ويمنحها الأمان وسط حديقته المنزلية، حيث تتجوّل بحرية وكأنها فى غابة، بعضها يهديه إلى أصدقائه من محبى تربية الحيوانات النادرة كنوع من التبادل، والآخر، إن مات، يُحنطه ويضعه كقطعة ديكور ترمز إلى عالمه المختلف. ولم تتوقف حدود المغامرة عند الذئاب، الشرقاوى أيضًا يربى الثعابين، يحتفظ بأنواع غير سامة مثل: «الأرقم الصحراوي»، كما يربّى «الطريشة»، المعروفة بخطورتها العالية والتى تتغذى على دودة الأرض، وهو يدرك تمامًا خطورة بعض هذه الكائنات، لكنه يرى فى تربيتها والتعامل معها «وسيلة لفهم الطبيعة وتصحيح المفاهيم الخاطئة»، ويقول: «الثعبان ليس شرًا مطلقًا، بعض أنواعه يمكن استخدامها لاحقًا فى صناعة علاجات لمواجهة السموم» الشرقاوى لا يقدم نفسه كصائدٍ محترف ولا كخبير فى الأدوية البيولوجية، بل يرى نفسه مجرد هاوٍ يحاول الحفاظ على الحياة البرية من منظور شخصى وإنسانى، ويرى أن كثيرًا من الحيوانات التى يُحكم عليها بالرعب والخطر، تعيش داخلها كائنات قابلة للترويض والتعايش، إن توافرت لها بيئة آمنة ومنطق إنسانى مختلف. من خلال تجاربه، يحاول الشرقاوى أن يُغيّر نظرة الناس إلى الكائنات البرية، داعيًا إلى احترامها لا مطاردتها، واحتوائها لا قتلها، يطمح فى أن يكون وجوده وقصته بداية لوعى جديد فى الصعيد، يُعزز من ثقافة «الحفاظ على التنوع البيولوجي»، لا اجتثاثه باسم الخوف أو الجهل. «قنّاصة القمر» فى سيناء.. أرنب واحد وراءه مغامرة ب20 كم الهدوء يسيطر على صحراء وسط سيناء، لكنّ هناك من يُشعل رمالها بمطارداتٍ خاطفة وأضواء تلمع كوميض البرق، ليس مشهدًا من فيلم أكشن، بل رحلة واقعية يخوضها محبّو صيد الأرانب البرية، الذين يجوبون الأودية والجبال، حاملين بنادقهم ومصابيحهم وكشافاتٍ ليلية قوية، وأهم ما يمتلكونه: الجرأة، والقدرة على المناورة، والصبر الطويل. شعارهم بسيط لكنه ناري: «ويفوز باللذات كل مغامر»، وفى إحدى الليالى القمرية، رافقنا فريقًا محترفًا فى صيد الأرانب إلى منطقة تُعرف ب «المسمي» جنوبالعريش، بعد وصول أنباء عن وجود أرنبين فى مزرعة قريبة، انطلقت الرحلة بسيارة «جيب» مُجهزة، فى تمام السابعة مساءً، رغم برودة الطقس الشديدة، وسط تعليماتٍ صارمة بعدم إصدار أى صوت قد يُنذر الأرانب. داخل مزرعة مهجورة بها لمبة تعمل بالطاقة الشمسية، بدأ «الحاج غنايم» قائد الفريق، مراقبة المكان ببندقية خرطوش وكشاف قوى يساعده فيه أحد المرافقين، بينما بقيت بقية المجموعة فى ترقّب، ساعة كاملة مضت، لكن الأرانب أفلتت غنايم علّق بابتسامة واثقة: «الليلة قمرية... وكل مرة نوجّه الكشاف، يفر الأرنب بسرعة، الصيد الأفضل يكون فى ليالٍ بلا قمر.» «الحاج غنايم» ليس مبتدئًا، بل يحمل تاريخًا طويلًا من التعلّم والممارسة، تعلم الصيد من والده، وتدرّب على الميدان فى الحسنة، ونخل، ورفح، يعرف تمامًا كيف تعيش الأرانب فى حُفرها تحت الأرض، وكيف تخرج آذانها فقط