● قبل أكثر من أربعين سنة.. كان باب البيت الكبير مفتوح على مصراعيه، ولا يغلق هو وشبابيكه أبدا إلا لحظة النوم.. وكالعادة في "يوم العيد" الرجال جالسون على ترابيزة السفرة يتناولون طعام الغذاء وبجوارهن السيدات والبنات يجلسن على "الحصيرة" وعلى "الطبلية" أطباق من نفس الغذاء الموجود على "الترابيزة" - ليس في الأمر تفرقة ذكورية بل لم تكن في الحسبان أصلا - فالجالسات على الحصيرة هن "هوانم البيت!".. في الخلفية - كان صوت التلفزيون الناشيونال 20 بوصة الملون - الذي يتوسط صالة البيت - على آخره.. الكل يتهلل؛ خاصة الصبية الجالسين على الكنبة البلدي المواجهة للتلفزيون عندما يدير أحدهم "أكرة مؤشر القنوات" - هكذا كانت تقلب القنوات قبل اختراع التاتش والريموت والدش- إلى القناة الثانية... يااااا الله.. ( قمر أكبر أنتوني ).. أحد أهم كلاسيكيات السينما الهندية، وبطولة أميتاب باتشان وريشي كابور سيبدأ عرضه الآن.. وعلى الرغم أن الكل شاهده أكثر من مرة والكل يحفظ قصته والتي تدور أحداثه حول أب يهرب من عصابة ويترك زوجته وأطفاله الثلاثة ولكن العصابة تطارد عائلته وتفقد الأم بصرها، بينما ينفصل الأبناء الثلاثة فواحد يتبناه مطرب مسلم والثاني يتبناه قس كاثوليكي مغامر بينما الثالث يتبناه ضابط شرطه هندوسي ويلتقي الأخوة في النهاية للانتقام من العصابة.. الكل يلتف حول الشاشة وكأنهم يشاهدوه للمرة الأولى.. حتى "جدتي أمينة" يحضرون لها كرسي وتجلس بجواره وتشاهده بشغف وتسمع صوتها وهي تقرأ بلغة عربية سليمة تثير الدهشة الترجمة التي كتبها "أنيس عبيد"، أو لحظة انفعالها لحظة مرور "انتوني" بجوار "أمه" التي لا يعرفها : ( دي أمك يا خايب..... )!.. الكل يركز مع الاحداث والايادي تمتد بتلقائية إلى أطباق "البطيخ" و"الترمس" و"الشعرية" والبسكويت والكعك.. اما الصغار فلا تفراق يدهم أكياس "الكاراتيه"- الشيبسي - أو اللوليتا ومصاصات "اللولي لوب" ولبان "سيما" التي توزعها عليهم "صباح" و"ناهد".. ومثل كل الأطفال والمراهقين، كان أطفال البيت يقلدون "آميتاب باتشان" ويربطون على رؤوسهم شريطًا ويخططون للركض على البراميل بجانب بعضها والصرخ مثله (هاااااااع) عقب انتهاء الفيلم.. وبعضهم كان يحلم بأن يكون بمثل وسامته واناقته.. بل و"حوش" فلوس العيدية ليشتري بدلة تشبه بدلة اميتاب بينما ينسحب الكبار والشباب ومعهم "كوبيات الشاي بنعناع" إلى "البرندة" التي لا يغادروها إلا للصلاة في الزاوية أو الدخول إلى الصالون حينما يأتي ضيف والذي تقدم له بجانب القهوة والشاي شوكولاته "كوفرتينا" وزجاجة "الشويبس" بتاع "حسن عابدين وسره اللي لسه محدش عرفه لحد دلوقتي" كواجب الترحيب.. اما السيدات فينسحبن إلى الغرفة الكبيرة في البيت.. للقيلولة بعد يوم طويل مرهق وأيضا للثرثرة الجميلة.. أيام لم يكن فيها خوف أو حزن.. قبل أن يزورنا الزمان ويسرق منا فرحتنا والراحة والأمان.. هكذا كان العيد في البيت الكبير.. قبل أكثر من أربعين سنة.. ( عتبة الدار )!.. ●"آذان الفجر".. مصحوبا بصوت الكروان والندى المتساقط على الشجر.. في مثل هذا الوقت... تحديدا؛ تضيء "جدتي هانم" لمبة الغرفة