عمار على حسن حين يسألنى أحد عن تأثير الفنون الأخرى فى نصى السردي، روائيًا كان أو قصصيًا، يتهادى من بعيد كل شيء ظننته مطمورًا فى قيعان الذاكرة المجهدة، الموسيقى والحكايات والصور والرسوم، والموروث الشعبى بملامحه وملاحمه وأساطيره وغنائه ومواويله وألعابه الجماعية التى تكاد تكون حكايات مكتملة بأفعالها وطقوسها وما يتخللها من كلام وانفعال وحوار، وحداء الموت وعديده، وتفنن النساء فى إطلاق عقائرهن بغناء بديع فى الأفراح، وثرثرة الرجال فى الحقول وعلى مصاطب السمر، لاسيما فى الليالى الصيفية المقمرة. كان من الطبيعى أن أسمع قبل أن أقرأ، فمن مذياع فى بيت جدى الذى عشت فيه جزءًا كبيرًا من طفولتي، تهادت الموسيقى، واكتملت الحكايات فى المسلسلات الإذاعية، لاسيما فى ليالى شهر رمضان، حين كنا نضبط عليها مواعيد الجلوس والإصغاء والاستمتاع، وتميز بهذا الشهر الفضيل فى نفوسنا عن سائر الشهور، جنبا إلى جنب مع روحانياته الدينية المعروفة. فى نهار الكدح فى الحقول، كنت مولعًا بالإصغاء إلى حكايات الفلاحين، التى يسلون بها أنفسهم وهم يضربون الأرض بفؤوسهم، بينما أقوم أنا بمهمتى فى جمع الحشائش التى تقضمها الفؤوس، كى تجد بهائمنا ما تقتات عليه. كانت حكايات ينبشون فيها الكثير مما جرى لهم أو لغيرهم، ممن يقاومون ظروفًا صعبة كى يجدوا لأنفسهم موطئ قدم فى زحام الحياة. وفى وجه الرجال تأتى حكايات النسوة القرويات، حين يجتمعن فى الضحى على عتبات البيوت، أو حين يكن ذاهبات إلى الأسواق وعائدات منها، ويحلو الحكى أكثر أمام أفران الخبيز، التى كان يتاح لى أحيانًا أن أنصت إليها وأنا فى البيت، وطالما وجدت نفسى منجذبا إليها، متعللًا بأى مساعدة يمكن أن أقدمها إليهن، أو راغبًا فقط فى السماع، فأجلس على الطرف فوق مقعد متهالك أو حجر سمين، وأمد أذنيَّ إلى الحكايات التى تتهادى من أفواههن، وهن يبحثن فى كدهن عن شيء يعنيهن من تسلية أو تسرية. كنت ألملم هذه الحكايات المتناثرة، وأدعها تستقر فى الذاكرة، لتصير مخزونًا شفاهيًا سرديًا، دون أن أعلم وقتها أننى سأستعيد بعضها حين أجلس للكتابة، فتأتى طيعة، وفق قانون تداعى المعاني، أو تتسرب إلى حكايات أخرى لتكملها، أو تمنحها حيوية، بقدر تلك المبثوثة فى نتاج القريحة الجمعية، والمخيلة الشعبية. لكن الحكاية الأعرض والأعمق والأكثر تأثيرًا كانت هى السيرة الهلالية. كان أبى مولعا بها، سمعها من مصادر شتى، وكان يُلقى على أذنى شذرات منها، سرعان ما اكتملت حين كنت أحرص على الجلوس إلى المذياع بين الكبار، لأسمعها بإذاعة «الشعب» برواية وغناء الشاعر الشعبى جابر أبو حسين لها على ربابته، وتقديمها من قبل الشاعر عبد الرحمن الأبنودى الذى كان بارعًا فى سردها بصوت عميق جذَّاب. لم تكن حكاية فقط، بل شعرًا وموسيقى وصورًا عجيبة، يرسمها الشاعر بقريحته الفريدة، وربابته التى لا تكف عن إطلاق لحنها المميز التى تهيج له المشاعر، وتفيض الرؤى، وينداح الخيال. فى الأفراح كان هناك بارعون أيضًا فى صناعة المواويل، وفى ترتيب أغنيات بالعامية المصرية، تبدو مقفاة كالشعر، لا أنسى منها تلك التى صدح بها الرجال: «يا مركب الحب عومى فى لبن صافى الحق ضاع يا عرب يا قلة