لاستشعار الخطر، ويقول بثقة: «أذناها جهاز إنذار دائم... وحاسة شمها أقوى مما يتخيل البعض». ويشير إلى فروق دقيقة بين أرانب المناطق الساحلية ووسط سيناء، وزن الأرنب فى الساحل قد يصل إلى 4 كيلوجرامات بفضل وفرة الغذاء، بينما ينخفض وزنه إلى 2 كيلوجرام فى وسط سيناء، لكن نكهته تختلف، لأن غذاءه نباتات طبية، مما يمنحه طعمًا خاصًا. العضو الآخر فى الفريق، «سامى منسي»، كشف عن الجانب البدنى للمطاردة قائلًا: «نلاحق الأرنب لمسافة قد تصل إلى 20 كيلومترًا فى الصحراء، سرعته ومراوغته مذهلتان، خاصة عندما يغير اتجاهه فجأة بزاوية قائمة.» ويتوزع الفريق داخل السيارة: سائق يواجه التضاريس الصعبة بأقصى سرعة، ورامٍ يتابع الأرنب من فتحة السقف حاملاً كشافًا قويًا، وثلاثة آخرون موزعون فى الجهات الثلاث، كل منهم مُمسك ببندقية صيد. النهار مُخصص لصيد الأرانب فى المناطق الساحلية، بسبب تعوّدها على الضوضاء، لكن فى عمق صحراء سيناء، يفضل الصيادون الليل، حيث تخرج الأرانب من جحورها باحثة عن طعام، بعيدًا عن حر النهار وخطر الطيور الجارحة والزواحف. «القبطان حسين صبحي»، أحد هوّاة الصيد فى العريش، يرى فى الرحلة مغامرة متكاملة قائلًا: «ليست فقط لأكل الأرانب، بل متعة الصيد نفسها... لحظة المطاردة، رائحة الصحراء، النوم تحت النجوم، وصوت الطلقات فى السكون»، ويضيف: «تكلفة الرحلة تتراوح بين 1500 إلى 2000 جنيه، وتشمل: الوقود، الطعام، والمؤن، وقد تمتد لأيام، يُنصَب خلالها «معسكر بدوى بسيط» من خيمة ومعدات ليلية» ، مضيفًا: «نصطاد ليلاً فقط، لأن الأرنب لا يتحمل درجات الحرارة، ويخرج ليلًا فقط بحثًا عن طعام.» «نجيب سعيد»، هاوٍ مخضرم، لا يكتفى بالمطاردة، بل يمتلك مهاراتٍ عالية فى تحديد موقع الأرنب المناسب وتوقيت إطلاق الخرطوش، ويقول: «أصوّب على رأسه أو قدمه فقط... ثم أسُرع فورًا لمكان السقوط قبل أن يتمكن من الهرب».. هناك من يفضل استخدام المصائد المعدنية، وهى أقفاص شبكية، مُزودة بطُعم، وباب يتم غلقه تلقائيًا عند دخول الأرنب، وتُوضع حجارة ثقيلة فوق القفص لمنع انقلابه. ولا يرى أهل سيناء فى لحم الأرنب مجرد وليمة، بل هو علاج طبيعى للعديد من الأمراض، ويشير نجيب إلى حالات كثيرة تعافت بفضل لحم الأرنب: «مرضى سكرى وأمراض مزمنة، تحسّنت حالتهم خلال أسبوعين فقط من أكل الأرنب... أحدهم عاد لطبيبه ليُفاجأ أنه لم يعد بحاجة للدواء، فصيد الأرانب فى سيناء ليس مجرد رياضة أو مصدر غذاء، بل جزء أصيل من التراث البدوى، ونمط حياة لعشّاق البرية، هم رجال يعشقون الرمال، ويطاردون أرنبًا واحدًا كما لو كانوا يطاردون نجمًا، يعيشون لحظة المطاردة بكل جوارحهم، ويجدون فى هذه الليالى ما لا يمكن أن تمنحه المدينة من الحرية، والمغامرة، وصوت الطلقة فى صمت الصحراء». «صائدو السم» يتاجرون بالموت من أجل الحياة داخل مزرعة مُجهزة بعناية، تتوزع أربع غرف مُخصصة لتربية الثعالب، و»حوش» كبير