محمد خلفوف لازلت أتذكر ذلك اليوم، عندما كنت طالبا فى السنة الثانية فى كلية الآداب، فى ذلك اليوم ذهبتُ إلى الجامعة لأجل الامتحانات، لكننى وجدت المظاهرات تعم الجامعة. هناك التقيت أحد الأصدقاء الذى أخبرنى أن هنالك مقاطعة للامتحانات (ذكرنى هذا بأجواء روايات جيل الستينيات فى مصر) كان ذلك أحد الأيام القائظة لشهر يناير، لا فائدة من البقاء فى الكلية تحت الشمس وسط ضجيج الطلبة المتظاهرين.. ودعتُ صديقى وعدت إلى المنزل. وجدت أمى قد عادت من المستشفى خائبة كعادتها كلما ذهبت إلى هناك، أخبرتها أن هناك مظاهرات وأنه لا توجد امتحانات، غرفتُ من طنجرة المعكرونة بالصلصة طبقا كبيرا، وجلست آكل بشهية بالغة سعيدا بمقاطعة الامتحانات التى لم أذاكر لها جيدا، ومع آخر لقمة فى الطبق وصلنى إشعار على الهاتف، أخرجته من جيبي، فتحته.. سقطتْ الشوكة من يدى محدثة رنينا على الصحن.. شهقت من الصدمة والفرح.. رسالة من صنع الله إبراهيم! كنت قبل ذلك قد كتبتُ رسالة على الإيميل إلى الروائى المصرى الكبير صنع الله إبراهيم، أتحدث فيها عن إعجابى بنصوصه وبسيرته الروائية، وعن تأثير رواياته عليّ، خصوصا روايته «اللجنة»، الرواية التى قررت بعد الانتهاء من قراءتها أن أصبح كاتباً وأن أتخلى عن دراسة القانون مثلما فعل الأستاذ صنع الله بعد خروجه من المعتقل للتفرغ للكتابة والأدب، وأُصْبِحَ كاتباً. القرار الذى كان جنونيا، لكنه كان يحمل لذة الرغبة فى كتابة نص بديع مثل «اللجنة»، التى بالنسبة لى واحدة من الروايات المثالية، والتى تمنيتُ لو أننى كنت كاتبها. أرفقتُ مع رسالتى بعضا من قصصى القصيرة التى لم تكن قد نشرت بعد. كتبت تلك الرسالة بحب بالغ، لكاتب كبير أُقدره وأحبه، وأقرأ نصوصه بشغف بالغ، بل كنت كلما عثرت على نسخة ورقية منها - بعد مسيرة من القراءة الإلكترونية - دون تردد كأننى عثرت على كنز كبير... لم أتوقع أن صنع الله إبراهيم، واحد من أهم الروائيين العرب، واكثرهم شغبا سيجيب على إيميلى الطفولي، لكنه أجابني.. شكرنى على الرسالة، وعلى تقديرى له، وحدثنى عن محبته للمغرب وكُتابه، والأجمل من ذلك أنه قرأ قصصي، وأشاد بها، وعلى رأسها قصتى «الهم» القصة التى لا أحبها كثيرا، والتى افتخر بها فقط لأن صنع الله إبراهيم بجلالة قدره قد أشاد بها. كذلك كنت قد رسمت له رسمة هى أقرب للخربشة منها إلى الرسمة مستوحاة من بورتريه كاريكاتورى له على غلاف روايته «اللجنة»، فرح بها الأستاذ صنع الله، وشكرنى عليها. ظلت هذه الرسالة واحدة من أجمل الأشياء التى حصلت لى طوال مسيرتى الأدبية، خصوصا ككاتب ناشئ يبحث عن التقدير والإعتراف، ثم يأتيه الإعتراف من واحد من أعظم كتاب مصر والعالم العربى ... إذ ستحصل معجزة، وتنشر نصوصى القصصية تباعاً، بعد رفض طويل، كأنها كانت تنتظر قراءة صنع الله المباركة كى تُنشر... للأسف ضاعت منى رسالة العم صنع الله بعد ضياع ايميلى الأول الذى أرسلتها منه، وقد رغبت بشدة أن أنشرها ككلمة على غلاف مجموعتى القصصية الأولى، التى كانت ستصدر عن دار المستقبل العربى التى يملكها.. لكن لم يحدث نصيب. يبقى صنع الله إبراهيم واحدا من أهم الكتاب الذين قرأت لهم فى حياتي، والذى عرفته عن طريق مسلسل «ذات»، المأخوذ عن رواية له بنفس الإسم، المسلسل الذى كنت أتابعه على إحدى قنوات ال «إم بى سي» منبهرا بأداء نيللى كريم، وباسم سمرة، وإنتصار، جاهلا بصاحب العمل الأصلي، الذى قرأت له بعد ذلك