إنصافي» أو هذه التى تغنت بها النساء: «هلا بالورد يا يُمة هلابه يا عيش السوق يا مسلى الغلابة». ولا أنسى فنًا شعبيًا كان يتبارى فيه رجلان، كل منهما يمسك فى يده صينية معدنية، يضعها أمام فمه، حتى إن صدح غناء بنظم يبدعه فى التو، تماوج الصوت وصار عميقًا مؤثرًا، يخطف القلوب. كان كل نظم عند أى منهما يأخذ شكل حكاية قصيرة، من واقع الحياة أو بنت الخيال. طالما كنت أنصت إلى الرجلين وهما ينتجان فنًا بديعًا، يأخذ بالنفوس والألباب، فيمسى الناس منه فى شعف وكلف وحبور، ويكون عليهم فى النهاية أن يستملحوا غناء أحدهم، ويعلنوا فوزه. لكن الحفلات الشعبية كان لها وقع مختلف، فقد كانت الواحدة منها تتصاعد كملحمة عظيمة، ولم يكن هذا التصاعد الدرامى المتقن خفيًا على ذهني، وأنا أتابعها فى شغف إنها كانت أول حكاية من لحم ودم أراها وأسمعها، وأدرك كيف تمتد يد محكنة إلى ترتيبها على نحو يصنع طوال الوقت الانجذاب والشوق والشغف والرغبة فى التواصل والوصول، وهو دور الروائى الذى كنت فيما بعد، وأكون. قبل دخول الكهرباء إلى قريتي، وبينما كنت قد وصلت إلى الصف الثالث الإعدادى من رحلتى الدراسية، اشترى البعض أجهزة تلفاز، يشحنون لها بطاريات تكفى لتشغيل الجهاز عدة أيام، وقتها عرفت الدراما التلفزيونية التى علمتنى الكثير فى بناء الحكاية، وترتيب الحوار، وصناعة الحبكة، وخلق الجاذبية، ورسم ملامح الشخصيات، والتعبير عن الموقف بأداء تمثيلى عميق. فى الإعدادية أيضًا عرفت السينما، وكانت هناك ثلاث دور فى مدينة «المنيا»، وقبلها، وذات ليلة زارتنا السينما الريفية، فتلاصقنا فى ساحة إلى جوار الجمعية الزراعية، التى صار جدارها الجانبى شاشة عرض هائلة، شاهدنا فيها فيلم «الحرام» عن رواية يوسف إدريس. فى مثل هذا العمر عرفت ثلاثة من الفنون أيضًا: الرسم والشعر والخط. كانت حصصًا مقررة، ولم أكن بارعًا فى الرسم، إلا صورة واحدة كنت أجيد رسمها، وأكررها فى كراساتى بابتهاج عجيب، ولا أزال حتى الآن فى بعض الأوقات أعيدها مغتبطًا، وهى رسم لبيوت قريتى الخفيضة، يعلوها النخل، ويحوطها الشجر، ويسعى فى شوارعها الناس والدواب، ويحلق فى سمائها اليمام والعصافير. كلما جرفنى الحنين إلى أيامى الأولى، أرسم هذه اللوحة، وأود لو خلعت نعليّ، ودخلت إليها وصرت فيها. كان يجذبنى أيضًا منبر المسجد الوحيد فى قريتنا آنذاك. كان المنبر من خشب الآرو القوي، معشقة فيه أشكال هندسية متناسقة، تتواشج على مهل، فى مقدمتها نحتان من الخشب على هيئة قبتين قصيرتين، وفى أعلاه قوس يرخى على رأس الخطيب، فيضفى هذا على المكان هيبة وراحة فى آن. أما الشعر فقد كان أول لون أدبى حاولت إبداعه، لاسيما فى سن المراهقة، فكنت أراه وحده طريقة التعبير عن مشاعرى الغضة، ووحده الذى يمكن أن أتباهى به أمام الرفاق بأنى قادر على نظم قصائد بسيطة، أقلد فيه ما درسته فى حصص اللغة العربية، وما سمعته فى الإنشاد الديني. أتذكر الأيام الأولى من شهر ربيع، حين تهل على قريتنا مواكب الطرق الصوفية، براياتها ولباس المنخرطين فيها. كنت أسير مع الأطفال خلفها، ثم أسلك طريقى إلى الشخص الذى يمسك فى يده كتابًا، ينشد منه المدائح النبوية والأناشيد الدينية، والمحيطون به