يؤوى عشرات السلاحف، بينما جُهزت غرفة منفصلة للثعابين بأنواعها، المشهد ليس جزءًا من فيلم وثائقى عن الحياة البرية، بل واقع يومى يعيشه جمال طلبة، أحد أبرز صائدى الزواحف فى مصر، والذى فتح أبواب عالمه الصعب ل «الأخبار». فى هذه البيئة الحادة، لا مكان للرهبة، أطفال جمال أنفسهم يتعاملون مع الثعالب الصغيرة كأنهم يلعبون بجرو أليف، ويُمكن لأحدهم أن يمسك بثعبان غير سام دون أن يرمش، الأب يتابع ذلك بشيء من الفخر، مؤكداً أن ما يبدو مخيفًا للناس، هو بالنسبة لعائلته مهنة ووراثة وشغف. الصحراء تقسم أهلها حسب الفريسة: هناك من يتخصص فى الضباع والأسود، وآخرون فى الطيور الجارحة، أما جمال ورفاقه فاختصوا بصيد الزواحف، وعلى رأسها: الثعابين والعقارب، والثدييات الصغيرة كالثعالب. يقول جمال: «ما نقوم به ليس مجرد مهنة، هو أسلوب حياة وشغف بالطبيعة، نتعامل مع كائنات دقيقة وخطيرة، وتتطلب قدرًا هائلًا من الحذر والخبرة، الخطأ فيها قد يكلف الحياة، فالصيد يبدأ بتتبع الأثر، الزواحف تترك إشاراتها على الرمال، ومن خلال الخبرة يمكن للصائد أن يحدد النوع ومكان الاختباء، ويُفنّد جمال خرافة «التصفير للثعبان»، مؤكدًا أنها لا وجود لها فى الواقع. المناطق التى تستهدفها رحلات الصيد تمتد من مطروح وحتى أسوان، مرورًا بالواحات والبحر الأحمر، الزواحف تُصطاد فى فترة نشاطها خلال أشهر الصيف، ما بين أبريل وسبتمبر، أما خلال الشتاء، فتدخل بياتًا شتويًا، مما يجعل اصطيادها صعبًا ويقتصر على ساعاتٍ محددة من السابعة صباحًا وحتى الخامسة مساءً، أما الثعالب، فكونها من الثدييات، تُصطاد على مدار العام، لكن يُفضَّل صيدها شتاءً نظرًا لكثافة فروها، مما يزيد من قيمتها التجارية. قبل كل رحلة، يجب على الصائدين استخراج تصاريح من وزارة الزراعة، تختلف مدة الرحلة بحسب بُعد الموقع، الرحلات القريبة تُنجز فى يوم واحد ويُصطاد خلالها نحو 20 ثعبانًا، أما الرحلات البعيدة فقد تستغرق ثلاثة أيام يُنصب خلالها معسكر مؤقت وسط الصحراء. جمال يؤكد أن مصر تضم 36 نوعًا من الثعابين، منها: 6 سامة فقط، وأشهرها: «الكوبرا، البخاخة، الطريشة، بأنواعها الثلاثة « الغريبة السوداء «منتشرة فى الفيوموالبحر الأحمر»، القرعة، المقرنة (تمتاز بقرنين بارزين وتُعرف باسم «أم جنيب). وعن طرق الصيد يوضح: الكوبرا تُمسك من خلف الرأس ومن أسفل، بينما تُمسك الطريشة من عنقها بدقة شديدة، وإلا تكون النتيجة كارثية. أبرز الصعوبات التى تواجه الصيادين هي: غياب المصل المضاد للدغات، عند الإصابة، يُربط المفصل بسرعة، وتُوضع قطعة ثلج، ثم يُنقل المصاب إلى مستشفى الدمرداش بالعباسية، وأغلب اللدغات تحدث نتيجة سوء استخدام الماسك أو الجهل باختلاف طرق الإمساك بكل نوع.. صيد الثعالب لا يهدف فقط للتجارة، بل أحيانًا للتكاثر والتجارب العلمية، بسبب ضعف عظامها، يتم الاحتفاظ بها فى غرف مُخصصة حيث يُوضع ذكران مع ثلاث إناث