بسنوات، وقرارى المجنون بأن أصبح كاتبا. فى رحلة القراءة قرأت كل روايات صنع الله إبراهيم تقريبا: بدءا برائعته «اللجنة»، مرورا ب: «ذات»، و»شرف»، «بيروت بيروت»، «أمريكانيلي»، « التلصص»، «تلك الرائحة»، «نجمة أغسطس»، «الجليد». وترجماته البديعة: «العدو»، «التجربة الأنثوية». هكذا أُعجبتُ بصنع الله إبراهيم، الذى صار بالنسبة لى أسطورة أدبية حقيقية. ذلك الرجل النحيل، بشعره المنفوش الأبيض، ونظاراته المُدورة، و قمصانه الزرقاء (القمصان التى صرت أحرص على شراءها تقليدا له)، ضحكته الطفولية الجميلة، كتاباته ذات الطابع الكافكاوي، التى تستغرق فى ذكر تفاصيل الأماكن، وأسماء الماركات، والملابس، والأغاني، والأحداث التاريخية، والأرشيفات.. ببراعة أقرب إلى براعة فلوبيرية. صديق سألني: «كيف تقرأ كاتبا يكتب بهذا الكم من التفاصيل؟» قلت: «تلك حلاوة صنع الله إبراهيم!». صنع الله إبراهيم صاحب المشوار الروائى المرموق، والأهم فى العالم العربي. مشوار من النبل والدعم للقضايا الإنسانية والوطنية والدولية. الكاتب الذى لا يخشى من قول آراءه السياسية بكل وضوح و صراحة، الكاتب الذى ناصر بلاده فى لحظاتها السياسية الحاسمة دون جُبنٍ أو خوفٍ. صنع الله إبراهيم الزاهد فى الحياة والشهرة، على حساب الكتابة، الكتابة التى بلا تكلف، أو بهرجة، أو بهارات تجارية، أو محاباة للأنظمة والسُلط. صنع الله إبراهيم الذى أُعده واحداً من أحق كتابنا العرب بجائزة نوبل للأداب. وأهم كتاب العالم على قيد الحياة. علمت مؤخرا بالوعكة الصحية التى ألمت بالعم صنع الله، وقرأت منشورات الكتاب والمثقفين العرب والمصريين حول وضعه الصحي، وحاجته لنقل الدم، وتمنيت لولا بُعْدُ المسافة بين المغرب والقاهرة لتبرعتُ له بدمي. إذ يكفينى شرف أن يجرى دمى فى دم كاتب عظيم مثل صنع الله إبراهيم.. لكن ما باليد حيلة، لا يمكننى سوى مراقبة المشهد من بعيد عبر صفحات الفيس بوك، والدعاء بالشفاء وطول العمر للأستاذ صنع الله. مازالت رسالة صنع الله إبراهيم لى أجمل ما حدث معى طوال مشوارى الأدبي، وما زلت مفتخرا أن صنع الله إبراهيم أعجبته قصصي، وما زلت كلما ضاقت بى الدنيا أقرأ لجيل الستينيات المصري: إبراهيم أصلان، إدوار الخراط، يوسف القعيد، محمد البساطى، جمال الغيطاني، بهاء طاهر.. لكن أقربهم إلى قلبى وإلى ذائقتى القرائية: صنع الله إبراهيم، والراحل إبراهيم أصلان.. أستاذاى المصريان الأولان فى عالم الكتابة. أحبُ كثيرا أن أقرأ أدب صنع الله إبراهيم السياسي، رغم كراهيتى المطلقة للأدب السياسى والمغلف بالأيديولوجية.. ولكنه: صنع الله إبراهيم! وما زلت كلما ذهبت إلى المكتبة العامة أتأمل كتب صنع الله إبراهيم المصفوفة جنبا إلى جنب.. ومازلت أتمنى أن أقابله ذات يوم فى القاهرة، إذ ستكون أول ما أفعله إذا زرت أرض الفراعنة. بالشفاء العاجل للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم.. الرجل الذى عملنى الإخلاص للكتابة والإيمان بقوة الكلمة، وأن الكلمة «شرف» كاتبها، متمنيا أن يجمعنى القدر به ذات يوم، القدر الذى باعد بيننا جغرافيا، لكنه قربنا روحيا عبر الأدب، والكتابة، والقراءة.. فعبر هذا الإمكان المجازى يبقى صنع الله إبراهيم فى متناول اليد، أٌخرج روايته «اللجنة» من بين كتبي، عائدا إلى زمن القراءة الأول قبل عشر سنوات.. عندما كنت أخطو خطواتى الأولى فى عالم الأدب... حين وصلتنى رسالة من صنع الله إبراهيم.