يرددون خلفه، وأنا معهم. وفى حضرات الذكر كان الإنشاد يتنوع، بعضه من بطون الكتب، وآخر تجود به قرائح المنشدين، الذى يطلقون عقائرهم الندية مصحوبة بضرب الدفوف، وصوت الأرغول، ونشيج صدور الذاكرين. كنت مولعًا بالانخراط فى الحضرة، أكون على طرفها، فى أى من صفيها المتقابلين. وفى أيام المآتم، كنا على موعد مع موسيقى أخرى مختلفة، تصنعها تلاوة القرآن الكريم. وجاد الزمان على قريتى بمقرئ حسن الصوت، كان قادرًا على أن يجذبنا إلى تلاوته الطلية الندية، فنتمنى ألا ينتهى منها، ومعه عرفنا أن للقرآن موسيقاه الخاصة جدًا، التى ننصت إليها فى خشوع. وسمعنا حداء راكبى الجمال الذى يبعث على بكاء حرور، ونداءات الباعة الجائلين، الذين كانوا يأتون إلى قريتنا ببضائعهم البسيطة، وكان يأتى إلينا أيضًا بعض البهاليل والمريدين والمتسولين، يطلقون مقطوعات شجية، ترق لها قلوب الذين يمدون أيديهم إليهم بأعطيات زهيدة، على قدر طاقتنا. وسمعنا ما كان يُقال بأصوات مؤثرة فى تشييع الجنازات، وأثناء دفن الموتى. أتاحت لى هذه التجربة كلها انفتاحًا على ألوان عدة من الفنون، فلما صرت قادرًا إلى إبداع بعضها، وجدتها تحضر رخية سخية، بما قد ألمسه وأعيه، أو يهديه العقل الباطن، ويكون على النقاد اكتشافه. فكثير ما أسمع من نقاد لرواياتى وقصصى من يتحدثون عن الموسيقى الثاوية، والشعرية المطمورة فى السرد، ومشهدية السينما، وحضور المذاق الشعبي، وصور تتوالى معبرة عن التفاصيل الصغيرة التى تتفاعل لتصنع نصًا قصصيًا أو روائيًا. لم يكن كثير ممن يتصدون، قراءة ونقدًا، لنصوصى القصصية والروائية يعرفون فى وقت مبكر أننى بدأت شاعرًا، إذ لم أتوقف فى نظم القصيد عند مرحلة المراهقة، بل واصلت، وصارت لقصائدى أغراض أخرى غير العلاقات العاطفية، وامتدت من الشعر العمودى إلى الحر، ثم لم تلبث أن توقفت حين أخذتنى القصة من القصيدة، ثم جاءت الرواية، وإن كان السرد لم يعط عندى ظهره للشعر، حتى أن أحد النقاد قال إن الصفحتين الأخيرتين من روايتى «جبل الطير» مثلًا تصلحان قصيدة نثر، ويقال عن روايتى «شجرة العابد» أنها قصيدة محكية. وبينما يهجر الشعراء قصائدهم إلى كتابة الرواية، قمت بهجرة عكسية، فأصدرت ديوانًا جمع قصائدى القديمة، بعنوان «لا أرى جسدي» ثم أصدرت ديوانًا آخر عنوانه «غبار الطريق»، وهناك ثالث فى الطريق. ولم تستفد قصائدى فقط من قراءتى للشعر، بل أعمالى السردية أيضًا. إننى أعتبر الشعر هو ثانى أهم الفنون بعد الموسيقى، وأؤمن بأنه لا يخلو أدب عظيم، ولا تُحرم فلسفة عميقة من شاعرية، ولو بدرجة بسيطة. والموسيقى، هذا الفن الذى هبط من السماء، ألجأ إليه أحيانًا، أثناء الكتابة، حين أجد اللحن الداخلى صامتًا، ولا تريد أن تنطق به الحروف والكلمات والعبارات. فمع الموسيقى تلتهب المشاعر، وتنجلى النفس، وتنقدح الذائقة، وتصبح الصور والعبارات والذكريات، التى كانت عصيَّة على الحضور، هينة لينة. وربما لهذا، بوعى أو دون وعي، تصبح بعض شخصيات قصصى ورواياتى لديها ولع بالموسيقى، أو تتحول المواقف العصيبة التى تمر بها إلى قطع من اللحن الشجى الحزين، أو تصير مواقفها المفرحة وصلات من الرقص الذى تصدح فيه موسيقى تبعث على النشوة والافتتان. وفى بعض الأحيان أجد نفسى ألحن قصائد أغنيها خاليًا. وأتذكر أننى كنت ذات يوم أغنى فى شرودى قصيدة لأحمد عبد المعطى حجازى من ديوانه «مدينة بلا قلب»، تقول «أنا هنا يا حبيبى أنتظر». كنت مستغرقًا فى الغناء لا أدرك أن هناك من يسمعني. بعض وقت سألنى أحد الجالسين: لمن هذا اللحن؟ ابتسمت يومها، وقلت: ليس لأحد. وفى الرواية والقصة يحضر المكان قويًا لدى مع ألوان الفنون هذه، فما الحياة سوى المكان والزمان والكائنات والمعانى والمشاعر، ومن كل هذا تجرى الوقائع التى تشحن الذكرى بما يجعل للإنسان تاريخًا، ويعطى حياته قيمة. ومع الأماكن هناك الوجوه أيضًا، وهى صور حية اختلطت فى نفسى بألوان من الفنون مثل التطريز والسينما ومناظر الحقول البائرة حتى تخضر وتملأ عينى روعة وبهاء، وتجعلنى أدرك الحكاية الكبرى للحياة كلها على أنها غرس وسعى وحصاد. وهناك وجوه كثيرة قابلتها مصادفة، أو سعيت إليها، أو سعت هى إليَّ، فى مسيرة الحياة التى تطول، عابرة كانت أو مقيمة، لكنها لا تمضى أبدًا عبثًا أو هملًا، إنما تغيب لتحضر، وتغور لتظهر، قد أتأملها وقت رؤيتها، وأمعن النظر إليها، أو أخطف نظرات سريعة منها، لكنها فى كل الأحوال، تشكل اللوحة الاجتماعية الكبرى، التى أنهل منها، وأعرف فضلها. فحين أجلس لكتابة رواية أو قصة، أجد فى أصحاب هذه الوجوه أبطالى وشخصياتى المتنوعة، وحين أنصرف إلى كتابة بحث فى علم الاجتماع السياسي، أجد منها ما يصلح لى عينة أو دراسة حالة أو حتى نموذجًا فرديًا قابلًا للتعميم. لكن هذه الوجوه تتغير، مع كل رواية أو قصة أو كتاب جديد، تأتى وتأخذ مكانها فى السرد أو البحث، طيعة هينة لينة، ثم تمضى إلى حال سبيلها، حتى أننى إن ُسئلت بعد الانتهاء من رواية عن تفاصيل شخصياتها لا أتذكرها على النحو الذى تحل فيه برأس قارئ انتهى للتو منها، وأسأل نفسي، هل كان هؤلاء معى وأنا أكتب؟ من أين جاءوا؟ ولماذا كانوا هم وليس غيرهم؟ ولا أجد إجابة شافية كافية على هذا السؤال، وأحيل الأمر دومًا إلى ما يجود به المخزون المستقر فى العقل الباطن، الذى تتزاحم فيه أنماط من البشر ووجوه ممن قابلتهم أو عبرتهم وعبروني، فى ظروف تتغير بلا هوادة. لكن هناك ثلاثة وجوه لا تفارق مخيلتى أبدًا، كلما جلست لكتابة رواية أو بحث، وجه أبى فى حقله، ووجه سيدة قابلتها مصادفة فى حافلة، ووجه رجل رأيته فى فيلم أمريكى اسمه «الجبل». منهم وحدهم آتى بالمدد، وأتعلم المثابرة والسعى والكد والاجتهاد، وأقاوم الكسل والكلل والملل. وإليهم جميعا أحيل كثيرا مما تعلمته فى الحياة، وحين يسألنى بعض الصحفيين عن غزارة إنتاجي، الذى زاد اليوم عن خمسين كتابا فى الأدب والعلوم الإنسانية، أستحضر الوجوه الثلاثة، وأجد نفسى فى امتنان عميم لأصحابها. يأتى وجه أبى وهو يرفع أول ضربة فأس فى أرض قاحلة ممتدة أمامه، وأنا إلى جانبه، أفعل ما يفعل، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة فى نهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهى الطمى تحت قدميه وخلفهما، مشتاقا إلى البذور لينبت الزرع البهي. ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، ومن الحذف إلى الإصافة، ومن السلب إلى الإيجاب، ومن شبه العدم إلى الوجود الظاهر، ومن القفر إلى الخضرة اليانعة، أى من الخراب إلى العمار. أما السيدة فهى تلك التى رأيتها ذات يوم فى حافلة ركبتها من جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير حيث مكان عملى القريب منه. كنت طالب دراسات عليا أعد أطروحتى للماجستير، وقد جمعت مادتى العلمية حتى وصلت إلى حد التشبع، لكن أصابنى كسل فقعدت أسابيع عن البدء فى الكتابة متهيبا إياها ومستثقلا، إلى أن رأيتها تجلس على مقعد أمامي، وفى يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور الإبرة وأصابعها بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطًا منسوجًا بإحكام، وقدرت أن الخط سيصبح خيوطًا متضافرة، وكل الخيوط ستتجمع فى النهاية لتصنع «بلوفر» تهديه لزوجها أو ابنها أو تبيعه، وتستعين بثمنه على قضاء بعض حوائجها. وقفت أتابع دأبها فى شغف عميق، وتعلمت منها أن تراكم القليل يصبح كثيرًا، وتتابع الصغير يجعله كبيرًا. وقلت لنفسى وأنا واقف أمامها مشدوها: حرف وراء حرف، تولد كلمة، وكلمات تصنع جملة، وعبارات تصبح فقرة، وفقرات تصبح صفحة، وصفحات تصير صفحات فمبحثًا ففصلًا، وفصول تتتابع تخلق كتابًا، يحقق المراد. قبضت على الحكمة التى تعلمتها فى هذا الصباح البارد، وهبطت فى المحطة المبتغاة، وهاتفت مكان عملي، وطلبت إجازة عارضة، وعدت إلى البيت فى الحافلة الراجعة إلى حيث أسكن، وهرعت إلى المعلومات والبيانات والتصورات والأفكار التى كنت قد وزعتها فى «كروت بحثية»، وفق خطة أطروحتي، ووضعتها فى كرتونة كبيرة حتى امتلأت عن آخرها، فأخرجتها جميعا، ووضعتها على طاولة الطعام، والتقطت منها ما يخص النقطة الأولى، فى المبحث الأول، من الفصل الأول، فقرأتها على مهل، وأعدت القراءة، وتركتها بعض الوقت أتأمل ما يموج به رأسى من أفكار، ثم سحبت قلمي، ودفعته إلى أوراق بيضاء أمامي، وأقبلت على الكتابة فى شغف شديد. أما رجل الفيلم فكان عليه أن يصعد الجبل، متجنبا المصير القاسى لسيزيف، حتى يصل إلى كنز هناك يعرف مكانه فى القمة الشاهقة، ويقصده دون غيره، ولا يريد أن ينفك حتى يبلغه. كان يحمل قادوما حديديا فى يده، يضرب به الصخر الصوان حتى يصنع لقدميه موطأ، ثم يرتقيه، وينقر ما هو أعلى، ليحفر موضعا جديدا، ويصعد. كان وجهه يتصبب عرقا غزيرا، ينكسب أحيانا على عينيه، فتغيم منه الرؤية، لكنه لا يفقد اتزانه، يمسح الماء المالح الخارج من جسده، فيرى طريقه من جديد. كان يتعب فيتوقف قليلا، ليلتقط أنفاسه، لكنه لا يلبث أن يعود إلى الضربات المتلاحقة، أقوى مما كانت، متغلبًا على الإجهاد، والغبار، وأحجار صغيرة تسوقها الريح، وذكريات قاسية تداهمه، حتى صار واقفًا فوق القمة، ينظر فى فرح إلى الخلاء تحته، والأرض الصفراء الممتدة بلا نهاية. من يومها كلما بدأت فى كتابة رواية أو كتاب تأتينى صورة هذه السيدة التى لا أعرف اسمها، ممتزجة بصورة أبى مع فأسه أمام الأرض اليباب، والرجل الذى يغلب الصخر، فأمد المسافات بين رجلين متباعدين وامرأة مجهولة، وقرية ومدينة وبادية، وحقل وحافلة وصخر، فيهون كل صعب، ويتيسر كل عسير، وتتوالى المؤلفات، بفضل الله تعالى، الذى علمنى المثابرة من بعض خلقه.