لتكاثرها. الثعالب تُستخدم فى كليات الطب أو المختبرات، وغالبًا يتم تصدير الأنواع المرغوبة إلى الخارج، أكثر الأنواع طلبًا: «ثعلب الفنك، الثعلب الصحراوى، الثعلب الزراعى (ذو رائحة كريهة ولا يُصدَّر)، والأسعار تتراوح بين 250 و500 دولارللثعلب الواحد. أما الزواحف فتُباع بأعداد ضخمة، الأبراص والسحالى، تحديدًا، تُصنّف بأنها الأعلى تصديرًا، وتبدأ الشحنة من 100.000 برص فى أقل مرة، بسعر دولار واحد لكل منها، وهى تسعيرة محددة من وزارة الزراعة، أما العقارب والثعابين فتصل أسعارها إلى 20 دولارًا، وتُستخدم فى صناعة الأمصال والأدوية المضادة للسموم.. طعام هذه الحيوانات يُجهَّز بعناية، فالثعالب تتغذى على الفئران البيضاء، أجنحة الدجاج والسمان، العسل، البلح، والأرز، أما الثعابين فتأكل فئران وسحالى حية، بحسب نوعها.. كل شيء فى هذا العالم قائم على التوازن، كما يقول جمال: «نحن لا نقتل عبثًا، ولا نصطاد بلا داعٍ، نعيش مع هذه الكائنات ونفهم طبيعتها، وكل خطوة نقوم بها بحذر ووعي». «رماة الجبال».. تقنيات الصيد بين الصخور وأسرار الغزلان صوت الريح ينساب عبر الوديان، والرمال تتقافز بين عجلات سيارات الدفع الرباعى، بينما تُسمع من بعيد نقرة طلقة بندقية تلتقط غزالًا فى لحظة خاطفة.. هكذا يعيش عبد الرحمن الكاشف، شاب من محافظة أسيوط ، وهوايته الصيد فى صحراء الصعيد، ولكنه ليس صيادًا عاديًا، بل مغامر حقيقى يعشق اختراق البرارى والجبال والوديان، ولا يتردد فى أن يقضى يومين أو ثلاثة أيام متتالية فى قلب الصحراء، بحثًا عن طريدة جديدة، يتنقل بين المحافظات، من أسيوط إلى البحر الأحمر، ومن ضفاف النيل إلى أعالى الجبال الصخرية، وكل رحلة تحمل مغامرة مختلفة.. ويقول الكاشف بثقة: «نحن جيل جديد من الصيادين... نمارس هواية فيها مزيج من الشغف، والمهارة، والصبر، لا نكتفى بصيد سهل على حافة مزرعة، بل نبحث عن الغزلان وسط الصخور، وعن الماعز البرى فى أعالى الجبال.» لكل نوع من الصيد عُدته وتقنياته، كما يوضح عبدالرحمن، فصيد الصحارى يختلف تمامًا عن صيد البساتين أو ضفاف النيل، الصحارى تحتاج إلى «سيارات دفع رباعى مُجهّزة»، ودليل يعرف كل درب وشق ونقطة ماء، أما الصيد فى الجبال، فهو الأعقد، ويتطلب بنادق دقيقة، وأعينًا مُدرّبة.. ويقول الكاشف: «كل رحلة نخطط لها كأنها مهمة استطلاع، نُجهّز الزاد والوقود، ونعرف موقع الطريدة بدقة، ونحسب اتجاه الرياح... لحظة واحدة قد تفصل بين النجاح والخيبة»، وعن المعدات، يؤكد الكاشف: أن أكثر البنادق استخدامًا فى صيد الغزلان والماعز البرى هي: «الماوزر والهندي»، وهما الأكثر تفضيلًا لدى أعضاء نوادى الصيد المرخصين، و»الماوزر بندقية لا تخونك، دقيقة وصامتة... ومع المنظار المناسب، يمكن اصطياد غزال من على بعد 600 متر أو أكثر.» ويضيف: أن «بنادق الخرطوش عيار 12»، تُستخدم فى حالات صيد الطيور أو الحيوانات متوسطة الحجم، لكنها لا