الصفراء، بينما يخرج "جدي" بطوله الفارع، ويزاحم ضوء اللمبة.. ليقف على عتبة الدار محدقا بشجرة التوت.. هكذا دون سبب أو مناسبة، يقف فقط، يحدق، يرتب يومه ويسكت، قبل أن "يتوضأ ويسبح ويستغفر" قبل ان يواصل صمته الدائم.. ثم يصلي خفيفا مثل فرس النبي في "الزاوية العتيقة".. التي قام ببنائها في نهاية المنزل في الجانب المطل على الترعة بينما تعلو رائحة القهوة المرة وتفوح في المكان!.. جدتي على ركبتيها.. "برطمان قهوة"، "شوية لبن"، "صحن جبنة قريش"، طماطم، "رغيف عيش ملدن" تم خبيزه بالأمس في الفرن القابع بالجرن، "إبريق شاي أزرق"، حلاوة، كوباية شاي ماركة الوزة، صينية ألمنيوم تتناسب مع عدد الصحون.. تفاصيل فجرها الشهي.. ويزداد صمت جدي المضاعف!.. يجلس على "الكنبة العتيقة" ويقرأ من مصحفه الأخضر وكتاب الورد العتيق الخاص به..ثم يسحب من جواره "راديو ترانزيستور صغير".. يتأكد أن المؤشر على "إذاعة القرآن الكريم".. يخرج صوت السلام الجمهوري ثم صوت الشيخ محمد رفعت لا يتحرك إلا عندما يخبط "أبو سويلم" - أمينه وآخر ما تبقى من رجاله في نهاية رحلة عمر - على باب البيت.. حاملا معه عدد اليوم من "صحيفتي الاخبار والأهرام".. يحرك مؤشر "الترانزيستور" على البرنامج العام حين يبدأ المذيع بقراءة نشرة الأخبار، ويبدأ هو في قراءة "الأخبار" من الخلف وتحديدا مع عمود "فكرة" لمصطفى امين قبل ان ينتقل الى "الأهرام" وأيضا يقرأ من الخلف حيث صفحة الوفيات، ويبدأ بتحديد قرى الموتى و إلى أي عائلات يتبعون مرة إختلف جدي مع جدتي.. على أن عشيرة أبو عطية ليست ذاتها عشيرة أبو عطا، وأخذ يشرح لها بشكل مطول، وفي النهاية قالت له جدتي بطيبتها وبساطتها: "ماعلينا يا حاج... يصطفوا مع بعض".. وتناوله "كوباية شاي"!.. لا أعلم ترتيب "جدتي هانم" بين زوجات جدي، وكان عقلي يتصور وقتها أنها جدتي لأبي، لم أحضر في حياة "فائقة هانم" أم أبي!.. كنت أستغرب هذه "الزيجة" لجدي التي تمت وهو في ما بعد منتصف عقد السبعينيات من عمره وهي بدأت تعد في منتصف عقد الستينيات من عمرها.. ولم تعد هناك أية حسابات، حتى سلطة "العمودية" أو مسائل النسب وغيرها.. حتى أجد تبريرا مقنعا لهذه الزيجة.. إلى أن وقعت إحدى سيدات العائلة بلسانها وحكت!!.. كانت "جدتي هانم".. هي أول ما - شرح قلب - "جدي حسن بونس الحب في بداية الصبا، لكن تصاريف القدر كانت كالعادة لها الكلمة العليا.. توفي العمدة "الجد الأكبر" ففرض كبار العائلة على الإبن الوحيد..أن يكون هو وريث "كرسي العمودية".. وبدأت قواعد وسياسة الحكم وقواعد النسب والمصاهرات القبلية للحفاظ على "العرش" التي تفرض نفسها على أعتى الرجال!.. تمر السنوات وتتلاحق الأحداث والتفاصيل.. ولا ينسى القلب أبدا... "ونسه"!!.. يقرر جدي أن يترك البيت الكبير، ويبني في نهاية سوره وبجوار جرن الفرن، وتحت شجرات النخيل السبعة التي قام بزراعتها بنفسه، بيت بسيط من "الطين" - غرفتين بمنافعهم وفرش فلاحي بسيط جدا.. وسرير نحاس بناموسية؛ كنبتين بلدي؛ حصير؛ نملية؛ قلل؛ زير؛ وابور جاز؛ راكية نار من الفخار.... و"دبلة"......... كتب عليها إسم "هانم"!.. هكذا كان "شوارها" و"مهرها"!!