تصلح لصيد المرتفعات أو المسافات البعيدة، حيث تتطلب الدقة العالية والقدرة على المناورة. ليالى الصيد لها طقوس خاصة، فالصيد الليلى للغزلان والماعز البرى يعتمد على تسليط ضوء كشاف قوى مباشر على أعين الطريدة، ويقول الكاشف: «عندما نوجه الكشاف لعينى الغزال، يُصاب بالارتباك، لا يستطيع تحديد الاتجاه، فنكسب تلك الثوانى الحرجة للإصابة الدقيقة».. أما خلال النهار، فتُقاس المهارة الحقيقية. الصائد يقف على مسافة 600 متر على الأقل، يضع عينه فى المنظار، يدرس الرياح وانكسار الضوء، ويضغط الزناد بأقصى تركيز، لأن أى خطأ يعنى طريدة ضائعة، وركضاً لساعاتٍ بلا نتيجة، وأصعب أنواع الصيد هو «الماعز البري»، كما يروى الكاشف، لأنه يسكن المناطق الوعرة، ويجيد التخفى والحركة السريعة على المرتفعات موضحًا: «هذا النوع من الطرائد لا يصطاده إلا من يعرف الجبل كما يعرف كف يده. فقدان الطريدة فى هذه الحالة لا يعنى خسارة وجبة فقط، بل ضياع مجهود رحلة كاملة، واستنزاف للوقت والذخيرة.. مجتمع الصيد فى أسيوط -كما يصفه عبدالرحمن- ليس كبيرًا، لكنه مترابط ، الصيادون يتبادلون الخبرات، ويشاركون مواقع الوديان والمسارات الجديدة، ويحرصون على القوانين، إذ لا يُطلق الرصاص دون ترخيص، ولا يتم صيد إناث الغزلان أو الحيوانات الصغيرة.. ما يفعله عبدالرحمن الكاشف وأقرانه ليس فقط هواية، بل «مدرسة حياة»، فى كل طلقة، وكل كيلومتر فى الصحراء، هناك درس عن الصبر، ودقة الملاحظة، وقيمة التضحية، الصيد عندهم ليس قتلًا، بل هو تواصل مع الطبيعة، وحوار بين الصائد والفريسة. «أبو السعود» يحوّل الصحراء إلى كنز دوائى صياد العقارب.. ابن الوادى يروّض السُم ويحوّله إلى ذهب قرية «الموهوب» الهادئة جنوب مدينة الداخلة بمحافظة الوادى الجديد لم تعد مجرد نقطة على خارطة الصحراء، بل تحولت إلى عنوان لنجاح استثنائى يحمل توقيع مهندس طموح اسمه أحمد أبو السعود، فى الخمسين من عمره، وصاحب أكبر مزرعة رسمية فى مصر لتربية العقارب واستخلاص سمومها وسم النحل على مساحة 200 فدان.. فكرة المشروع لم تكن وليدة دراسة مُعقّدة أو تخطيط استثمارى طويل، بل بدأت كما يروى أبو السعود نفسه خلال تصفّحه للإنترنت قائلاً: «كنت أقرأ عن خصائص العقارب ودُهشت عندما علمت أن جرام سم العقرب يُباع لشركات الأدوية العالمية بأسعار تتراوح بين 5300 و7500 دولار... من هنا انطلقت الفكرة مباشرة نحو السماء.».. الحلم لم يتأخر كثيرًا فى التحول إلى واقع، إذ عرض المهندس فكرته على اللواء محمد الزملوط، محافظ الوادى الجديد، الذى رحّب بها على الفور وخصّص له 200 فدان فى قرية «الموهوب»، لتكون المهد الأول لأكبر مزرعة عقارب فى مصر. منذ ذلك الحين، اكتسب أبو السعود لقبًا غريبًا ولكنه صادق: «صياد العقارب»، وهو لا يُخفى علاقته الغريبة بهذه الكائنات، إذ يصفها قائلاً: «العقارب أصبحت رفاق حياة... نتعامل معها يوميًا: نطعمها، نوفر لها بيئة آمنة، ونستخلص منها ما يمكن أن ينقذ حياة الآلاف. حتى إننى أحيّيها أحيانًا مازحًا بعبارة (أهلاً بالحبايب) عندما ألمح واحدة منها تتجول».. صيد العقارب، كما يشرح أحمد أبو السعود، ليس مغامرة متهورة بل مهنة لها قواعد صارمة، كل صياد يرتدى «قفازات خاصة»، ويحمل «كشافًا أزرق ضوئيًا» يعمل بتقنية «الأشعة فوق البنفسجية»، إذ أن جسم العقرب مُغطى بطبقة فسفورية تُضيء فور تسليط الكشاف عليها، وعند رؤيته، يُستخدم «الماسك» بحذر، ويُوضع العقرب فى «حاوية بلاستيكية» استعدادًا لنقله إلى المعمل داخل المزرعة.. ويضيف: «نجهّز أنفسنا دومًا بمصل مضاد للدغات، تحسبًا لأى طارئ، رغم أن فرق العمل مُدرّبة بدقة عالية»، ويبدأ موسم الصيد مع بداية شهر يوليو وحتى نهاية أكتوبر، وهى الفترة التى تنشط فيها العقارب مساءً نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، حيث تخرج للبحث عن الصراصير والديدان كغذاء رئيسى، دورة التغذية تستمر نحو 15 يومًا، بعدها تخرج العقارب مجددًا بحثًا عن الوجبة التالية. أما فى الشتاء، فتدخل العقارب فى بياتٍ شتوى قد يستمر لأكثر من أربعة أشهر، ولا تغادر جحورها إلا نادرًا.. البيئة الصحراوية الفريدة لقرى الداخلة، كما يوضح أبو السعود، تمثّل بيئة مثالية لهذه الكائنات: «كل قرية هنا لها ظهير صحراوى وآخر زراعى... من الموهوب إلى القصر والقلمون، العقارب تخرج من المنازل المهجورة والمزارع والمناطق المُهملة، تبحث عن طعامها فى أماكن يعرفها الصيادون جيدًا.» أرقام مذهلة يسردها أبو السعود بثقة واعتزاز: «نجحنا حتى الآن فى اصطياد أكثر من 55 ألف عقرب، وقمنا بتربية أعداد كبيرة منها داخل المزرعة التى تستوعب حاليًا أكثر من 80 ألف عقرب»، وأشهر الأنواع المتوافرة هو «عقرب «لورياس»، المنتشر بكثافة فى بيئة الداخلة.. وبعد الحصول على الموافقات الرسمية من الوزارات والهيئات المعنية، استطاع أبو السعود تصدير أكثر من 10 آلاف عقرب إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث يتم استخلاص السموم منها واستخدامها فى صناعة أدوية لعلاج: «السرطان، أمراض الأوعية الدموية، مستحضرات طبية متقدمة، هذه المنتجات يتم إعادة تصديرها إلى دول العالم بأسعار تُعد خيالية مقارنة بقيمتها البيولوجية». وينظر أحمد أبو السعود إلى مشروعه باعتباره «نموذجًا اقتصاديًا مُبتكرًا» يمكن تكراره فى أكثر من محافظة، بل ويُقدّمه كفرصة عملية لتشغيل آلاف الشباب، قائلًا: «نستطيع بناء عشرات المزارع المشابهة... لا تحتاج أكثر من تدريب جيد، ودعم من الدولة، وقليل من الصبر، وسيكون لدينا مورد دائم للعملة الصعبة».. ويحلم بتوسيع التجربة إلى مناطق أخرى مثل: مطروح، سيناء، أسوان، والبحر الأحمر، معتبرًا أن «طبيعة مصر الجغرافية مُؤهلة لتكون عاصمة العقارب الطبية فى العالم»، وأن هذه الكائنات التى طالما ارتبطت بالرعب، يمكن أن تتحول إلى «مصدر إنقاذ وأمل وأرباح».